حَلب... والوجه الآخر !
ناصر بن علي القطامي
1438/03/17 - 2016/12/16 05:34AM
حَلب... والوجه الآخر !
الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين وناصر المؤمنين، أحمده تعالى وأشكره على ما أولانا من النعم، وصرف عنا من النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: معاشر أهل الإيمان:
في عالم متحضر تبلّدت فيه المشاعر، وماتت فيه الأحاسيس، وضاعت فيه حقوق الإنسان المسلم، والمسلم فقط ! وتواطأ فيه سائر الملل على أهل الإسلام يأتي النظام النصيري الرافضي هذه الأيام ليواصل مسلسل المجازر الرهيبة، والمذابح المروعة، التي يتفطّر لها القلب، وتبكي لها العين، ويحزن لها الفؤاد، فظائعُ ترتكب، وحرماتٌ تُنتهك، أحداث لا يستطيع أن يحْتملها جَنان، أو أن تُكتب تفاصيلها ببنان، أو أن ينطق بفظائعها لسان !
ولكنه تداعي الأمم، وتخاذل الهمم، كما أخبر صلمسللله عليه " يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قَالُوا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ، قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
معاشر المؤمنين:
وفي مثل هذه الأحداث العظام التي تُدمي القلب قبل العين، لا بد للمؤمن أن يسترشد المنهج الرباني، والهدي النبوي، في بث روح العزيمة والتفاؤل، واستلهام الدروس والعبر من سيرة سيد البشر، وقراءة التاريخ بعين فاحصة، وقلب واعٍ، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصاب في جسده، ويُتهم في عِرْضِه، وتُرمى زوجتُه -أحبُّ الخَلْق إليه- بالفاحشة؟ ويمكثُ -صلىالله عليه وسلم - شهرًا كاملاً، في همِّ وغمِّ، ينتظر خبر السماء، لينزل الوحي بَلْسَمًا على قلب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليرسّخ المنهج السماوي في فقه المحن والمصائب: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور:11].
إن المآسي كلما زاد ألمها، وعظُم جرحها، فدافَعتْها الأمة بالصبر والتقوى، فإن التغيير بعدها كبير بكبر حجم هذه المأساة؛ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
فكل شيء بقدر الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وطمأنينةُ المؤمنِ الموحدِ قولُهُ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وكل شيء مقدر بقدر الله سبحانه وعلمه، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
والحكمة من كتابة الأقدار ذَكَرَها تعالى في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ).
ولذلك لزم أن يكون دأبُ المسلم المعتزِّ بدينِه: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).. والحق سبحانه وتعالى وعد ووعده الحق،
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}، قال: "يعني محمداً وأصحابه أخرجوا من مكة إلى المدينة فأذن الله لهم أن يقاتلوا لاستعادة حقوقهم، وللانتصار لأنفسهم، قال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، قال ابن عباس: "وقد فعل! وقد فعل الله ذلك ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم خرج طريداً مهاجراً وعاد عظيماً فاتحاً, وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. وقرأ وبلّغ قول الحق جل وعلا: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، أي قادرٌ جل وعلا على أن ينصرهم من غير قتال، وقد نصر الله نبيه في بعض المواطن من غير قتال في يوم الخندق، هبت الريح، أطفأت نيرانهم، أكفأت قدورهم، قلعت خيامهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25].
معاشر المؤمنين:
وبعد ذلك كله يتساءل المؤمن الصادق الغيور ما هي واجباتي تجاه هذه النازلة ومثيلاتها من نوازل المسلمين ؟ والحق أن وسائل النصرة تجاه ما يصيب الأمة من حوادث ومحن متعددة ومتوافرة ومن ذلك:
1- كثرة التضرع والدعاء:
فالإلحاح على الله تعالى في الدعاء من أعظم العبادات التي يحبها الله تعالى، وهي عادة لا تكون إلا في الشدائد؛ قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.
وَهَا هُوَ نَبِيُّنَا وَأَصحَابُهُ في يَومِ بَدرٍ وَكَانُوا قِلَّةً مُستَضعَفِينَ، يُنَاشِدُونَ رَبَّهُم فَيَستَجِيبُ لَهُم وَيَنصُرُهُم عَلَى المُشرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِذْ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشرَى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذ يُوحِي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعنَاقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ ) [الأنفال:9-13].
