حوادث السيارات والتفحيط-2-6-1437هـ-سامي الحمود-المنبر-بتصرف
محمد بن سامر
1437/06/01 - 2016/03/10 21:02PM
[align=justify]فالسيارةُ نعمةٌ منْ نعمِ اللهِ، وأيُّ نعمةٍ! فكمْ قضتْ منْ حاجةٍ، وكمْ أسعفتْ منْ مريضٍ، وكمْ أغاثتْ منْ ملهوفٍ! زيادةً على الطاعاتِ والقُرباتِ، من سيرٍ إلى المساجدِ، أو حجٍ، أو عمرةٍ، أو برِ والدينِ، أو صلةِ رحمٍ، أو عيادةِ مريضٍ، أو طلبِ علمٍ.
ولقدْ أشارَ اللهُ إلى هذهِ النعمةِ المتجددةِ، نعمةِ وسائلِ النقلِ، قبلَ ألفٍ وأربعِ مئةٍ سنةٍ، فقالَ-سبحانه-كما في سورةِ النحلِ: [وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ].
قالَ الشيخُ ابنُ سعدي-رحمه اللهُ-: "[ويخلقُ ما لا تعلمونَ] مما يكونُ بعدَ نزولِ القرآنِ، منَ الأشياءِ التي يركبُها الخلقُ في البرِ والبحرِ والجوِ، ويستعملونَها في منافعِهم ومصالحِهم." انتهى كلامُه. إنها نعمةٌ عظيمةٌ، تستوجبُ شكرَ المنعمِ-سبحانه-، وتسخيرَها فيما يحبُه ويرضاه.
لكننا في هذا الزمانِ، رأينا كيفَ يُحَوِّلُ بعضُ الناسِ هذهِ النعمةَ إلى نقمةٍ، ورأينا الشبابَ يُغامرونَ بالأرواحِ، ويُضحونَ بالأبرياءِ، ويضيعونَ الأموالَ.
وقدِ ازدادتْ الحوادثُ المرويةُ في المملكةِ خلالَ عشرِ سنواتٍ فقطْ بنسبةِ أربعِ مئةٍ بالمئةِ! وخلالَ ثلاثٍ وعشرينِ سنةً بلغَ عددُ المصابينَ في حوادثِ المرورِ بالمملكةِ أكثرَ من نِصفِ مِليونِ مُصابٍ، تُوفي منهم ستون ألفَ إنسانٍ!.
وتتحدثُ الإحصائياتُ عن أكثرَ من أربعةِ آلافٍ ومِئتي حالةِ وفاةٍ سنويًا بالمملكة، وألفٍ ومئتي إعاقةٍ دائمةٍ، وثمانيةِ آلافٍ إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا.
في مَنطقةِ عسيرٍ وحدَها في العامِ الماضي 1436هـ، وقع(32176)اثنانِ وثلاثونَ ألفًا ومئةٌ وستةٌ وسبعونَ حادثًا مروريًا، بمعدلِ(90)تسعينَ حادثٍ يوميًا، ونتجَ عن تلكَ الحوادثِ (900) تِسعُ مئةِ حادثِ وفاةٍ، بمعدلِ(3)ثلاثِ حالاتٍ تقريبًا يوميًا، ونتجَ عنها(2420)ألفانِ وأربعُ مئةٍ وعشرونَ حالةَ إصابةٍ، بمعدلِ(6)ستِ حالاتٍ يوميًا، إنها أرقامٌ مخيفةٌ، يقفُ وراءَها ظواهرُ سيئةٌ: كالسرعةِ، وقطعِ الإشارةِ، والتفحيطِ، وغيرِها.
وإذا تحدثْنا عن ظاهرةِ التفحيطِ والتهورِ بالسيارةِ، فإننا نتحدثُ عن ظاهرةٍ مخيفةٍ مرعبةٍ، لكنها عندَ بعضِ شبابِنا-هدانا اللهُ وإياهم-لعبةً.
شابٌ متهورٌ، يقومُ بحركاتٍ قاتلةٍ، يُصَوِّبُ سيارتَه إلى مجموعةٍ من الجماهيرِ، التي اصطفتْ يمينًا وشمالًا.
