خاطرك وخاطر العلامة ابن الجوزي...!

HAMZAH HAMZAH
1440/12/18 - 2019/08/19 11:34AM

خاطرك وخاطر العلامة ابن الجوزي...!

د.حمزة بن فايع الفتحي

• الخاطر : هو ما يخطر بالقلب من أمر ، أَو رأْي ، أَو معنًى، ويطلق على القلب أو النفس مجازا ..!

• وللعلماء والقراء خواطر تشعّ بالعلم والفوائد والنّوادر والأشعار والمؤلفات والعبقريات والابتكارات ...!

• والخاطر يكون غالبا صدىً للمخزون الثقافي والعلمي والتجاربي الذي جمعه المرء من سنوات أو عقود..! فكلما اتسعت المعلومات اتسع الخاطر حسنا وحذقاً وجمالاً ، وكانت مخاريجه عجائب وروائع وشوارد، قال المتنبي في تمجيد قريحته المتدفقة: أنامُ ملء جفوني عن شوارِدها ....ويسهر الخلقُ جراها ويختصمُ..!

• فربَّ شاعرٍ أفرز خاطرُه درر المطالع ، وعالمٍ أفاض روائع المسائل والاستنباطات ، وحكيم أورق طيّب الحكم، وواعظ نثر حلو المواعظ والتراتيل...!

• فجاءنا العلامة أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله بكتابه الماتع الجميل بعقلِه ورأيه الذي كنَزه في كتابه ( صيد الخاطر )...

• فعلمنا فنون الخواطر، وضرورة تقييدها، وكيف أنها قد تغزر بطيب الكلم والحكم .

• قال في مقدمته : « لما كانت الخواطر تجولُ في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا يُنسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( قيّدوا العلمَ بالكتابة ) ، وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنَح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب» .

• فهو يؤكد في مقدمته نفاسة ما يعرض له، والتأسف على ذهابه وكانت الحكمة تقييده والمحافظة عليه ، واستدل بالحديث المشهور في ذلك.

• واستدلاله بالحديث يؤكد أنها خواطر مردّها للعلم في الغالب، وأنها تأتي من خبرة العالم وطول تجاربه الاطلاعية والفكرية والتأملية في العلم والنَاس والحياة ..!

• وهي تؤكد أن العالم مهما نبغ وانشغل، لابد له من ساعات للتفكر، سماها ( بصر التفكر ) يحسها ويعايشها، حتى يستخرج منها عبر الفرائد، ودروس الاستنباط ، وتوجيهات المواقف، ومخرجات اللقاءات .

• كأوقات يخصها بالتأمل الفقهي الاعتباري، أو ساعات الفراغ والاسترخاء اللاهث وراء الارتياح من عناء ومتاعب وجلَد ..!

• ونبه أن الخاطر أفكاره غير مستقره، وسريعة الانقضاء، والواجب تلقفها بسرعة قبل البكاء عليها، والتألم لفقدانها، وكلما اتسعت ضخامة المعلومات والمعارف التحصيلية للطالب، كان خاطره أكثر ثراءً وإنتاجاً، وأشغل صاحبه بكثرة التقييد والتسجيل .

• وأن تأجيلها لوقت آخر ولو يسيرا، ربما فقدها، وغابت في مراتع النسيان .

• ولذلك كان العباقرة الذين يتفجرون علما وفوائد وخواطر ذهبية، يحملون أقلامهم وقراطيسهم في كل مكان، لئلا يفوتهم شيء، أو تغادرهم حكمة، تشع إشعاعاً، أو تتعالى حُسنا وجمالاً ..!

• والعلماء من أخص الناس وأحظهم بالفكرة وروائعها ، لا سيما (الفقهاء )، أولي البصائر والاستنباط ، ومن ذلك قول العلامة المدقق ابن عقيل الحنبلي رحمه الله صاحب الفنون :( إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أُعمل فكري في حال راحتي، وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطّره ) .

