حياةُ شاب من مدرسة النبوة

إبراهيم بن صالح العجلان
1433/08/14 - 2012/07/04 21:48PM
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
انْقَضَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، بَعْدَ أَنْ خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا عَشَرَاتٍ مِنَ الْمَوْتَى وَالْجَرْحَى؛ فَقَامَ رَسُولُ الْهُدَى يَتَفَقَّدُ إِخْوَانًا لَهُ قَدْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَآخَرِينَ يَئِنُّونَ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ.
قَامَ رَسُولُ الْهُدَى يَمْشِي الْهُوَيْنَى قَدْ هَدَّهُ الْإِعْيَاءُ، وَعَلَتْهُ الْجِرَاحُ، عَلَى حَالٍ يَتَكَسَّرُ لَهَا الْقَلْبُ؛ قَدْ شُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَغَارَتْ حَلَقَةُ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ، وَأُصِيبَ كَتِفُهُ بِضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ.
مَشَى رَسُولُ اللهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، يُعَرِّجُ عَلَى الْأَجْسَادِ الطَّاهِرَةِ، وَالْقُلُوبِ الْوَفِيَّةِ، يَتَفَقَّدُ رِجَالًا بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ نُصْرَةً لِدِينِ اللهِ، وَرَخُصَتْ أَنْفُسُهُمْ طَلَبًا لِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
مَرَّ بِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ حَتَّى إِذَا حَاذَى أَحَدَهُمْ وَقَفَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَدَمَعَتْ لَهُ عَيْنُهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ إِلَى السَّمَاءِ، يَلْهَجُ لَهُ بِدَعَوَاتٍ صَادِقَةٍ، وَابْتِهَالَاتٍ مُؤَثِّرَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} فَبَيْنَ يَدَيْ مَنْ كَانَ هَذَا الْمَوْقِفُ؟ وَلِمَنْ كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ؟
مَنْ ذَلِكُمُ الشَّهِيدُ الَّذِي اسْتَوْقَفَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتَعْبَرَهُ؟
وَكَيْفَ قَضَى نَحْبَهُ وَوَفَّى مَا عَلَيْهِ؟ مَا خَبَرُهُ ؟ مَا شَأْنُهُ وَنَبَؤُهُ؟
أَمَّا مَنْ كَانَ؟ فَهَلُمَّ نَسْأَلْ سِيرَتَهُ، وَنَسْتَنْطِقْ خَبَرَهُ وَتَضْحِيَتَهُ .
فَنَحْنُ الْيَوْمَ مَعَ الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ، وَالدَّاعِيَةِ الْمُوَفَّقِ المُسَدَّدِ، مَعَ مَنْ ؟ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ.
مَعَ رَجُلٍ أَعْجَبَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَهُمْ مَنْ هُمْ فِي الزُّهْدِ وَالتُّقَى وَالْإِيمَانِ.
يَعْجَزُ اللِّسَانُ، وَيَعْجُمُ الْبَيَانُ، وَيَضِيقُ الْمَقَامُ أَنْ نُوَفِّيَ هَذَا الْعَلَمَ حَقَّهُ؛ فَلَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُ عَجَبًا مِنَ الْأَعَاجِيبِ، وَإِنَّمَا حَسْبُنَا أَنْ نَسْتَنْطِقَ صَفَحَاتٍ قَلِيلَةً مِنْ حَيَاتِهِ المُثيرة ؛ فَبِسَيْرِ هَؤُلَاءِ تَزْدَادُ الْأُمَّةُ ثَبَاتًا وَحَزْمًا، وَهُدًى وَعِلْمًا، وَهِمَّةً نَحْوَ الْمَعَالِي، وَعَزْمًا يُزِيلُ الْوَهَنَ وَالتَّوَانِيَ {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

