حول قول النبي صلى الله عليه وسلم ( العين حق ) ألقيت في 1418/5/6هـ ـ
د. عبدالله بن حسن الحبجر
الحمد لله الحكيم الخبير ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو بما تعملون خبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم والله بما تعملون بصير.
نعوذ به سبحانه وبكلماته التامات من شر ما خلق، ومن شر ما ذرأ وبرأ ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وإليه المرجع وإليه المصير .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حتى تنالوا ثوابها وأجرها وتحوزا ثمارها وخيرها.
تقوى الله حصن حصين ودرع مكين من شرور الحاسدين وكيد الشياطين ومكر الأعداء والحاقدين.
( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )
أيها الأحبة في الله: الحسد والتحاسد مجمع الآفات ومستنقع الرذائل والموبقات، ما دخل الحسد في شيء إلا أفسده وشانه، ولا نزع من شيء إلا أصلحه وزانه ، ويكفي في الحسد ضرراً وخطراً، ما يحدث من تباغض وتدابر، وإحن وفتن وتناحر .
لذا فإن حديث اليوم أيها المسلمون ، عن سهم من سهام الحسد القاتلة، وآفة من آفاته الفتاكة ، لوثة مذمومة ، وخصلة حقيرة محمومة تحصل من ضعفاء الإيمان واليقين وربما حصلة من بعض المسلمين.
إنها الإصابة بالعين وما أدراكم ما الإصابة بالعين.
إنها نظر باستحسان مشوب بحسد ومعقوب بضرر.
إنها جمرة ملتهبة وشرارة مستقرة ، تضرم بحطب الحسد.
خاصة عندما تحصل الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن التحصن بالأوراد الشرعية ، والأذكار النبوية ، التي هي الحروز الأمنية والحصون المكينة.
كم تناثرت جثث وتردّت نفوس وتهالكت أجساد ، كل ذلك بسبب العين حتى قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في تاريخه والبزار في مسنده ( أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين ) حديث حسن.
أيها المسلمون: العين حق لا مماراة فيها، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ( العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا ) رواه مسلم
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ثبوت العين من خلال ذكر وصية نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام لأبنائه خوفاً عليهم من الإصابة بالعين ( يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون )
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من كبار المفسرين في تفسير هذه الآية: ( إنه خشي عليهم من العين ، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم) . فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه.
ومن الأدلة على ثبوتها من القرآن الكريم قول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ).
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما (ليزلقونك): أي يعينونك بأبصارهم بمعنى: يحسدونك؛ لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن إصابة العين وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالاستعاذة من العين كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( استعيذوا بالله من العين فإن العين حق ) رواه ابن ماجه والحاكم.
وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه ) رواه أحمد وأبو يعلى وصححه الألباني.
أي: تصيبه فتلازمه حتى يصعد إلى شاهق أو مرتفع فيسقط منه بإذن الله تعالى وتدبيره.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها مالي أرى أجسام بين أخي ضارعة أي: نحيفة. تصيبهم الحاجة؟ قالت: لا ولكن العين تسرع إليهم ، قال: ارقيهم. رواه مسلم
ثم اعلموا عباد الله ، أن العين عينان . عين إنسية وتصدر من البشر وعين جنية تصدر من الجن.
قال الخطابي رحمه الله: عيون الجن أنفذ من الأسنة وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير سورة الفلق في قوله تعالى: ( ومن شر حاسد إذا حسد ) قال: يعم الحاسد من الجن والأنس. فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله.
ومن المعلوم ، أن العين لا تؤثر بنفسها وإنما تؤثر بإرادة الله ومشيئته.
وقد يعين الإنسان نفسه ، وقد يعين غيره ، والعين قد تكون بإرادته وقد تكون بغير إرادته ، ولا يشترط أن يكون العائن مبصراً ، بل قد تكون العين من غير رؤية أو لغائب يوصف له.
وكل ذلك يا عباد الله يستوجب التحصن الدائم بالأذكار كما يستوجب أن يقول من رأى شيئاً يعجبه: اللهم بارك له أو عليه أو فيه ، ما شاء الله تبارك الله، فإن ذلك يقطع تأثير العين بإذن الله تعالى.
ولخطورة العين وضررها ، وعظم جرم من يقصد بها أذية مسلم ، فإن العلماء يرون تعزير من يثبت أنه يصيب بعينه قصداً.
قال ابن القيم رحمه الله ( وقال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء إن من عرف بذلك حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت )
وقال القاضي عياض: قال بعض العلماء ينبغي إذا عرف واحد بالإصابة بالعين أن يجتنب وأن يحترز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس. ويلزمه بلزوم ببته ، وإن كان فقيراً لزمه ما يكفيه ، فضرره أكثر من ضرر الثوم والبصل الذي منعه النبي r من دخول المسجد لئلا يؤذي الناس ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر صلى الله عليه وسلم .
عباد الله: تنبيه وتحذير ، أرى أنه لا بد من الإشارة إليهما في هذا المقام.
أما التنبيه: فإنه يجب على كل مسلم ومسلمة الاعتماد على الله والتوكل عليه سبحانه والاحتماء بجنابه، والتحصن بالأوراد المشروعة في ذلك، ثم لا عليه بما يصاب به من أمراض وأسقام نفسيه كانت أو جسدية، فلا ينبغي للمسلم أن يستسلم للوساوس والشكوك ولا يستجيب لإرجاف المرجفين فكلما أصيب الإنسان بمرض ، أو اعتراه ألم ، لا يتبادر إلى ذهنه سوى الإصابة بالعين ، فيزداد همّاً وغمّاً يسبب ذلكم التفكير ، وبناء على الشك وسوء الظن.
فليس كل داء أو مرض أو تأثر نفسي سببه الإصابة بالعين، وإن كان الاحتراز مطلوب، والرقية مشروعة لكل علة وسقم.
وأما التحذير: فاحذر نفسي وإخواني المسلمين من اتهام الآخرين والاستطالة على أعراضهم وتصنيفهم من العائنين الذين يصيبون بالعين، بمجرد خبر غير موثوق، أو تهمة أو سوء ظن، أو بسبب موقف حصل منه غير متعمد ولا مقصود، فالغيبة ذكرك أخاك بما يكره، والبهتان أشد وأخطر عندما تتهم إنساناً بما ليس فيه.
فاتقوا الله عباد الله واحفظوا ألسنتكم عن الخوض فيما لا يعنيكم، أو يجلب لكم إثماً أو جرماً، ومن ابتلي بشيء من ذلك فليتق الله وليدفع الأذى ويكف الشر عن إخوانه المسلمين باللجوء إلى ذكر الله تعالى والاستعاذة به خاصة عندما يعجبه شيء، أو تتعلق نفسه به؛ فإن العين حق، وأثرها شر، وضرر وجرمها خطير وإثمها عظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق* ومن شر غاسق إذا وقب* ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد إذا حسد) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعمروا قلوبكم بطاعته وحصنوا أنفسكم بذكره وتحقيق عبادته واعلموا أنه جل وعلا بحكمته وقدرته عندما قدر الإصابة بالعين، شرع لنا برحمته سبلاً للوقاية منها قبل وقوعها وسبلاً أخرى لعلاجها عند الابتلاء بها.
أما سبل الوقاية منها:
فأولاً: الاعتصام بالله والتوكل عليه والتحصن بذكره والتحرز بالأوراد والأذكار الشرعية، التي شرعها الله تعالى في الصباح والمساء ، في القيام والقعود والدخول والخروج ، وعند النوم والاستيقاظ والحركة والسكون ، وفي جميع أحوال المسلم فإن الله تعالى رتب على كثير من هذه الأذكار حفظه ورعايته للعبد المسلم.
وكذلك جميع الذكر القولي والفعلي كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما وهي وصية للأمة بعده ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك )
والأذكار بحمد الله تعالى متيسرة في الكتب والنشرات الصغيرة وعبر وسائل البحث العلمية الحديثة.
ثانياً: من وسائل الوقاية من العين قراءة المعوذتين دائماً والاستعاذة من شرور الحاسدين ؛ لما روى أبو سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
ثالثاً: الدعاء بالبركة إذا رأى ما يعجبه ، ويدل لذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي عان أخاه: علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا برّكت. أي: قلت ما شاء الله بارك الله.
رابعاً: ومن وسائل الوقاية أيضاً : ستر ما يُخشى عليه من العين ، فإن العين استشراف النفس نحو ما يعجبها فإذا كان لدى الإنسان ما يخشى عليه من العين ، فعليه أن يحرض على عدم إظهاره وإبرازه ، وكل ذلك مع التوكل التام ، والاعتماد الكامل على الله تعالى ( وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ).
أما علاج العين بعد وقوعها فيتخلص في أمرين اثنين أرشد إليهما نبي الرحمةr.
أولهما: الاستغسال ، وهو أن يطلب من العائن إذا عرف وتم التأكد منه أن يغتسل بالماء ، ويجمع في إناء ويصب على المصاب.
والدليل على ذلك الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ( وإذا استغسلتم فاغسلوا ) وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عامر بن ربيعة أن يغتسل لسهل بن حنيف عندما أصابه بعينه.
الأمر الثاني: من طرق العلاج بالعين، بل من كل الأمراض: الرقية الشرعية فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر أن نسترقي من العين).
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: ( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة ) ، ويقول هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام.
ومن رقية العين: ما ثبت في الصحيح مسلم (باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك باسم الله أرقيك) إلى غير ذلك من الأذكار والأوراد المشروعة.
فاللهم إنا نعوذ بكلماتك التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
نعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ.
ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها. ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
نعوذ بالله من شر ما خلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد.
عائذاً بالله من الشيطان الرجيم ( إن الله وملائكته يصلون على النبي)