وهناكَ مواقفُ وأوقاتٌ، تزدادُ فيها ظاهرةُ التفحيطِ، كالمبارياتِ، والتجمعاتِ، وأوقاتِ الامتحاناتِ، حيثُ ينتشرُ الطلابُ بعد الامتحانِ ما بين مفحطٍ ومتفرجٍ.
لقدْ فُتن كثيرٌ من شبابِنا بهذه الظاهرةِ، فأصبحوا-مع الأسفِ!-يتفننونَ في أنواعِ الحركاتِ المميتةِ، من تربيعٍ وتخميسٍ، وسلسلةٍ واستفهامٍ، بل وحركةُ الموتِ التي يأتي فيها المتحدي من جهتِه بأقصى سرعةٍ، ثم يقابلُ المتحدي الآخرَ وجهًا لوجهٍ، والجبانُ هوَ منْ ينحرفُ عن الآخرِ!.
وقدْ يكونُ كلٌ منهما متهورًا فتقعُ الكارثةُ، كما ذكرَ أحدُ المسؤولين في المرورِ فقالَ: كانَ آخرُ ضحايا هذه الحركةِ شابين، تُوفيَ أحدُهما في الحالِ، ونُقلَ الآخرُ إلى الإنعاشِ.
إخواني الأعزاءُ: للتفحيطِ والتهورِ آثارٌ وأضرارٌ خطيرةٌ على الشابِ والأُسرةِ والمجتمعِ، أولُ هذه الأضرارِ: قتلُ النفسِ، الموتُ، وكفى به ضررًا!.
فالمفحِّطُ وهو يقومُ بهذهِ اللُعبةِ، يُغامرُ بروحِهِ التي يحيا بها، وحواسِّهِ التي يشعرُ بها، وأطرافِه التي يتحركُ بها.
ظاهرةُ التفحيطِ كمْ أزهقتْ من روحٍ، وكمْ فجرتْ من جروحٍ! إنها مسرحيةُ الانتحارِ، فكيفَ يقتلُ العاقلُ نفسَه، أو يَشُلُّ جسدَه؟.
في زيارةٍ لمستشفى النقاهةِ، وقفَ أحدُ الدعاةِ على شابينِ من ضحايا التفحيطِ، مُصابَينِ بالشللِ النِصفيِ، دخلَ الغرفةَ فإذا بالمنظرِ المؤلمِ، على السريرِ الأيمنِ شابٌ عمرُه يوم دخلَ المستشفى عشرون عامًا، ثم أمضى بعدَ الحادثِ أحدَ عشرَ عامًا على السريرِ، قدِ انثنتْ أطرافُهُ، وانحرفتْ رقبتُهُ، وشُلَّتْ حَركتُهُ، فلمْ يبقَ له من الحركةِ سوى نظرةٍ بالعينِ، والتفاتةٍ يسيرةٍ بالعنقِ.
يقولُ الشيخُ: "نظرّ إليَّ، فتغيرتْ ملامحُ وجهِهِ، كأنه يريدُ أنْ يُعبِّرَ لي عن شعورِهِ، لكنه لا يستطيعُ الكلامَ، حاولتُ أنْ أتكلمَ معه، فعجزَ أنْ يُخرجَ كلمةً واحدةً، لمْ أجدْ إلا أنْ أرفعَ أُصبعي إلى السماءِ، لعلي أذكِّره رحمةَ ربِّ العالمينَ، الذي لا يُضيعُ أجرَ الصابرينَ.
ثم التفتُ إلى السريرِ الآخرِ، وإذا بالمصيبةِ الأُخرى، شابٌ دخلَ المستشفى وعمرُهُ أربعةٌ وعشرونَ عامًا، أمضى في المستشفى بعدَ الحادثِ ثماني سنواتٍ، كانَ بجوارِ هذا الشابِ أحدُ الممرضين، معه وعاءٌ فيه طعامٌ سائلٌ، وهو يقومُ برفعِ السائلِ بالمِلعقةِ، فإذا وصلتْ إلى فمِ الشابِ المسكينِ حركَ شفتيهِ ليشربَ، ثم ينتظرُ الملعقةُ الأُخرى".