_ أَوَّلُ صَفْحَةٍ نَسْتَعْرِضُهَا فِي حَيَاةِ مُصْعَبٍ عُنْوَانُهَا: "مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ":
تُحَدِّثُنَا عَنْ مُصْعَبٍ شَوَارِعُ مَكَّةَ وَطُرُقَاتُهَا، أَسْوَاقُهَا وَنَوَادِيهَا، يُحَدِّثُنَا عَنْهُ أَرِيجُ الْمِسْكِ وَالْأَطْيَابِ، وَنَاعِمُ الْمَسْكَنِ وَالثِّيَابِ، وَلَذِيذُ الْمَطْعَمِ وَالشَّرَابِ، تُحَدِّثُنَا عَنْهُ فَتَيَاتُهَا اللَّوَاتِي طَالَمَا تَمَنَّيْنَهُ، وَشَبَابُهَا الَّذِينَ كَانُوا يَغْبِطُونَ عَيْشَهُ، كُلُّ أُولَئِكَ عَرَفُوا مُصْعَبًا شَابًّا مُغْرَقًا فِي التَّرَفِ، وَالْبَذَخِ، وَالدَّلَالِ.
دَلَالُ مَنْ؟ دَلَالُ أُمِّهِ الَّتِي كَانَتْ أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ ثَرَاءً وَمَالًا.
لَبِسَ مُصْعِبٌ أَفْخَرَ الثِّيَابِ، وَتَعَطَّرَ بِأَحْسَنِ الْعِطْرِ، وَتَمَيَّزَ عَلَى شَبَابِ مَكَّةَ بِالْمَظْهَرِيَّةِ وَالْأَنَاقَةِ؛ حَتَّى غَدَا ذِكْرُهُ عَلَى لِسَانِ الْمُعْجَبِينَ وَاْلمُعْجَبَاتِ.
عَاشَ مُصْعَبٌ هَذِهِ الْمَظْهَرِيَّةَ قِطْعَةً مِنْ حَيَاتِهِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلَةٍ سَامِقَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَكَانَ أَوّلُ لِقَاءٍ بَيْنَ مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمْ يَنْفَضَّ هَذَا اللِّقَاءُ إِلَّا وَمُصْعَبٌ يَتَشَهَّدُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَهْتِفُ بِـ"لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ".
فَإِذَا شُعَاعُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ يُبَدِّدُ وَيُهَوِّنُ كُلَّ مَبَاهِجِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِ مُصْعَبٍ، فَعَلِمَ الشَّابُّ ابْنُ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقَّةَ لَيْسَتْ فِي الْغِنَى وَالتَّرَفِ، وَلَيْسَتْ فِي السُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَلَيْسَتْ فِي التَّفَاخُرِ فِي الْمَرْكَبِ، وَالتَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ.
هُنَا تَحَوَّلَ مُصْعَبٌ مِنْ شَابٍّ يَعِيشُ لِلَّذَّةِ، وَيَحْيَا لِلْمُتْعَةِ، إِلَى رَجُلٍ يَحْمِلُ هِمَّةً تُنَاطِحُ الْجِبَالَ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا *** تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَادُ
أَسْلَمَ مُصْعَبٌ؛ فَكَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَتَحَوَّلَ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ، تَحَوَّلَ مِنَ الْغِنَى الْفَاحِشِ إِلَى الْفَقْرِ الْمُعْضِلِ، تَحَوَّلَ مِنَ التُّخْمَةِ إِلَى الشَّظَفِ وَالْخَمَاصَةِ، تَحَوَّلَ مِنْ بِسَاطِ الْحَرِيرِ إِلَى خُشُونَةِ الْحَصِيرِ.
اِخْتَارَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِإِرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ قَدِ امْتَلَأَ بِحُبِّ اللهِ، وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ، فَصَغُرَتْ فِي عَيْنِهِ الدُّنْيَا وَهَانَتْ؛ فَلَمْ يُبَالِ: أَفْتَقَرَ أَمِ اغْتَنَى، أَشَبِعَ أَمْ جَاعَ، أَتَحَلَّى بِفَاخِرِ الثِّيَابِ أَمِ اكْتَسَى بِالْكَفَافِ، وَلِسَانُ حَالِهِ {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}
أَقْبَلَ مُصْعَبٌ يَوْمًا بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَقْبَلَ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ قَدْ وَصَلَهَا بِإِهَابٍ يَسْتُرُ بِهَا بَدَنَهُ النَّحِيلَ، فَرَآهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ , فَحَنَوْا رُؤُوسَهُمْ رَحْمَةً لَهُ، وَذَرَفَتْ عُيُونُهُْم دَمْعًا شَجِيًّا رِقَّةً لِتَغَيُّرِ حَالِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدّ َعَلَيْهِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّلَامَ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (الْحَمْدُ للهِ يُقَلِّبُ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا, لَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا -يَعْنِي مُصْعَبًا- وَمَا بِمَكَّةَ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ أَنْعَمُ عِنْدَ أَبَوَيْهِ نَعِيمًا مِنْهُ, ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ ذَلِكَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ وَحُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ).
رآهُ عُمَرُ يَوْمًا فِي ثِيَابٍ بَالِيَةٍ، وَهَيْئَةٍ رَثَّةٍ، فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: (اُنْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يَغْذُوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَيْهِ حُلَّةً اشْتُرِيَتْ لَهُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهِمٍ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ).