وَبِالدُّعَاءِ تُرَدُّ عَنِ الأُمَّةِ أُمُورٌ، وَتُدفَعُ شُرُورٌ، وَكَم في الأُمَّةِ مَن لَو رَفَعَ يَدَيهِ بِصدِقٍ وَنَادَى، لأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَسَمِعَ نِدَاءَهُ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "رُبَّ أَشعَثَ مَدفُوعٍ بِالأَبوَابِ، لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ" رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّمَا يَنصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعوَتِهِم وَصَلاتِهِم وَإِخلاصِهِم".
2- حسن الظن بالله تعالى:
فأفعال سبحانه كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك).. ويزيدنا أملا وثقة بوعد ربنا: قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. وقوله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
إنَّ سنّةَ الله إمهالُ الطغاة، وإنظارُ المجرِمين العتاة، واستدراجُ المعتَدِين البغاة، وللظّالِم صولة، وللباغي جَولَة، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله لَيُملِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه"، وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ولا شك لحظة أننا سنرى في مجرمي الشام من هذه العصبة القاتلة يوماً قريباً كما قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم : 4 ، 5].
إن النصر للمؤمنين وإن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال : 7 ، 8].
3-فمن الواجبات العملية تجاه نوازل المسلمين أيضا انتظار الفرج:
ففي الحديث: (النصر مع الصبر والفرج مع الكرب)؛ وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا، وانتظار الفرج عبادة.
4- ومن الواجبات: احتساب الأجر، فما يصيب المسلم من مصيبة أو أذى إلا كفّر الله به سيئاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مايصيب المسلم من هم ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله به من خطاياه).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى كل من دعاء بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
4-ومن الواجبات تجاه نوازل المسلمين: اليقين بحتمية الابتلاء في الدنيا، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}. وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.
ومما يجلب للقلب السكنية والطمأنينة تقلبه في تدبر قوله سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.
وإذا كان شأن العدو (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) فشأن المؤمن (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
وهو سبحانه وتعالى: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}.
فترقبوا النجاة من الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.. وترقّبوا إهلاك الله لأعدائه؛ قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
اللهم قد انقطعت أسبابنا الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبنا ونعم الوكيل .
ثم صلوا ..
الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين وناصر المؤمنين، أحمده تعالى وأشكره على ما أولانا من النعم، وصرف عنا من النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: معاشر أهل الإيمان:
في عالم متحضر تبلّدت فيه المشاعر، وماتت فيه الأحاسيس، وضاعت فيه حقوق الإنسان المسلم، والمسلم فقط ! وتواطأ فيه سائر الملل على أهل الإسلام يأتي النظام النصيري الرافضي هذه الأيام ليواصل مسلسل المجازر الرهيبة، والمذابح المروعة، التي يتفطّر لها القلب، وتبكي لها العين، ويحزن لها الفؤاد، فظائعُ ترتكب، وحرماتٌ تُنتهك، أحداث لا يستطيع أن يحْتملها جَنان، أو أن تُكتب تفاصيلها ببنان، أو أن ينطق بفظائعها لسان !
ولكنه تداعي الأمم، وتخاذل الهمم، كما أخبر صلمسللله عليه " يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قَالُوا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ، قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
معاشر المؤمنين:
وفي مثل هذه الأحداث العظام التي تُدمي القلب قبل العين، لا بد للمؤمن أن يسترشد المنهج الرباني، والهدي النبوي، في بث روح العزيمة والتفاؤل، واستلهام الدروس والعبر من سيرة سيد البشر، وقراءة التاريخ بعين فاحصة، وقلب واعٍ، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصاب في جسده، ويُتهم في عِرْضِه، وتُرمى زوجتُه -أحبُّ الخَلْق إليه- بالفاحشة؟ ويمكثُ -صلىالله عليه وسلم - شهرًا كاملاً، في همِّ وغمِّ، ينتظر خبر السماء، لينزل الوحي بَلْسَمًا على قلب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليرسّخ المنهج السماوي في فقه المحن والمصائب: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور:11].
إن المآسي كلما زاد ألمها، وعظُم جرحها، فدافَعتْها الأمة بالصبر والتقوى، فإن التغيير بعدها كبير بكبر حجم هذه المأساة؛ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
فكل شيء بقدر الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وطمأنينةُ المؤمنِ الموحدِ قولُهُ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وكل شيء مقدر بقدر الله سبحانه وعلمه، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
والحكمة من كتابة الأقدار ذَكَرَها تعالى في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ).
