حلب وانتصار المبادئ

د. منصور الصقعوب
1437/07/29 - 2016/05/06 07:04AM
الخطبة الأولى 29/7/1437هـ
حين نتحدث عن بلاد الإسلام فنحن نتحدث عن بلاد واسعة وبقاع شاسعة, فمنذ القرن الأول والمسلمون يعمرون كثيراً من البلاد ويفتتحون عدداً من الدول, عاشت تلك الدول في عدلهم, بعدما عانت من جور غيرهم
وحديث اليوم هو عن بلاد من بلاد الإسلام لم تكن يوماً في هامش التاريخ ولا في مؤخرة الركب, بل كانت وما زالت في قلب المعادلة, وفي صلب دولة الإسلام
نعم نتحدث عنها, وهي الآن قد باتت دولة أخرى بعدما كانت في زمنٍ دولُ الإسلام كلها دولةٌ واحدة, فكانوا إذا أهم أحدٌ منهم شيئاً أهمّ الجميع, فلا يُستغرب أن يتحدث الخطيب عن بلدٍ أخرى لأنه يتحدث عن ذات الوطن.
وبرغم تكاثر القضايا هنا وهناك فإن هذه الأحداث هناك تستحق تسليط الضوء وليس بكثيرٍ خطبة خطيبٍ عن قطعة من دولة الإسلام.
إنه حديث عن الشام يا كرام، مدرجِ الأنبياء، أرضِ المحشَرِ والمنشَر، وعيسى ابنُ مريم حين ينزلهُ الله آخرَ الزمان ينزله هناك، عند المنارة البيضاء شرقِيّ دمشق.
يا طُوبَى للشام! ملائكةُ الرحمن باسِطةٌ أجنحتَها عليها، بارَكَها الله بنصِّ الكتاب والسنة؛ حاضنة الإسلام وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أرضها كثيرٌ من دواوين الإسلام، ودُفِن فيها جموعٌ من الصحابةِ والعلماء.
كم ذرَفَت على ثراها عيونُ العُبَّاد، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وسالَ على دفاتِرِها بالعلوم مِداد، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء, صحابةً وأخيارًا وأصفياء، وتداوَلَ الحُكمَ فيها ملوكٌ وسلاطين، أضافوا لها مجداً وعِزاً.
كُسِرَت على رُباها حملاتٌ صليبيةٌ وكُسر التتار وعلا الإسلام وانتصر، إذا عُدَّت حضاراتُ الإسلام ذُكِرَت الشام، وإذا ذُكِر العلمُ والفضلُ ذُكِرَت الشام، هي أرضُ الأنبياء، وموئِلُ الأصفياء، وما زارَ ق بلادًا غيرها خارج الجزيرة, والملحَمَةُ الكُبرى آخرَ الزمان يكونُ فُسطاط المُسلمين ومَجْمعُ راياتهم بأرضِ الغُوطَةِ بدمشق، هي خيرُ مساكن الناسِ يومئذٍ؛ كما ورد في الحديث، ولقد أدركَ الصحابةُ رضي الله عنهم كما روى البخاري دعاءً يُكرره ق "اللهم بارِك لنا في شامِنا»، وقوله ;«إذا فسدَ أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم» رواه الترمذي, فتوجَّه الأخيارُ لها، وخفَقَت بيارِقُ النصر إليها ، وألوية الجهاد بها، وسُطِّرَت ملامِحُ من نورٍ فيها، ونشرَ الإسلامُ رِداءَه على الشام، خالدُ بن الوليد، وأبو عُبيدة، وشرحبيلُ بن حسنة، وعمرو بن العاص، معهم ألفُ صحابيٍّ منهم مائةٌ ممن شهِدَ بدرًا, فافتتحوها, وإلى حياض دولة الإسلام ضموها, ومن حينها وهي من بلاد المسلمين, بل وبقيت مدة هي عاصمتهم في زمن الأمويين, قال ق. «سيصيرُ الأمرُ إلى أن تكونوا جنودًا مُجنَّدةً, جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق» فقال ابنُ حَوالة ط ((اخِتر لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك، فقال« عليك بالشامِ؛ فإنها خِيرةُ الله من أرضه، يجتبِي إليها خِيرتَه من عباده، فأما إن أبيتُم فعليكم بيَمَنكم، واسقُوا من غُدُركم؛ فإن الله توكَّلَ لي بالشامِ وأهله» أخرجه أحمد.
وحين تفيأ المسلمون تلك البلاد شعَّ منها نورُ العلم، وبُسِط فيها العدل، وسطَّر المُسلمون هنالك أروعَ الأمثِلة في حُسن الجِوار وكرمِ التعامُل, بعدل معاوية وعمر بن عبد العزيز, وبجهاد عبد الملك بن مروان وأبنائه, وبإصرار نور الدين, وتعامل صلاح الدين الأيوبي, فرحم الله الجميع .