_ وَصَفْحَةٌ أُخْرَى مِنْ صَفَحَاتِ حَيَاةِ مُصْعَبٍ تَقُولُ : الْبَلَاءُ قَدَرُ اللهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }
ذَهَابُ الْأَمْوَالِ ابْتِلَاءٌ، حَيَاةُ الْجُوعِ ابْتِلَاءٌ، قَطِيعَةُ الْأَقَارِبِ ابْتِلَاءٌ، السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالّأَذِيَّةُ فِي الدِّينِ ابْتِلَاءٌ.
كُلُّ هَذِهِ الْبَلَايَا اجْتَمَعَتْ ثُمَّ أَتَتْ صَفًّا وَاحِدًا عَلَى مُصْعَبٍ حِينَ آمَنَ، وَلَكِنَّهَا تَحَطَّمَتْ أَمَامَ صَخْرَةِ إِيمَانِ مُصْعَبٍ.
تُحَدِّثُنَا كُتُبُ السِّيَرِ أَنَّ أُمَّ مُصْعَبٍ حِينَ بَلَغَهَا خَبَرُ إِسْلَامِ وَلَدِهَا اسْتَخْدَمَتْ كُلَّ وَسَائِلِ التَّهْدِيدِ، مِنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَالْهُجْرَانِ وَتَقْيِيدِ الْحَدِيدِ، وَمَنْعِهِ الْمَالَ، وَأَخِيرًا طَرْدِهِ مِنَ الدَّارِ.
وَتُحَدِّثُنَا كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَيَّامَ حِصَارِ الشِّعْبِ قَدْ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِرَارًا مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ حَتَّى حَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى الْأَكْتَافِ مِنَ الْإِرْهَاقَ.
وَتُحَدِّثُنَا كُتُبُ السِّيرَةِ: أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَحَدُ الْكَوْكَبَةِ اللَّامِعَةِ الَّتِي هَجَرَتِ الْأَوْطَانَ، وَاخْتَارَتِ اللُّجُوءَ السِّيَاسِيَّ لِلْحَبَشَةِ فِرَارًا بِدِينِهَا مِنْ بَطْشِ قُرَيْشٍ وَتَعْذِيبِهَا.
فَمُصْعَبُ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَظُوا بِشَرَفِ الْهَجْرَتَيْنِ، فَاسْتَحَقَّ مُصْعَبٌ وِسَامًا لَا يَعْلُوهُ وِسَامٌ، وَشَرَفًا لَا يَمْحُوهُ زَمَانٌ، وَلَا يُنْسَى مَعَ الْأَيَّامِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- مَادِحًا أُولَئِكَ الرِّجَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

