حِيَلٌ شَيْطَانِيةٌ 1444/5/1هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ أَشَدَّ الأَعْدَاءِ عَلَى الإِنْسَانِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ الَّذِي امْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُ وَاشْتَدَّتْ ضَرَاوَةُ هَذِهِ العَدَاوَةِ كُلَّمَا مَضَتِ السِّنُونَ وَسَارَتِ الأَيَّامُ, فَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِلإِنْسَانِ عَدَاوَةٌ مُمْتَدَّةٌ مُنْذُ أَنْ خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَـمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ، تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ، عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ» وَالمُرَادُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّأْثِيرُ فِيهِ وَإِضْلَالُهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا قَدْ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى الخَلْقِ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ وَتَنْبِيهِهِمْ إِلَى وَسَائِلِهِ وَطُرُقِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: "يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ"وَقَالَ سُبْحَانَهُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا"وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:وَحَتَّى يَكُونَ الإِنْسَانُ عَلَى حَذَرٍ، هَا هِيَ بَعْضُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَكَائِدِهِ لِيَكُونَ المُؤْمِنُ مِنْهَا عَلَى بَصِيرَةٍ:
فَمِنْ أَسَالِيبِ الشَّيْطَانِ فِي إِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ: إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ لِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ, فَمَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ بِالإِنْسَانِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بِهِ إِلَى فَسَادِ العَقِيدَةِ وَزَعْزَعَةِ الإِيمَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُشَكِّكَهُ فِي أَمْرِ الِاعْتِقَادِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى التَّشْكِيكِ وَالتَّفْكِيرِ فِي ذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا هَذَا الأَمْرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَبَيَّنَ المَخْرَجَ وَالعِلَاجَ فَقَالَ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ وَلْيَنْتَهِ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :وَمِنْ هَذِهِ الأَسَالِيبِ: تَزْيِينُ البَاطِلِ وَإِظْهَارُهُ بِمَظْهَرِ الحَقِّ, إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ بِالبَاطِلِ عَلَى صُورَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ, وَإِنَّمَا دَيْدَنُهُ قَلْبُ الحَقَائِقِ، وَطَرِيقَتُهُ تَزْيِينُ البَاطِلِ، وَعَادَتُهُ الإِغْوَاءُ؛ قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ". وَهَذَا البَابُ الشَّيْطَانِيُّ مِنْ أَكْثَرِ الأَبْوَابِ الَّتِي تَمكَّنَ مِنْهَا الشَّيْطَانُ مِنَ الإِنْسَانِ, فَمَا وَقَعَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ إِلَّا مِنْ هَذَا البَابِ, وَمَا كَفَرَ مَنْ كَفَرَ، وَلَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ، وَلَا ابْتَدَعَ مَنِ ابْتَدَعَ، وَلَا عَصَى مَنْ عَصَى، إِلَّا مِنْ قِبَلِ تَزْيِينِ البَاطِلِ وَإِلْبَاسِهِ لُبُوسَ الحَقِّ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :وَمِنْ أَسَالِيبِ الشَّيْطَانِ كَذَلِكَ: تَسْمِيَةُ الأُمُورِ بِغَيْرِ مُسَمَّيَاتِهَا, فَالشَّيْطَانُ سَمَّى الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ آدَمَ عَنْهَا شَجَرَةَ الخُلْدِ، ثُمَّ وَرِثَ أَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَكُلُّ مَنْ سَمَّى المُحَرَّمَ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَهَا هِيَ الخَمْرُ سُمِّيَتْ مَشْرُوبَاتٍ رُوحِيَّةً, وَالرِّبَا فَائِدَةً, وَالقِمَارُ حَظّاً, وَالزِّنَا حُرِّيَّةً شَخْصِيَّةً, وَالرَّقْصُ وَالمَيَاعَةُ وَالخَلَاعَةُ فَنّاً, وَالإِفْسَادُ فِي الأَرْضِ جِهَاداً، وَإِهَانَةُ النَّاسِ وَتَتَبُّعُ عَوْرَاتِهِمْ وَالحَطُّ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ سَمُّوهُ حُرِّيَّةَ تَعْبِيرٍ، وَهَكَذَا.