تلك أزمانٌ مضت, عاش المسلمون هناك العز والسيادة, وأما اليوم, فقد تكالب السباع على دولة الإسلام, نصارى, ونصيرية, ورافضة, ومع تواطؤ عالمي مخزي, والمسلمون مشغولون بأنفسهم, كلٌ يقول نفسي نفسي, وطيّبهم من يشجب ويستنكر.
ياشام عُذراً ومثلي ليس يعتذرُ فقد أصابَنا مما نراه بكِ الخورُ
لكني أقول لكم: برغم الدماء, وبرغم القتل والأشلاء, برغم أن مستشفياتٍ هدمت على من فيها, ومدارسَ نُسفت بدارسيها, برغم أن الحرب استمرت سنوات, برغم كل ما نراه ورأيناه, فإن أهل حلبٍ وأهل الشام منتصرون بإذن الله,
الانتصار هو انتصار الدين, هو أن تنهي الدنيا وأنت مستعلٍ بدينك, أن ينتصر ثباتك على الحق ولو خسرت كل شيء, والهزيمة هو أن تتنازل عن مبدأك, ولو حكمت الأرض, ولتعلم معنى هذا الانتصار اسمع لهذين النصين من السنة والقرآن, روى أنس ط قائلاً: بعث النبيُّ ق أقواماً من بني سُلَيم إلى بني عامر في سبعين, فلمّا قدموا قال لهم خالي: أتقدَّمُكم؛ فإن أمَّنوني حتى أبلّغَهم عن رسول الله ق وإلا كنتم منّي قريباً, فتقدّم فأمّنوه فبينما يحدِّثُهم عن النبيِّ ق إذ أومَأوا إلى رجُلٍ منهم فطعنَه فأنفَذَه, فقال: اللهُ أكبر, فزتُ وربِّ الكعبة .. الحديث .
أسمعت أعجب من قولَه وهو يقتل " فزتُ وربِّ الكعبة" نعم فاز, لأن خسارةَ الدُّنيا ليس بشيءٍ بجانب الفوز برضا الله ﻷ.
وأما نموذج القرآن فحين أحرق الكفارُ المؤمنون-كما في سورة البروج- قال ربنا عنهم, وعن ثباتهم على إيمانهم (ذلك الفوز الكبير), نعم هو فوز وإن كان حرق, لأن الدين انتصر, لأن المبدأ الحق علا, قال صاحب الظلال: تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلبَ بالروعة, روعةِ الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدةِ المنتصرة على الحياة، فقد كان في مُكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم, ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يَقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادةِ الحياة بلا عقيدة، وبشاعتِها بلا حرية، وانحطاطِها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعدُ في الأرض, ربحوه وهم يجدون مسّ النار فتحتَرِقُ أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكّيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.. يعقب به السياق «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ- ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا- فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» ..
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف, فالبقية آتية هناك.
كلُّ النّاس يموتون وتختلف الأسباب ولكن ليس كلُّ الناس ينتصر هذا الانتصار, وإنما هو اختيار الله لفئةٍ من خلقه لتشارك الناسَ في الموت , وتنفردُ دونَ النّاسِ في المجْدُ, المجد في الملأ الأعلى , والمجْدُ في دنيا الناس أيضاً , إذا وضعنا في عين الاعتبار نظرةَ الأجيال بعدَ الأجيال.
لقد انتصر أهل الشام منذ زمن, لقد انتهى النظام هناك منذ زمن, فسمح الأعداء المتواطؤن على أمة الإسلام بدخول حزب الشيطان حينها, وحين مالت الكفة لأهل الشام السنة أُدخل مرتزقة الرافضة من العراق وإيران, وباكستان وغيرها, وحين كادت الكفة أن ترجح فُوِّضَ الروسُ أن يدخلوا, وليفعلوا ما شاءوا, ولو ترتب على هذا التواطؤ قتل مئات الالاف من المسلمين, المهم أن لا ينتصر المسلمون هناك, هذا قرار النظام العالمي أن لا ينتصر المسلمون هناك, ولكن قرار ربنا النافذ الذي لا مرد له أن ينتصروا " لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام".
نعم: تَبْكِي وَتَمسَحُ دَمعَهَا حَلَبُ وَبِقَلْبِهَا مِنْ حُزنِها لَهَبُ.
نعم: حِقْدُ النُّصَيْرِيِّينَ يُشعِلُهَا والجَاِمعُ الأَمَوِيُّ يَنتَحِبُ.
وَتَحْلِفُ أَلفُ قَاذِفَةٍ أنَّ الطُّغاةَ بِأَمْنِها لَعِبوا.
والغَربُ يَشْربُ كَأْسَ سَكرَتِهِ وَبِمِثلِها يَتَضلَّعُ العَرَبُ.
لكننا ومع كل هذا نقول لأهل الشام عامة ولأهل حلبَ خاصة:
لا تَجْزَعِي فَالظَّالِمُونَ لَهُمْ يَومٌ مِنَ الخُذْلانِ مُرْتَقَبُ.
النَّصرُ عندَ اللهِ يَمنَحُهُ لِلصَّابِرِينَ إذَا هُمُ احتَسبُوا
اللهُ يهِزمُ كُلَّ ذِي صَلَفٍ فَتَعلَّقِي باللهِ يا حَلَبُ.