نقولُ لكلِّ شابٍ: هذه أحوالُهم، فإنْ لمْ تتعظْ وترتدعْ فزُرْهُم، فليسَ منْ رأى كمنْ سمعَ!.
ومنْ أضرارِ التفحيطِ والتهورِ بالسيارةِ التعدي على الآخرينَ، بإزهاقِ أرواحِهم، وتحطيمِ أبدانِهم، وترويعِهم في طرقاتِهم. كمْ منْ رجالٍ ونساءٍ، وأطفالٍ وأبرياء، تحولوا إلى أشلاءَ، بسببِ تهورِ المفحطين!.
يقولُ أحدُ المشاهدينَ: "رأينا شابًا ركبِ مع أحدِ المفحطينَ في أحدِ شوارعِ الرياضِ، وبدأَ التفحيطُ، وبسببِ السرعةِ العاليةِ اختلَ توازنُ السيارةِ، فصارتْ تزحفُ على جنبِها مسافةً طويلةً، ثمَّ اتجهتْ إلى الرصيفِ، وارتطمتْ بقوةٍ في العمودِ، وكانتِ الضربةُ من جهةِ الراكبِ، الذي التفَّ عليه الحديدُ، فكانّ يصرخُ ويستنجدُ بالناسِ: أغيثوني، أخرجوني، ثمَّ بقي قليلًا، وماتَ.
إخواني الكرامُ: من ضحايا التفحيطِ امرأةٌ عمرُها يقاربُ الثلاثينَ عامًا لا تشعرُ بمنْ حولَها، لمْ يبقَ لها منَ الحياةِ إلا التنفسُ والأكلُ عبر أنبوبٍ في أنفِها، وفتحةٍ في حلقِها، وهي على هذهِ الحالِ منذُ أكثرَ من خمسةَ عشرَ عامًا، بعدِ أن صدمتْها سيارةُ أحدِ المفحطين بعدَ خروجِها من المدرسةِ، وعمرُها ثلاثةَ عشرَ عامًا.
وللتفحيطِ أضرارٌ أخرى، تتمثلُ في الخسائرِ الماديةِ في الممتلكاتِ العامةِ والخاصةِ بسببِ الحوادثِ.
كما أنَّ التفحيطَ مفتاحٌ لجرائمَ متعددةٍ، من سرقاتٍ، وأخلاقياتٍ، ومسكراتٍ، ومخدراتٍ، فما إنْ يدخلَ الشابُ عالمَ التفحيطِ حتى يتعرفَ على مجموعةٍ من المنحرفين الذين يفتـحونَ له أبـوابَ الشرورِ.
ومن الأضرارِ أيضا معاناةُ أسرةِ المفحطِ، فقدْ تسببَ كثيرٌ من المفحِّطين في معاناةِ آبائِهم وأمهاتِهم وأفرادِ أسرتِهم، إما بسببِ كونِه مطلوبًا للجهاتِ الأمنيةِ، أو بسببِ مراقبةِ المنزلِ، أو بسببِ الحوادثِ المترتبةِ على قيامِهِ بالتفحيطِ، أو بسببِ السمعةِ السيئةِ التي تلحقُ الأسرةَ بفعلِهِ.
ومنها الزحامُ واختناقُ السيرِ، وتعطيلُ الحركةِ المروريةِ، ووجودُ التجمُّعاتِ الشبابيةِ التي تكون سببًا في الفوضى، والتعدي على الناسِ والممتلكاتِ.
إخواني: لا يشك مَن كان له أدنى رائحةٍ من العلمِ الشرعيِ أنَّ التفحيطَ محرمٌ في الشريعةِ الإسلاميةِ، وأن مرتكبَه مُتوعدٌ بالعقوبةِ؛ جزاءَ إيذائِهِ إخوانَهُ المسلمينَ، قال-تعالى-: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمَاً مُبِينًا].
وفي الصحيحينِ أنه-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-قال: "إِنَّ اللهَ كـرهَ لكمْ ثلاثًا: قِيلَ وقالَ، وإضـاعةَ المالِ، وكثرةَ السؤالِ".
وقدْ أفتتْ اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ في هذهِ البلادِ بحرمةِ التفحيطِ، نظرًا لما يترتبُ على ارتكابِهِ من قتلٍ للأنفسِ، وإتلافٍ للأموالِ، وإزعاجٍ للآخَرينَ، وتعطيلٍ لحركةِ السيرِ.