ولذلك لزم أن يكون دأبُ المسلم المعتزِّ بدينِه: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).. والحق سبحانه وتعالى وعد ووعده الحق،
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}، قال: "يعني محمداً وأصحابه أخرجوا من مكة إلى المدينة فأذن الله لهم أن يقاتلوا لاستعادة حقوقهم، وللانتصار لأنفسهم، قال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، قال ابن عباس: "وقد فعل! وقد فعل الله ذلك ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم خرج طريداً مهاجراً وعاد عظيماً فاتحاً, وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. وقرأ وبلّغ قول الحق جل وعلا: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، أي قادرٌ جل وعلا على أن ينصرهم من غير قتال، وقد نصر الله نبيه في بعض المواطن من غير قتال في يوم الخندق، هبت الريح، أطفأت نيرانهم، أكفأت قدورهم، قلعت خيامهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25].
معاشر المؤمنين:
وبعد ذلك كله يتساءل المؤمن الصادق الغيور ما هي واجباتي تجاه هذه النازلة ومثيلاتها من نوازل المسلمين ؟ والحق أن وسائل النصرة تجاه ما يصيب الأمة من حوادث ومحن متعددة ومتوافرة ومن ذلك:
1- كثرة التضرع والدعاء:
فالإلحاح على الله تعالى في الدعاء من أعظم العبادات التي يحبها الله تعالى، وهي عادة لا تكون إلا في الشدائد؛ قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.
وَهَا هُوَ نَبِيُّنَا وَأَصحَابُهُ في يَومِ بَدرٍ وَكَانُوا قِلَّةً مُستَضعَفِينَ، يُنَاشِدُونَ رَبَّهُم فَيَستَجِيبُ لَهُم وَيَنصُرُهُم عَلَى المُشرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِذْ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشرَى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذ يُوحِي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعنَاقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ ) [الأنفال:9-13].
وَبِالدُّعَاءِ تُرَدُّ عَنِ الأُمَّةِ أُمُورٌ، وَتُدفَعُ شُرُورٌ، وَكَم في الأُمَّةِ مَن لَو رَفَعَ يَدَيهِ بِصدِقٍ وَنَادَى، لأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَسَمِعَ نِدَاءَهُ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "رُبَّ أَشعَثَ مَدفُوعٍ بِالأَبوَابِ، لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ" رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّمَا يَنصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعوَتِهِم وَصَلاتِهِم وَإِخلاصِهِم".
2- حسن الظن بالله تعالى:
فأفعال سبحانه كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك).. ويزيدنا أملا وثقة بوعد ربنا: قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. وقوله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
إنَّ سنّةَ الله إمهالُ الطغاة، وإنظارُ المجرِمين العتاة، واستدراجُ المعتَدِين البغاة، وللظّالِم صولة، وللباغي جَولَة، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله لَيُملِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه"، وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ولا شك لحظة أننا سنرى في مجرمي الشام من هذه العصبة القاتلة يوماً قريباً كما قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم : 4 ، 5].
إن النصر للمؤمنين وإن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال : 7 ، 8].
3-فمن الواجبات العملية تجاه نوازل المسلمين أيضا انتظار الفرج:
ففي الحديث: (النصر مع الصبر والفرج مع الكرب)؛ وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا، وانتظار الفرج عبادة.
4- ومن الواجبات: احتساب الأجر، فما يصيب المسلم من مصيبة أو أذى إلا كفّر الله به سيئاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مايصيب المسلم من هم ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله به من خطاياه).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى كل من دعاء بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
4-ومن الواجبات تجاه نوازل المسلمين: اليقين بحتمية الابتلاء في الدنيا، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}. وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.
ومما يجلب للقلب السكنية والطمأنينة تقلبه في تدبر قوله سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.
وإذا كان شأن العدو (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) فشأن المؤمن (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
وهو سبحانه وتعالى: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}.
فترقبوا النجاة من الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.. وترقّبوا إهلاك الله لأعدائه؛ قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
اللهم قد انقطعت أسبابنا الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبنا ونعم الوكيل .
ثم صلوا ..
المرفقات
حَلب... والوجه الآخر !.doc
حَلب... والوجه الآخر !.doc