الحمد لله ناصر أولياءه ومذل أعداءه, ولا راد لقضائه, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله, أما بعد:
ما يحدث في بلاد الشام اليوم هو نسخة مكررة مما حصل في زمن التتار, الفارق اليوم هو أن الشاشات تنقل الحدث بتفاصيله, وإننا نخشى أن يأتي الدور على غيرهم إن هم صمتوا وتخاذلوا, لقد دخل التتار نيسابور, فقتلوا منها مئات الآلاف, والناس في بغداد غافلون, وعن نصرتهم منصرفون, ولما وصل التتار إلى بغداد قتلوا أكثر من مليون.
نحن حينما نتكلم اليوم عن بلاد الشام فإنما نتكلم أولاً عن قطعة من بلاد المسلمين لهم علينا حق النصرة, وندافع أيضاً عن أنفسنا, ونذكر أنفسنا قبل أن يأتي العدو إلينا, فأعداء المسلمين لن يرضيهم منا إلا أن نتبع ملتهم, ولو قد فرغوا من إخواننا فالدور على من بعدهم, حمى الله المسلمين ورد كيد المجرمين.
إن إخوانكم هناك يستنصرونكم, والله يقول (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر( وواجب النصرة يا كرام يقع على كل مسلم, كل بحسبه, وقد نوّع نبينا ; أوجه النصرة فقال "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ"
النصرة بالدعاء وبالشعور, وبحمل الهم, على الجميع, النصرة بالمال على القادرين, النصرة بالقرار على أولي الأمر, وقد وعد ربنا ووعده الحق ( ولينصرن الله من ينصره) ووعد نبينا ووعده الصدق" مَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ, ومَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ" أخرجه أبو داود.
لا تقل كيف أُخذل, فربك على كل شيء قادر, لا تقل كيف يحلّ الجوع والنعم من أرضنا, فبلاد الشام كانت منصى الجائعين, وموطنَ الأنهار والثمار, واليوم تسمع عمن يموت هناك جوعاً أو عطشاً, فاللهم ارزقهم وانصرهم .
عباد الله: ولا يمكن لمتحدثٍ عن أحداث حلبَ أن يتجاوز ذلك المشهد, إنه مشهدٌ يفيض فخراً, وعزةً وثباتاً, أبنيةٌ متهدمة, وأنقاضٌ متراكمة, وحين أُخرِجت بعضُ النساءٍ من تحت الأنقاض, ومن بين القتلى, وعادة الفَزِعِ أن يخرُجَ مرعوباً لا يلوي على شيء, لما أخرجن كنّ تلك النساء في حجاب كامل, وستر تام, صوّرت الكاميرات فصورت جلباباً اسود, وحجاباً سابغ.
إنها صورةٌ لستر المسلمات يُفخر بها, وهنّ في الحرب والخوف, فما بال بعض بناتنا اليوم باتت وهي في الأمن تتخفف من حجابها وتتنازل عن حيائها, ما بالنا صرنا نرى تهاوناً من الأولياء على هذه الصور, تدخل المحل فترى بائعاً وبائعة ليس بينهما سوى متر – وحسب الضوابط الشرعية طبعاً- وتدخل المستشفياتِ تبحث عن الشفاء فتمرض من مشاهد جارحة للحياء من قِبَلِ بعض الممرضين والممرضات, والكارثة أن بعض الأولياء يعلم أن مولياته يخالطن الرجال هناك وهو لا يحرك ساكناً بنصح أو بمنع, والتبعة هي على الأولياء أولاً, والتناصح هو علينا جميعاً.
صورة الحجاب من تحت الأنقاض نهديها لمن تخلع حجابها من حين أن تدخل على الطبيب مُعالِجة, أو من حين أن تفارق بلادها مُسافِرة, وكأن التمسك بالدين مطلوب في بلدها فحسب, ولا بارك الله في سياحة يترتب عليها نزع للحجاب.
صورة الحجاب من تحت الأنقاض يا كرام نهديها لمن يطالبون بإحلال الرياضة النسائية في مجتمعاتنا, ولا يفتأون يندبون تأخر مجتمعنا لأنه ليس فيه نوادٍ نسائية, ولا فرق كرة قدم للسيدات, فبئس ما يطلبون.
وبعد أيها المسلمون: فالشام ستنتصر بإذن الله, بفضل الله وحده, ثم بتألف المسلمين هناك, وبدعوات المسلمين هنا, فمن الشام اندحر التتار, وسيندحر بإذن الله الرافضة والنصارى وأعوانهم, وعد الله لا يخلف الله وعده ( فلا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)
قسماً بربنا ستنتصر, وسيزول الظلم هناك, وستعود المساجد, وستُرفع راية الحق والسنة, وحينها سيحمد عاقبته من له يدٌ في نصرة إخوته, وسيعلم المتآمرون والمتخاذلون أي منقلب ينقلبون.
المشاهدات 1489 | التعليقات 0