أعزائي: وإذا نظرنا إلى الأسبابِ والدوافعِ التي تقفُ وراءَ التفحيطِ والتهورِ في قيادةِ السيارةِ، نجدُ أنَّ أبرزَ هذه الأسبابِ ما يلي: ضعفُ الإيمانِ، حبُ الظهورِ والشهرةِ، الفراغُ القاتلُ، تقليدُ رِفقةِ السوءِ ومحاكاتُهم، ضعفُ رقابةِ الأسرةِ، وغفلةُ كثيرٍ من الآباءِ عن أبنائِهم، أو شراءُ السيارةِ للصغارِ منهم، وقد قال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ].
أيها الأحبة: ولنا أنْ نتساءلَ بعد هذا: ما هي أهمُ الحلولِ للتصدي لظاهرةِ التفحيطِ والتهورِ في قيادةِ السيارةِ؟ لعلي أُذكِّرُ ببعضِ الأمورِ التي يمكنُ القيامُ بها لعلاجِ هذهِ الظاهرةِ:
أولا: لا بُدَّ مِن رفعِ الوعيِ بين الشبابِ، والتذكيرِ بأضرارِ هذهِ الظاهرةِ.
أخي الشابُ: إلى متى وأنتَ تغامرُ بروحِكَ وأرواحِ الآخرينَ؟ ألمْ تسمعْ نداءَ ربِكَ، وهو ينهاكَ عن قتلِ نفسِك؟ [وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]؟ أيسرُك أنْ تلقى اللهَ وقد قتلتَ نفسَك بهذا الفعلِ؟.
والمصيبةُ أنَّ بعضَ الشبابِ يموتونَ في بعضِ حوادثِ التفحيطِ على تركِ الصلاةِ، يموتون على المعصيةِ، يموتون على الأغاني المحرمةِ، نعوذُ باللهِ من سوءِ الخاتمةِ.
ثانيا: التفحيطُ ظاهرةٌ جماهيريةٌ في الغالبِ، فالشبابُ المتجمهرونَ المتفرجونَ عليهم جزءُ من المسؤوليةِ والإثمِ فيما يحدثُ من المآسي بسببِ التفحيطِ.
أخي الشابُ: إنك بتجمهرِك تُغري المفحِّطَ بالاستمرارِ في التفحيطِ من جهةٍ، وتعرضُ نفسَك للتلفِ من جهةٍ أخرى.
ثالثا: على الآباءِ دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذه الظاهرةِ، في حسنِ تربيتِهم، ومراقبتِهم لسلوكِ أبنائِهم، وعدمِ تمكينِ الصغارِ منهم من قيادةِ السيارةِ.
رابعا: على الجهاتِ الأمنيةِ دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذهِ الظاهرةِ، فوصيتنا إليهم بذلَ المزيدِ من الجهودِ المباركةِ، وتكثيفَ وجودِهم في الساحاتِ والاجتماعاتِ، وعدمَ التساهلِ في تطبيقِ العقوباتِ.
وهم على كُلِّ حالٍ بشرٌ، ليسو بمعصومينَ، وعملُهم عرضةٌ للنقصِ أو الخطأِ، كغيرِهم منَ الموظفينَ، لكنهم في الجملةِ يقومون بأعمالٍ جليلةٍ من أجل سلامتِنا وسلامةِ أبنائِنا وأُسرِنا، فلا بُدَّ أنْ نتعاونَ معهم ونقفَ صفًا واحدًا.
خامسا: ولمدارِسِنا دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذهِ الظاهرةِ، برفعِ الوعيِ بين أبنائِنا، ومتابعةِ السلوكياتِ التي تصدر ممن يقومون بهذه الظاهرة وتقويمِها، والتعاونِ مع الجهاتِ المختصةِ للقضاءِ عليها.
سادسا: لا بُدَّ منِ تنظيمِ أوقاتِ الشبابِ، وامتصاص طاقاتِهم في النشاطاتِ النافعةِ، أو البرامجِ الترفيهيةِ البريئةِ، عبرَ المراكزِ الدائمةِ والمؤقتةِ، والمخيمات، والملاعب، والأندية الرياضية، وغيرها، نسألُ اللهَ أنْ يُصلحَ الحالَ، واللهُ المستعانُ.