وَيَدْخُلُ فِي هَذَا البَابِ أَيْضاً تَسْمِيَةُ الأُمُورِ المَشْرُوعَةِ وَالفَرَائِضِ وَالمَنْدُوبَاتِ بِغَيْرِ اسْمِهَا، كُلُّ ذَلِكَ لِصَدِّ النَّاسِ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَدِينِهِ. وَإِلَّا بِمَاذَا نُفَسِّرُ مَنْ يُسَمِّي التَّدَيُّنَ تَشَدُّداً, وَتَطْبِيقَ السُّنَنِ تَخَلُّفاً, وَحِجَابَ المَرْأَةِ رَجْعِيَّةً؟! فَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ انْتِكَاسُ المَفَاهِيمِ وَاخْتِلَالُ المَعَايِيرِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:وَمِنْ خُطُوَاتِ الشَّيِطَانِ كَذَلِكَ إِيقَاعُ النَّاسِ فِي الإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ, قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ وَتَفْرِيطٌ, وَإِمَّا إِفْرَاطٌ وَغُلُوٌّ، فَلَا يُبَالِي بِمَا ظَفِرَ مِنَ العَبْدِ مِنْ أَيِّ الخَطِيئَتَيْنِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا وَجَدَ فِي الإِنْسَانِ تَقْصِيراً أَوْ فُتُوراً دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا البَابِ فَثَبَّطَهُ وَكَسَّلَهُ، وَفَتَحَ لَهُ بَابَ التَأْوِيلَاتِ وَالرَّجَاءِ حَتَّى يَتْرُكَ العَبْدُ الوَاجِبَاتِ وَيَقَعَ فِي الـمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا وَجَدَ فِيهِ نَشَاطاً وَهِمَّةً دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا البَابِ، فَلَمْ يَزَلْ يَغُرُّهُ وَيُغْوِيهِ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَا يَكْفِي، وَيَحُثُّهُ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الطَاعَةِ, حَتَّى يَجْعَلَهُ لَا يَهْنَأُ بِنَوْمٍ، وَلَا يُؤَدِّي حَقَّ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلَ العَبْدَ حِينَئِذٍ فِي بَابِ الغُلُوِّ وَالبِدْعَةِ. وَالسَّلَامَةُ مِنْ هَذَا المُنْزَلَقِ الخَطِيرِ هُوَ سُلُوكُ طَرِيقِ الوَسَطِ وَالعَدْلِ؛ قَالَ تَعَالَى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:إِنَّ التَّسَلُّطَ عَلَى العِبَادِ بِالتَّسْوِيفِ مِنْ أَسَالِيبِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ مِنَ التَّسْوِيفِ أَيَّمَا تَحْذِيرٍ، وَالتَّسْوِيفُ هُوَ قَوْلُ العَبْدِ سَوْفَ أُصَلِّي، وَسَوْفَ أَتَصَدَّقُ، وَسَوْفَ أَحُجُّ، وَسَوْفَ أَتُوبُ حَتَّى يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ عَلَى المُوَاصَلَةِ, وَالحَبْلُ عَلَى البُلُوغِ، وَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ».
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :إِنَّ الـمَخْرَجَ مِنْ هَذَا البَلَاءِ وَالمُنْجِيَ مِنْ هَذِهِ الفِتْنَةِ يَكْمُنُ فِي الإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَالـمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ الـمَعَاصِي وَالـمُحَرَّمَاتِ، وَالإِقْبَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ - كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»، وَمِمَّا يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ: الإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الطَّارِدَةِ لِلشَّيْطَانِ، وَمِمَّا يُنَجِّي مِنْ مَكَائِدِهِ أَوَّلاً وَآخِراً: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَإِخْلَاصُ العِبَادَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ".
المرفقات
1668932886_الرجيم.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق