حمد الله والثناء عليه (وفي الخطبة الثانية تضمين التعميم عن نظافة الأماكن العامة)
محمد بن عبدالله التميمي
الحمدُ لله، أحَاطَ بكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وأَحْصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدا، عَزَّ جَاهُه، وجلَّ ثناؤه، وتَقَدَّسَتْ أَسْماؤهُ وصِفَاتُه، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، لا شريكَ لهُ في أُلوهيَّتِه ورُبوبيَّتِه، وأَسْمائهِ وصِفَاتِه، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُه ورَسُولُه، وصَفِيُّهُ وخَلِيلُه، وأَكرَمُ عِبَادِهِ علَى رَبِّه، صَلَوَاتُ ربِّي وسَلامُهُ عَليهِ وعلى أَتْبَاعهِ بإحْسَانٍ إلى يَومِ الدِّين.. أمَّا بَعد:
فَأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُم بتقوَى اللهِ عزَّ وجَل، اتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، فهِيَ الأُنسُ عِندَ الوَحْشَة، والقُوَّةُ عِندَ الضَّعْف، والبَرَكةُ عِندَ المَحْقِ، والعِلْمُ عِندَ الجَهْل: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
عباد الله.. إن كلَّ صفة عليَا واسم حسن وثناء جميل، وكلَّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ وإجلالٍ وإكرامٍ فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمِّها وأدومِها. فسبحان الله وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه. فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا الكريمُ ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزّ جلاله، حمداً يملأ السماوات والأرض وما بينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد، بمجامع حمده كلّها، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.
افتتح سبحانه كتابه القرآن الكريم بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وافتتح بعض السور فيه بالحمد فقال في أول الأنعام: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، وقال في أوَّلِ الكهف: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} ، وقال في أول سبأ: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} ، وقال في أول فاطر: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ ورُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وافتتح خلقَه بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ}، واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهلِ الجنة وأهلِ النار: {وَتَرَى المَلآئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}.
فالحمد له سبحانه أوَّله وآخره، وله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ٣، وقال سبحانه: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه، كما في قوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}، وحمد نفسه على علوّه وكبريائه كما قاله سبحانه: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
عباد الله.. إن الله تعالى يحبُّ المتعبدين له بأسمائه وصفاته ويحبُّ مَن يَسأله ويدعوه بها، ويحب من يعرفُها ويَعْقِلُها ويثنى عليه بها، ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح عن النبي ﷺ: « لا أحدَ أغْيَرُ مِنَ اللهِ، ولِذلِكَ حرَّمَ الفواحِشَ، ما ظهرَ منها وما بطنَ، ولا أحدَ أحبُ إليه المدحُ مِنَ اللهِ، ولِذلَكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، ولا أحدَ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أجلِ ذلِكَ أنزلَ الكتابِ، وأرسلَ الرُّسُلَ»، إن الله جل وعلا هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط، لا تَنفد كلماتُه ولا تُبدَّل، ولو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ مِدادا، وأشجارُ الأرض أقلاما، فكُتِب بذلك المداد وبتلك الأقلام، لنَفِدَ المدادُ وفَنِيَتِ الأقلامُ ولم تَنْفَد كلماتُه؛ والله سبحانه يُحِبُّ رسلَه وعبادَه المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أحبَّ إليهم منه، ولا أشوقَ إليهم من لقائه، ولا أَقَرَّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه، وله سبحانه الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكلُّ نعمة منه فضل، وكلُّ نقمة منه عدل.
الله تبارك وتعالى وتقدس أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الـمَهْلَكَةِ بعد فقدها واليأس منها، لم يكلف سبحانه عباده إلا وُسْعَهُم وهو دون طاقتهم، ولا يعاقب أحدا بغير فعله، فلا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه.
الله سبحانه وتعالى حكيمٌ كريمٌ جوادٌ ماجدٌ محسنٌ ودودٌ صبورٌ شكورٌ، يطاع فيَشكر، ويُعصى فيَغفر، لا أحدَ أصبرُ على أذى سمعه منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه العذر منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه الإحسان منه، فهو محسنٌ يحب المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ "والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إليه من المؤمنِ الضعيف"، بَرٌّ يحب الأبرار، عَدْلٌ يحب أهل العدل، حَيِي ٌّستِّيْر يحب أهل الحياء والسِّتر، عفوٌّ غفور يحب من يعفو من عباده ويغفر، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحب الرفق، جوادٌ يحب الجودَ وأهلَه، رحيمٌ يحب الرحماء، وِتْرٌ يحب الوتر.
أمر الله عباده بمقتضى أسمائه وصفاته، فأمرهم بالعدل والإحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت، وأحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأن اتصافه بها ظلم؛ إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تَحْسُنُ منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد.
والمقصود -عبادَ الله- أن الله سبحانه لِكمال أسمائه وصفاته موصوف بكل صفة كمال، منزَّهٌ عن كل نقص، له كلُّ ثناءٍ حسَن، ولا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ جميل، ولا يُسمى إلا بأحسن الأسماء، ولا يُثنى عليه إلا بأكمل الثناء، وهو المحمود المحبوب المعظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه وخَلَقَه، وعلى كل ما أَمَرَ به وشَرَعَه.
بعَثَ الله رسولَه ﷺ بالحنيفية السمحة، لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإنه سبحانه أرحم الراحمين، ورسولُه ﷺ رحمةٌ مهداة إلى العالمين، ودينٌه كلُّه رحمة، وهو نبيُّ الرحمة وأمتُه الأمة المرحومة.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على عَظِيمِ نِعْمَتِهِ ومِنَّتِه، والصلاةُ والسلامُ على رَسُولِ اللهِ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِه، أما بعدُ:
فإنَّ الله سبحانه وتعالى جميلٌ يحب الجمال، طيِّبٌ يحب كلَّ طيِّب، نظيفٌ يحب النظافة، وإن المؤمن مأمور بذلك في نفسه وبيته، بل وفيما يشترك فيه مع غيره، وأعظم ذلك بيوت الله المساجد، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ ﷺ رَأى نُخامَةً في قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ على أهْلِ المَسْجِدِ، فَتَناوَلَ حَصاةً فَحَكَّها، وقال: ما بالُ أحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أمامَهُ، أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يُسْتَقْبَلَ فيُتَنَخَّعَ في وجْهِهِ؟ فَإِذا تَنَخَّعَ أحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عن يَسارِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ، فإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذا ووَصَفَ القاسِمُ فَتَفَلَ في ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ.
وكذا الطريق أمر أن يُعطى حقّه، ومِنْ أعظَمِ هذهِ الحُقُوق: المُحَافَظَةُ على نَظَافَتِه، وسَلَامَتِه، وإمَاطَةُ الأذَى عنه، والنَّهيُ عَنِ التَّخَلِّي فيه، قال ﷺ: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ..."، الحديث، و"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ" متفقٌ عليه.
المرفقات
1661438932_خطبة في الثناء على الله.docx