[/align]
ولقدْ أشارَ اللهُ إلى هذهِ النعمةِ المتجددةِ، نعمةِ وسائلِ النقلِ، قبلَ ألفٍ وأربعِ مئةٍ سنةٍ، فقالَ-سبحانه-كما في سورةِ النحلِ: [وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ].
قالَ الشيخُ ابنُ سعدي-رحمه اللهُ-: "[ويخلقُ ما لا تعلمونَ] مما يكونُ بعدَ نزولِ القرآنِ، منَ الأشياءِ التي يركبُها الخلقُ في البرِ والبحرِ والجوِ، ويستعملونَها في منافعِهم ومصالحِهم." انتهى كلامُه. إنها نعمةٌ عظيمةٌ، تستوجبُ شكرَ المنعمِ-سبحانه-، وتسخيرَها فيما يحبُه ويرضاه.
لكننا في هذا الزمانِ، رأينا كيفَ يُحَوِّلُ بعضُ الناسِ هذهِ النعمةَ إلى نقمةٍ، ورأينا الشبابَ يُغامرونَ بالأرواحِ، ويُضحونَ بالأبرياءِ، ويضيعونَ الأموالَ.
وقدِ ازدادتْ الحوادثُ المرويةُ في المملكةِ خلالَ عشرِ سنواتٍ فقطْ بنسبةِ أربعِ مئةٍ بالمئةِ! وخلالَ ثلاثٍ وعشرينِ سنةً بلغَ عددُ المصابينَ في حوادثِ المرورِ بالمملكةِ أكثرَ من نِصفِ مِليونِ مُصابٍ، تُوفي منهم ستون ألفَ إنسانٍ!.
وتتحدثُ الإحصائياتُ عن أكثرَ من أربعةِ آلافٍ ومِئتي حالةِ وفاةٍ سنويًا بالمملكة، وألفٍ ومئتي إعاقةٍ دائمةٍ، وثمانيةِ آلافٍ إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا.
في مَنطقةِ عسيرٍ وحدَها في العامِ الماضي 1436هـ، وقع(32176)اثنانِ وثلاثونَ ألفًا ومئةٌ وستةٌ وسبعونَ حادثًا مروريًا، بمعدلِ(90)تسعينَ حادثٍ يوميًا، ونتجَ عن تلكَ الحوادثِ (900) تِسعُ مئةِ حادثِ وفاةٍ، بمعدلِ(3)ثلاثِ حالاتٍ تقريبًا يوميًا، ونتجَ عنها(2420)ألفانِ وأربعُ مئةٍ وعشرونَ حالةَ إصابةٍ، بمعدلِ(6)ستِ حالاتٍ يوميًا، إنها أرقامٌ مخيفةٌ، يقفُ وراءَها ظواهرُ سيئةٌ: كالسرعةِ، وقطعِ الإشارةِ، والتفحيطِ، وغيرِها.
وإذا تحدثْنا عن ظاهرةِ التفحيطِ والتهورِ بالسيارةِ، فإننا نتحدثُ عن ظاهرةٍ مخيفةٍ مرعبةٍ، لكنها عندَ بعضِ شبابِنا-هدانا اللهُ وإياهم-لعبةً.
شابٌ متهورٌ، يقومُ بحركاتٍ قاتلةٍ، يُصَوِّبُ سيارتَه إلى مجموعةٍ من الجماهيرِ، التي اصطفتْ يمينًا وشمالًا.
وهناكَ مواقفُ وأوقاتٌ، تزدادُ فيها ظاهرةُ التفحيطِ، كالمبارياتِ، والتجمعاتِ، وأوقاتِ الامتحاناتِ، حيثُ ينتشرُ الطلابُ بعد الامتحانِ ما بين مفحطٍ ومتفرجٍ.
لقدْ فُتن كثيرٌ من شبابِنا بهذه الظاهرةِ، فأصبحوا-مع الأسفِ!-يتفننونَ في أنواعِ الحركاتِ المميتةِ، من تربيعٍ وتخميسٍ، وسلسلةٍ واستفهامٍ، بل وحركةُ الموتِ التي يأتي فيها المتحدي من جهتِه بأقصى سرعةٍ، ثم يقابلُ المتحدي الآخرَ وجهًا لوجهٍ، والجبانُ هوَ منْ ينحرفُ عن الآخرِ!.
وقدْ يكونُ كلٌ منهما متهورًا فتقعُ الكارثةُ، كما ذكرَ أحدُ المسؤولين في المرورِ فقالَ: كانَ آخرُ ضحايا هذه الحركةِ شابين، تُوفيَ أحدُهما في الحالِ، ونُقلَ الآخرُ إلى الإنعاشِ.
إخواني الأعزاءُ: للتفحيطِ والتهورِ آثارٌ وأضرارٌ خطيرةٌ على الشابِ والأُسرةِ والمجتمعِ، أولُ هذه الأضرارِ: قتلُ النفسِ، الموتُ، وكفى به ضررًا!.
فالمفحِّطُ وهو يقومُ بهذهِ اللُعبةِ، يُغامرُ بروحِهِ التي يحيا بها، وحواسِّهِ التي يشعرُ بها، وأطرافِه التي يتحركُ بها.
ظاهرةُ التفحيطِ كمْ أزهقتْ من روحٍ، وكمْ فجرتْ من جروحٍ! إنها مسرحيةُ الانتحارِ، فكيفَ يقتلُ العاقلُ نفسَه، أو يَشُلُّ جسدَه؟.
في زيارةٍ لمستشفى النقاهةِ، وقفَ أحدُ الدعاةِ على شابينِ من ضحايا التفحيطِ، مُصابَينِ بالشللِ النِصفيِ، دخلَ الغرفةَ فإذا بالمنظرِ المؤلمِ، على السريرِ الأيمنِ شابٌ عمرُه يوم دخلَ المستشفى عشرون عامًا، ثم أمضى بعدَ الحادثِ أحدَ عشرَ عامًا على السريرِ، قدِ انثنتْ أطرافُهُ، وانحرفتْ رقبتُهُ، وشُلَّتْ حَركتُهُ، فلمْ يبقَ له من الحركةِ سوى نظرةٍ بالعينِ، والتفاتةٍ يسيرةٍ بالعنقِ.
يقولُ الشيخُ: "نظرّ إليَّ، فتغيرتْ ملامحُ وجهِهِ، كأنه يريدُ أنْ يُعبِّرَ لي عن شعورِهِ، لكنه لا يستطيعُ الكلامَ، حاولتُ أنْ أتكلمَ معه، فعجزَ أنْ يُخرجَ كلمةً واحدةً، لمْ أجدْ إلا أنْ أرفعَ أُصبعي إلى السماءِ، لعلي أذكِّره رحمةَ ربِّ العالمينَ، الذي لا يُضيعُ أجرَ الصابرينَ.
ثم التفتُ إلى السريرِ الآخرِ، وإذا بالمصيبةِ الأُخرى، شابٌ دخلَ المستشفى وعمرُهُ أربعةٌ وعشرونَ عامًا، أمضى في المستشفى بعدَ الحادثِ ثماني سنواتٍ، كانَ بجوارِ هذا الشابِ أحدُ الممرضين، معه وعاءٌ فيه طعامٌ سائلٌ، وهو يقومُ برفعِ السائلِ بالمِلعقةِ، فإذا وصلتْ إلى فمِ الشابِ المسكينِ حركَ شفتيهِ ليشربَ، ثم ينتظرُ الملعقةُ الأُخرى".
نقولُ لكلِّ شابٍ: هذه أحوالُهم، فإنْ لمْ تتعظْ وترتدعْ فزُرْهُم، فليسَ منْ رأى كمنْ سمعَ!.
ومنْ أضرارِ التفحيطِ والتهورِ بالسيارةِ التعدي على الآخرينَ، بإزهاقِ أرواحِهم، وتحطيمِ أبدانِهم، وترويعِهم في طرقاتِهم. كمْ منْ رجالٍ ونساءٍ، وأطفالٍ وأبرياء، تحولوا إلى أشلاءَ، بسببِ تهورِ المفحطين!.
يقولُ أحدُ المشاهدينَ: "رأينا شابًا ركبِ مع أحدِ المفحطينَ في أحدِ شوارعِ الرياضِ، وبدأَ التفحيطُ، وبسببِ السرعةِ العاليةِ اختلَ توازنُ السيارةِ، فصارتْ تزحفُ على جنبِها مسافةً طويلةً، ثمَّ اتجهتْ إلى الرصيفِ، وارتطمتْ بقوةٍ في العمودِ، وكانتِ الضربةُ من جهةِ الراكبِ، الذي التفَّ عليه الحديدُ، فكانّ يصرخُ ويستنجدُ بالناسِ: أغيثوني، أخرجوني، ثمَّ بقي قليلًا، وماتَ.
إخواني الكرامُ: من ضحايا التفحيطِ امرأةٌ عمرُها يقاربُ الثلاثينَ عامًا لا تشعرُ بمنْ حولَها، لمْ يبقَ لها منَ الحياةِ إلا التنفسُ والأكلُ عبر أنبوبٍ في أنفِها، وفتحةٍ في حلقِها، وهي على هذهِ الحالِ منذُ أكثرَ من خمسةَ عشرَ عامًا، بعدِ أن صدمتْها سيارةُ أحدِ المفحطين بعدَ خروجِها من المدرسةِ، وعمرُها ثلاثةَ عشرَ عامًا.
وللتفحيطِ أضرارٌ أخرى، تتمثلُ في الخسائرِ الماديةِ في الممتلكاتِ العامةِ والخاصةِ بسببِ الحوادثِ.
كما أنَّ التفحيطَ مفتاحٌ لجرائمَ متعددةٍ، من سرقاتٍ، وأخلاقياتٍ، ومسكراتٍ، ومخدراتٍ، فما إنْ يدخلَ الشابُ عالمَ التفحيطِ حتى يتعرفَ على مجموعةٍ من المنحرفين الذين يفتـحونَ له أبـوابَ الشرورِ.
ومن الأضرارِ أيضا معاناةُ أسرةِ المفحطِ، فقدْ تسببَ كثيرٌ من المفحِّطين في معاناةِ آبائِهم وأمهاتِهم وأفرادِ أسرتِهم، إما بسببِ كونِه مطلوبًا للجهاتِ الأمنيةِ، أو بسببِ مراقبةِ المنزلِ، أو بسببِ الحوادثِ المترتبةِ على قيامِهِ بالتفحيطِ، أو بسببِ السمعةِ السيئةِ التي تلحقُ الأسرةَ بفعلِهِ.
ومنها الزحامُ واختناقُ السيرِ، وتعطيلُ الحركةِ المروريةِ، ووجودُ التجمُّعاتِ الشبابيةِ التي تكون سببًا في الفوضى، والتعدي على الناسِ والممتلكاتِ.
إخواني: لا يشك مَن كان له أدنى رائحةٍ من العلمِ الشرعيِ أنَّ التفحيطَ محرمٌ في الشريعةِ الإسلاميةِ، وأن مرتكبَه مُتوعدٌ بالعقوبةِ؛ جزاءَ إيذائِهِ إخوانَهُ المسلمينَ، قال-تعالى-: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمَاً مُبِينًا].
وفي الصحيحينِ أنه-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-قال: "إِنَّ اللهَ كـرهَ لكمْ ثلاثًا: قِيلَ وقالَ، وإضـاعةَ المالِ، وكثرةَ السؤالِ".
وقدْ أفتتْ اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ في هذهِ البلادِ بحرمةِ التفحيطِ، نظرًا لما يترتبُ على ارتكابِهِ من قتلٍ للأنفسِ، وإتلافٍ للأموالِ، وإزعاجٍ للآخَرينَ، وتعطيلٍ لحركةِ السيرِ.
أعزائي: وإذا نظرنا إلى الأسبابِ والدوافعِ التي تقفُ وراءَ التفحيطِ والتهورِ في قيادةِ السيارةِ، نجدُ أنَّ أبرزَ هذه الأسبابِ ما يلي: ضعفُ الإيمانِ، حبُ الظهورِ والشهرةِ، الفراغُ القاتلُ، تقليدُ رِفقةِ السوءِ ومحاكاتُهم، ضعفُ رقابةِ الأسرةِ، وغفلةُ كثيرٍ من الآباءِ عن أبنائِهم، أو شراءُ السيارةِ للصغارِ منهم، وقد قال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ].
الخطبة الثانية
أولا: لا بُدَّ مِن رفعِ الوعيِ بين الشبابِ، والتذكيرِ بأضرارِ هذهِ الظاهرةِ.
أخي الشابُ: إلى متى وأنتَ تغامرُ بروحِكَ وأرواحِ الآخرينَ؟ ألمْ تسمعْ نداءَ ربِكَ، وهو ينهاكَ عن قتلِ نفسِك؟ [وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]؟ أيسرُك أنْ تلقى اللهَ وقد قتلتَ نفسَك بهذا الفعلِ؟.
والمصيبةُ أنَّ بعضَ الشبابِ يموتونَ في بعضِ حوادثِ التفحيطِ على تركِ الصلاةِ، يموتون على المعصيةِ، يموتون على الأغاني المحرمةِ، نعوذُ باللهِ من سوءِ الخاتمةِ.
ثانيا: التفحيطُ ظاهرةٌ جماهيريةٌ في الغالبِ، فالشبابُ المتجمهرونَ المتفرجونَ عليهم جزءُ من المسؤوليةِ والإثمِ فيما يحدثُ من المآسي بسببِ التفحيطِ.
أخي الشابُ: إنك بتجمهرِك تُغري المفحِّطَ بالاستمرارِ في التفحيطِ من جهةٍ، وتعرضُ نفسَك للتلفِ من جهةٍ أخرى.
ثالثا: على الآباءِ دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذه الظاهرةِ، في حسنِ تربيتِهم، ومراقبتِهم لسلوكِ أبنائِهم، وعدمِ تمكينِ الصغارِ منهم من قيادةِ السيارةِ.
رابعا: على الجهاتِ الأمنيةِ دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذهِ الظاهرةِ، فوصيتنا إليهم بذلَ المزيدِ من الجهودِ المباركةِ، وتكثيفَ وجودِهم في الساحاتِ والاجتماعاتِ، وعدمَ التساهلِ في تطبيقِ العقوباتِ.
وهم على كُلِّ حالٍ بشرٌ، ليسو بمعصومينَ، وعملُهم عرضةٌ للنقصِ أو الخطأِ، كغيرِهم منَ الموظفينَ، لكنهم في الجملةِ يقومون بأعمالٍ جليلةٍ من أجل سلامتِنا وسلامةِ أبنائِنا وأُسرِنا، فلا بُدَّ أنْ نتعاونَ معهم ونقفَ صفًا واحدًا.
خامسا: ولمدارِسِنا دورٌ كبيرٌ في التصدي لهذهِ الظاهرةِ، برفعِ الوعيِ بين أبنائِنا، ومتابعةِ السلوكياتِ التي تصدر ممن يقومون بهذه الظاهرة وتقويمِها، والتعاونِ مع الجهاتِ المختصةِ للقضاءِ عليها.
سادسا: لا بُدَّ منِ تنظيمِ أوقاتِ الشبابِ، وامتصاص طاقاتِهم في النشاطاتِ النافعةِ، أو البرامجِ الترفيهيةِ البريئةِ، عبرَ المراكزِ الدائمةِ والمؤقتةِ، والمخيمات، والملاعب، والأندية الرياضية، وغيرها، نسألُ اللهَ أنْ يُصلحَ الحالَ، واللهُ المستعانُ.
[/align]
المرفقات
حوادث السيارات والتفحيط-2-6-1437هـ-سامي الحمود-المنبر-بتصرف.doc
حوادث السيارات والتفحيط-2-6-1437هـ-سامي الحمود-المنبر-بتصرف.doc
حوادث السيارات والتفحيط-2-6-1437هـ-سامي الحمود-المنبر-بتصرف.pdf
حوادث السيارات والتفحيط-2-6-1437هـ-سامي الحمود-المنبر-بتصرف.pdf
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
جزاكما الله خيرا و أحسن الله إليكما .
يدخل الله في السهم الواحد ثلاثة .
و الحاجة إلى تجديد الإحصاءات مهمة .
تعديل التعليق