• وكتابه( الفنون ) الضخم المجلدات، الفخم التقريرات : أساس في الخاطر العلمي، وقد مدحه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، فقال:( قال : وكان له الخاطر العاطر ، والبحث عن الغامض والدقائق ، وجعل كتابه المسمى «بالفنون» مناطا لخواطره وواقعاته، من تأمل واقعاته فيه، عرف غور الرجل..).

• وفي مدح ذلك وتعظيمه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : ( الفكرة مخ العقل ).

• وفِي عالم التقنية الحديثة، باتت الجوالات مخزوناً لذلك الثراء الفكري والإنتاج العلمي، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس ( وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) سورة إبراهيم .

• ومن روائعه : كمال العقل : قوله رحمه الله :

( من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدون دنيء !!

ولَم أرَ في عيوب الناس عيباً/ كنقص القادرين على التمامِ..! ص ١٧].

• الندم على ما فات: ‏( كيف بك إذا قُمتَ من قبرك، وقد قُرِّبَتْ نجائب النجاة لأقوام وتعثّرْتَ ، وأسرعتْ أقدام الصالحين على الصراط وتخبّطْتَ؟

هيهات ذهبتْ حلاوة البطالة، وبقيت مرارة الأسف، ونضَب ماء كأس الكسل، وبقي رسوب الندامة) !.

ص (٣٠٦) .

• خطورة ترك العمل: ( المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقَدِمَ مُفلِسًا، مع قوة الحُجة عليه. - ص١٣٨ ]

• التصنع للناس: ( عجبتُ لمن يتصنع للناس يرجو التقرب من قلوبهم ، ونسى أن قلوبهم بيد الله ).

• كنوز الكتب : ( مَا أشْبَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ الكُتُبِ، وَإِذَا رَأيتُ كِتاباً لمْ أَرَه فَكَأَنِّي وَقَعْتُ عَلَى كَنْزٍ ). ص ٣١٨] .

• عمل الصفوة: ( ومن الصفوة أقوام مذ تيقَّظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فهمُّهم صعود وَتَرَقٍّ، كلما عبَروا مقامًا رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا ) . ص ٣٤٢).

• تصحيح القصد: ( ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده؛إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال. وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة، وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلَّا وقت التعب من الحفظ ) . ص٢٩٩ ].

• فضل الصبر: ( اصبروا ، فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات ،

وإن كانت مدموغة، وللباطل جولة ، وللحق صولة ) . ص ١٩٥ ]

• لذة العاصي : ( لا ينال لذة المعاصي إلا سكرانا بالغفلة ) ص ٨١ ].

• علاج المحنة الصعبة :( إذا وقعت في محنةٍ يصعب الخلاص

‏ منها؛ فليس لك إلا الدعاء واللجأ إلى اللّه، بعد أن تُقدّم التوبة من الذنوب ) صـ ٣٥٢) ].

• الطبع السراق : ( ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح ، فإن الطبع يسرق ).⁩ ٦٦٢ ].

• العادة والعبادة : ( تأملت على أكثر الناس عباداتهم، فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة، فعاداتهم عبادة حقيقية، فإنّ الغافل يقول سبحان اللّه عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله ). ص: ٤٠٤].

• ترجيح التأليف على التدريس: ( رأيتُ من الرأي القويم أنّ نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تُحصى ما خلقوا بعد. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدون من مشايخهم ). ص ٣٨٦].

• فن اختيار الزوجة : ( ينبغي للعاقل أن يتخير امرأة صالحة، من بيت صالح، يغلب عليه الفقر، لترى ما يأتيها به كثيرًا، وليَتَزوج من يقاربه في السن ). ص٤٦٦ ]

• التقلل من البغض: ( لاينبغي أن تعادي أحداً، ولاتتكلم في حقه ، فربما صارت له دولة فاشتفى ، وربما احتيج إليه لم يقدر عليه

‏ فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن ، ويستر مافي قلبه من البغض والود ، ويداري من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت ). ص٢٩٧]

• خطاب العامة :( مَنْ المخاطراتِ العظيمةِ تحديثُ العوامِّ بما لا تَحتمِلُهُ قلوبُهم، أَو بِما قد رَسَخَ في نفوسِهِم ضدُّه ). ص: ٦٧٤].