_ وَصَفْحَةٌ أُخْرَى مِنْ حَيَاةِ مُصْعَبٍ: هِيَ الصَّفْحَةُ الَّتِي بَرَزَ فِيهَا مُصْعَبٌ، وَتَأَلَّقَ فِيهَا مُصْعَبٌ، صَفْحَةُ حَمْلِ هَمِّ هَذَا الدِّينِ.
لَقَدْ كَانَتْ مَحَبَّةُ تَبْلِيغِ الدِّينِ، وَإِيصَالِ الرِّسَالَةِ الْحَقَّةِ لِلْآخَرِينَ هَمّاً طَالَمَا تَلَجْلَجَ بَيْنَ جَنَبَاتِ مُصْعَبٍ؛ حَتَّى عَرَفَ فِيهِ النَّبِيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الرَّغْبَةَ الْجَامِحَةَ؛ فَرَشَّحَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَكُونَ مَبْعُوثَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ فَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ خَيْرَ مُعَلِّمٍ، وَأَنْجَحَ دَاعِيَةٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ.
دَعَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِحَالِهِ قَبْلَ مَقَالِهِ، كَانَتْ أَخْلَاقُهُ وَابْتِسَامَتُهُ دَعْوَةً صَامِتَةً لِلدِّينِ.
دَخَلَ مُصْعَبٌ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً، فَلَمْ تَمْضِ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمَتْ بُيُوتُ الْمَدِينَةِ كُلُّهَا، رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا، كِبَارُهَا وَصِغَارُهَا، سَادَتُهَا وَأَتْبَاعُهَا، الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ مُصْعَبٍ.
وَمَنِ الْأَنْصَارُ؟ إِنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، إِنَّهُمْ بِطَانَةُ خَيْرِ الْأَنَامِ، بَيْنَ أَكْنَافِهِمْ عَاشَ الْمُصْطَفَى وَأَقَامَ، وَمِنْ أَرْضِهِمْ سَارَتْ جَحَافِلُ الْإِسْلَامِ، دَعَا لَهُمْ مَنْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ) .
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ، أَسْمَاءٌ لَامِعَةٌ فِي سَمَاءِ الْإِسْلَامِ، كُلُّ أُولَئِكَ تَلَامِيذُ فِي مَدْرَسَةِ مُصْعَبٍ، وَكُلُّ أَعْمَالِ أُولَئِكَ حَسَنَاتٌ تُصَبُّ فِي مِيزَانِ مُصْعَبٍ.
فَهَنِيئًا ثُمَّ هَنِيئًا لِأَبِي عَبْدِ اللهِ بِشَارَةَ حِبِيبِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَئِنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رِجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ).

_ وَصَفْحَةٌ أُخْرَى صَادِقَةٌ فِي حَيَاةِ مُصْعِبٍ:
مُصْعَبٌ حَامِلُ الْقُرْآنِ الَّذِي طَالَمَا لَهَجَ لِسَانُهُ بِقَوْلِ رَبِّهِ: (لَا تَجِدْ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنُْه).
لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ عَقِيدَةً رَاسِخَةً فِي قَلْبِ مُصْعَبٍ، فَضَرَبَ لِلْأَجْيَالِ أَمْثِلَةً حَيَّةً فِي الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
لَمْ يَضْعُفْ مُصْعَبٌ وَلَمْ يَلِنْ، وَلَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِ الْعَاطِفَةُ وَالْحَنَانُ أَمَامَ تَوَسُّلَاتِ أُمِّهِ وَوَعْدِهَا وَوَعِيدِهَا، بَلْ هَجَرَ أُمَّهُ وَأَقَارِبَهُ، وَاصْطَفَّ فِي حِزْبِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ.
تُحَدِّثُنَا كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ أُمَّ مُصْعَبٍ حِينَ عَلِمَتْ بِإِسْلَامِ وَلَدِهَا حَلَفَتْ أَلَّا تَأْكُلَ، وَلَا تَشْرَبَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، فَكَانَتْ تَقِفُ فِي الشَّمْسِ حَتَّى تَسْقُطَ مَغْشِيًّا عِلِيْهِا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرْ مُصْعَبٌ وَلَمْ يَرْضَخْ لِطَلَبِهَا.
وَيَوْمَ بَدْرٍ حَفِظَ الصَّحَابَةُ وَنَقَلُوا: أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ مَرَّ بِأَنْصَارِيٍّ قَدْ أَسَرَّ أَخًا شَقِيقًا لِمُصْعَبٍ، فَقَالَ مُصْعَبٌ لِلْأَنْصَارِيِّ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ؛ فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ، فَقَالَ أَخُو مُصْعَبٍ: هَذِهِ وِصَايَتُكَ بِي يَا أَخِي!!
فَقَالَ مُصْعَبٌ ـ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى الْأَنْصَارِيِّ ـ : إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الْفَتْحِ: 29] بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
الشَّجَاعَةُ وَالثَّبَاتُ، وَالْبُطُولَةُ وَالتَّضْحِيَاتُ مَعَانٍ تَجَمَّعَتْ فِي شَخْصِيَّةِ مُصْعَبٍ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَصْدُقُ فِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيلَ فَتَزْدَرِيهِ *** وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
عَرَفَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مُصْعَبًا هَيِّنًا لَيِّنًا، رَفِيقًا فِي تَعَامُلِهِ وَعِبَارَاتِهِ
لَكِنَّ هَذَا الْهَادِئَ إِذَا اشْتَدَّ ضِرَابُ الْحَرْبِ انْقَلَبَ مُسَعَّرًا مِغْوَارًا:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا***وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا

سَلْ أُحُدًا وَجَبَلَ الرُّمَاةِ، وَسَائِلْ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ تُجِبْكَ أَنَّ لِمُصْعَبٍ خَبَرًا وَشَأْنًا تَتَصَاغَرُ دُونَهُمَا شَجَاعَةُ الشُّجْعَانِ.
أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ كَبْوَةُ الرُّمَاةِ، وَتَفَاجَئُوا بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَغْشَاهُمْ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ، فَدَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ أَمْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاضْطَرَبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَلْخَلَ صَفُّهُمْ، وَانْقَلَبَ نَصْرُهُمْ، وَشَاعَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَضَعُفَتِ النُّفُوسُ، وَخَارَتِ الْعَزَائِمُ، فَانْكَشَفَ مَنِ انْكَشَفَ،وَأَصْبَحَتْ رَايَةُ الْمُسْلِمِينَ هَدَفًا لِرِمَاحِ الْمُشْرِكِينَ وَسِهَامِهِمْ، وَسُيُوفِهِمْ وَحِجَارَتِهِمْ، وَرَايَةُ الْمُسْلِمِينَ رَاسِيَةٌ ثَابِتَةٌ فِي يَمِينِ الْبَطَلِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يُقَاتِلُ دُونَ سُقُوطِهَا، وَيَسْتَمِيتُ مِنْ أَجْلِ بَقَائِهَا، فَتَأْتِيهِ ضَرْبَةٌ قَاصِمَةٌ فِي يَمِينِهِ، فَتَسْقُطُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَهُوَ يَرَاهَا، فَتَتَهَاوَى الرَّايَةُ فَيَتَدَارَكُهَا مُصْعَبٌ بِشِمَالِهِ، وَهُوَ يُرَدِّدُ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} ، فَتَأْتِيهِ ضَرْبَةٌ أُخْرَى بِالسَّيْفِ فَتَسْقُطُ يُسْرَاهُ وَهُوَ يَرَاهَا، فَتَتَهَاوَى الرَّايَةُ، فَيَسْبِقُهَا مُصْعِبٌ قَبْلَ أَنْ تَسْقُطَ، وَيَضُمُّهَا بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}
فَتَأْتِيهِ الضَّرْبَةُ وَالضَّرَبَاتُ فَيَسْقُطُ عِنْدَهَا صَرِيعًا، قَدْ شَاطَ فِي دِمَائِهِ، وَحَلَّقَتْ رُوحُهُ إِلَى بَارِيهَا، وَسَقَطَتْ بَعْدَ سُقُوطِهِ رَايَةُ الْمُسْلِمِينَ.
نَعَمْ ... سَقَطَ مُصْعَبٌ، وَلَكِنْ سَقَطَ شَرِيفًا عَزِيزًا كَرِيمًا.
سَقَطَ مُصْعِبٌ حِينَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاوِمَ، وَقَدْ وَفَّى وَاللهِ، وَقَضَى مَا عَلَيْهِ.
سَقَطَ حَامِلُ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ سَقَطَتْ يَدَاهُ، أَمَّا نَاظِرَاهُ؛ فَشَاهِدَةٌ لَهُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى صِدْقِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِيمَانِهِ.
عَلَى هَذِهِ الْحَالِ رَآهُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَى الْيَدَانِ مَقْطُوعَتَيْنِ، وَالْجِسْمَ مَلِيئًا بِالطَّعَنَاتِ، وَالتُّرَابَ قَدْ عَلَى جَسَدَهُ وَوَجْهَهُ؛ فَلَمْ يَتَمَالَكْ رَسُولُ الْهُدَى نَفْسَهُ، فَهَاجَتْ عَبَرَاتُهُ وَتَسَاقَطَتْ دَمَعَاتُهُ، وَطَافَ فِي ذِكْرَيَاتِهِ مَنْظَرُ هَذَا الْمَقْتُولِ وَهُوَ فِي تَرَفِهِ وَرَخَائِهِ؛ فَقَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُكَ بِمَكَّةَ، وَمَا بِهَا أَرَقُّ حُلَّةً، وَلَا أَحْسَنُ لُمَّةً مِنْكَ، ثُمَّ هَا أَنْتَ ذَا شَعَثِ الرَّأْسِ فِي بُرْدَةٍ).
ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلصَّحَابَةِ، وَقَالَ عَنْ مُصْعَبٍ وَإِخْوَانِهِ الشُّهَدَاءِ: ((أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ)).
نَعَمْ قَدْ رَحَلَ مُصْعَبُ الْخَيْرِ إلى أُخراه ، وَلَكِنْ لَمْ تَرْحَلْ عَنِ الدُّنْيَا ذِكْرَاهُ؛ بَلْ بَقِيَ اسْمُهُ وَأَخْبَارُهُ يَتَذَاكَرُهَا خَيْرُ جْيلٍ، فَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بَعْدَ مَرِّ السِّنِينَ يُؤْتَى بِإِفْطَارِهِ يَوْمًا وَكَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا أُدْنِيَ مِنْهُ بَكَى وَقَالَ: قُتِلَ أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَتْ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عَجَّلَتْ لَنَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنَّا نُحِبُّ مُحَمَّدًا وَصَحْبَ مُحَمَّدٍ، فَاللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ فِي جَنَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
صِلُوا رَحِمَكُمْ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.
المرفقات

حياة شاب من مدرسة النبوة.doc

حياة شاب من مدرسة النبوة.doc

المشاهدات 4022 | التعليقات 6

أولئك آبائي فجئني بمثلهم..إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
بارك الله فيك ونفع بك..


جزاك الله خير يا شيخ ابراهيم خطبة رائعة
يعجبني فيها وفي خطبك السابقة عنصر التشويق


جزاك الله خيرا


خطبة رائعة وفقك الله وسددك هكذا دائما عودتنا ياشيخ ابراهيم على أسلوب التشويق الرائع لاحرمك الله اجرها


خطبة رائعة فيها فوائد وعبر وتمتاز باسلوب راقي وهذا ما عودنا عليه الشيخ ابراهيم العجلان


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن واﻻه:
جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.