• خطر التأويلات الفاسدة : ( إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة؛ فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرًّك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لِموضع إلف الهوى ). ص:٥٩١ ].

• الثقة المفرطة : ( المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه، واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق. ) ص - ٧٣٠].

• سبب العشق وعلاجه : ( نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتاباً سميته بذم الهوى. وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة ).ص ١٢٠ ].

• فقه الدنيا : ( من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه « وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه ). ص ٢٦].

• سبب تحاسد العلماء: ( تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيتُ منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: « وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ).ص ٣٠] .

• تدبير الله : ( من تأمل أفعال البارىء سبحانه، رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء مرصداً، ولو بعد حين. فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر ).ص ٣٨ ].

• مصائد الشهوات :( تأملتُ في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك، وفخوخ تلف، فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه يسلم، ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته ).ص ٧٧].

• نهاية اللذات :( اللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح. وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال النهاية ). ص ١٩٠ ].

• خطورة فقر العالِم :(وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم: من يداهن ويرائي، ومنهم: من يمدح بما لا يجوز، ومنهم: من يسكت عن منكرات، إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز، وبعد الرياء، إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة ) ص ١٧٦] .

• القيادة للعقل : ( والدنيا مفازة، فينبغي أن يكون السائق فيها العقل، فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه وهواه، فيا عجلة تلفه! هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا، فقس عليه أمر الآخرة، فافهم ). ص ٧٧].

• أطيب العيش : ( وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه، فإن قيل: كيف يعيش معه؟ قلت: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومراعاة حدوده، والرضا بقضائه، وحسن الأدب في الخلوة، وكثرة ذكره، وسلامة القلب من الاعتراض في أقداره، فإن احتجت، سألته، فإن أعطى، وإلا، رضيت بالمنع، وعلمت أنه لم يمنع بخلًا، وإنما نظرا لك، ولا تنقطع عن السؤال؛ لأنك تتعبد به..). ص ٤٦٤].

• مال العوارض :( ومن الحزم جمع المال، وادخاره لعارض حاجة من ذلك، ومن التغفيل إنفاق الحاصل، فربما عرضت حاجة؛ فلم يقدر عليها، فأثر عدمها في البدن، أو في العرض بطلبها من الأنذال! ) ص ٤٦٥ ] .

• وعي السير : ( لما جمعت كتابي المسمى بـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» اطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين والزهاد وغيرهم؛ فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعبًا أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب ..)ص ٤٦٧ ].

• فقه الفتنة : ( ما رأيتُ أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها: «ومن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه» ) ص ٢١٧].

• التوسع في المباحات :( ٦٧٠- واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثيرًا في الدين، فأوثق السكر قبل فتح الماء، والبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه، وإن لم يتيقن )ص ٢١٩] .

• إصلاح السرائر : ( ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة. كما روي عن أنس بن مالك: أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم؛ وإنما كانت له سريرة، فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر) ص ٢٢٠ ].

• رقائق السنن والصالحين :( رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين، فأما مجرد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقة القلب؛ وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق...) ص ٢٢٨] .

• عاقبة رخص الفقهاء :( ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت..)ص ٢٢٩] .

• التصنيف توفيق واسرار : ( فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنف صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار طلع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد) ص ٢٤١].

• صيانة العلم :( وإذا رأي العوام أحد العلماء مترخصًا في أمر مباح، هان عندهم، فالواجب عليه صيانة علمه، وإقامة قدر العلم عندهم، فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك؛ فإذا صرنا؛ يقتدى بنا، فما أراه يسعنا ذلك ) ص ٢٤٥] .

• لذة العلم:( ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى ، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة، شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم...) ص٢٤٨ ] .

• والكتاب لا يزال غاصاً بالفوائد النيرات، والحكم الطيبات، والتجارب العجيبات، فجزى الله مؤلفها خير الجزاء ، وفِي ما اخترناه تذكرة وعبرة، والله الموفق .

المشاهدات 499 | التعليقات 0