حلاوة الإيمان
وليد الشهري
حـــلاوة الإيمــان
الحمد للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبِه، ومن اهتدى بهديِهِ، واستنَّ بسنتِه إلى يومِ الدين .
أما بعد ،،
فاتقوا الله – عبادَ اللهِ – حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروةِ الوُثقى، واحذروا المعاصي؛ فإنَّ أجسادَكم على النارِ لا تتحمَّلُ ولا تقوى، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطاكُم إلى غيركِم، وسيتخطَّى غيرَكُم إليكُم فخذوا حذركم .
أيها الإخوة .. كلنا يَنْشُدُ انشراحَ الصدر، وراحةَ البال، والحياةَ السعيدةَ، والعيشَ الهنيء، وكلُّنا يَنشُدُ ذلك السرورَ الذي يعقبُ الطاعة، يقول إبراهيمُ بنُ أدهم : لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه من النَّعيمِ لجالدونا عليهِ بالسيوف، ويقول سُفيانُ الثوريُّ : نحنُ في لذةٍ لو علمَ عنها التجارُ لاشتروها بأغلى الأثمانِ وأنفسِها .
إذا ما صرتَ تجدُ أثراً للطاعات، ولا لذةً للإيمانِ، ولا ذلك الشعورَ الذي قد مَرَّ عليكَ في زمنٍ من الأزمانِ في إقبالِك على الطاعةِ فراجع حديثاً حَدَّثَ به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، وَاعْرِضْ نفسَكَ عليه، لتعرفَ مقدارَ الخللِ الذي يعترضُكَ في حياتِك، فيروي أنسٌ – رضي الله عنه – عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان : أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أنْ يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ أنقذهُ اللهُ منه كما يكرهُ أن يقذفَ في النار ) [متفق عليه]، وهذه دلالةٌ واضحةٌ أنَّ للإيمانِ حلاوةً وأن له طعماً، لكنَّها حلاوةٌ لا يجدُها إلا الأصِحَّاء، أما المرضى – أي مرضى القلوب – فلا يجدونها.
إذن هي سعادةٌ في القلبِ، وسكينةٌ في الفؤادِ، وانشراحٌ في الصدرِ، ورغبةٌ في الخيرِ، ومن قصَّرَ في هذه الثلاثةِ فلن يجدَ حلاوةَ الإيمانِ إلا ناقصةً بقدرِ تقصيرِهِ في هذه الخصال؛ لقولِ ابنِ عباسِ مشيراً إلى الحديث : ولن يجدَ عبدٌ طعمَ الإيمانِ وإن كثرتْ صلاتُه وصومُه حتى يكونَ كذلك.
ولذلك على كلِّ واحدٍ منَّا أن يعرضَ نفسَه على هذا الحديث، ما نصيبُه من هذهِ الخصالِ الثلاث؟ وما حالُ هذهِ الأمورِ الثلاثةِ المذكورةِ في قلبك؟ فإنَّها في الأصلِ أعمالٌ قلبيةٌ لا يطلعُ عليها إلا الله، ويظهرُ أثرُها في الجوارحِ والتعامل .
عباد الله .. إذا بلغَ المؤمنُ تلكَ المنزلةَ أصبحَ له زادٌ من الإيمانِ فيتحملُ الأذى في سبيلِ اللهِ، ويصبرُ على قضاءِ اللهِ، ويشتاقُ لطاعةِ اللهِ، ويكونُ لها دائماً بالأشواق، وما ذاك إلا لأنَّهُ استكملَ هذه الأسبابَ الثلاثةَ في الحديث .
فأمَّا الخصلةُ الأولى : ( أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهُما )، فمحبتُه للهِ مقدمةٌ على كلِّ محبوب، فمثلاً عبادةُ الصدقةِ يُقَدِّمُها المؤمنُ ويبذلُها من مالِه الذي يحبُّه كما قال تعالى : ( وتُحبَّون المالَ حُبَّاً جَماً ) [الفجر:20]، لكنَّه تصدقَ وأنفقَ لأنه قَدَّمَ محبوبَ اللهِ على محبوبِه في المال؛ ولذلك أثنى اللهُ عليهم فقال : ( ويُطعمونَ الطعامَ على حبِّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيراً ) [الإنسان:8]، وأيضاً تُقدمُ محبوبَ اللهِ على هوى النفسِ وما تشتهيهِ ممّا لا يرضاهُ – سبحانه -، ويتبيَّنُ ذلكَ بدءاً بدفعِ الخاطرةِ التي هي أُولى خطواتِ المعصيةِ، لأنَّ الخاطرةَ تأتي بالفكرةِ، والفكرةُ تأتي بحديثِ النفسِ، وحديثُ النفسِ يأتي بالهمِّ، والهمُّ يأتي بالعزيمةِ فتقعُ المعصيةُ، وهذه إحدى خطواتِ الشيطان، وهي أن يُحَدِّثَ بالمعصيةِ في نفسِك ويهوِّنُها عليك، والله تعالى يقول : ( يا أيها الذينَ آمنوا لا تتبعُوا خطواتِ الشيطانِ ومن يتبعْ خطواتِ الشيطانِ فإنَّهُ يأمرُ بالفحشاءِ والمنكر ) [النور:21] .
نعم إنَّكَ تحبُّ اللهَ وتُقدمُ محبوبَه على كلِّ شيءٍ لأنَّكَ تَتَذكَّرُ أنَّ كلَّ نعمةٍ عليك هيَ منَ اللهِ تعالى كما يقول – سبحانه - : ( وما بِكم من نعمةٍ فمنَ الله ) [النحل:53]، وأعظمُ نعمةٍ أنعمَها عليكَ أن جَعَلَكَ اللهُ مسلماً مؤمناً موحداً من بين هؤلاء الملايينٍ الذين لا يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر، فلمْ يجعلْكَ ابناً ليهوديٍّ أو نصرانيٍّ أو عابدِ وثنٍ، قال تعالى : (بل اللهُ يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمانِ إن كنتم صادقين ) [الحجرات:17] .
أيضاً تُحبُّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لأنَه السببُ بعد توفيقِ اللهِ لكَ في هذه النعمةِ العظيمةِ التي تتقلّبُ فيها وهي نعمةُ الإسلام، فهو الذي دَلَّك عليها كما قال تعالى : ( وإنَّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم ) [الشورى:52]، وقد قال – عليه الصلاة والسلام : ( لا يؤمنُ أحدُكُم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والنَّاسِ أجمعين ) [البخاري ومسلم]، وقد قالَ عمرُ – رضي الله عنه – للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – : لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – : ( لا والذي نفسي بيدِه حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسك )، فقال له عمرُ : فإنه الآنَ واللهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – ( الآنَ يا عمر ) [البخاري] .
والحبُّ له قرائنُ ودَلائلُ تُبَرْهُنُ على هذا الحبِّ وعلى صدقِه، قال تعالى : ( قل إن كُنتم تحبونَ اللهَ فاتبعوني يحببكُمُ اللهُ ويغفرْ لكُم ذنوبَكم ) [آل عمران:31]، وقال تعالى : ( قل إن كانَ آباؤُكم وأبناؤُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشونَ كسادَها ومساكنُ ترضونَها أحبَّ إليكم من اللهِ ورسولِه وجهادٍ في سبيلِه فتربصوا حتى يأتيَ اللهُ بأمرِه والله لا يهدي القوم الفاسقين ) [التوبة:24].
وحتى تُعرفُ صدقُ هذهِ المحبةِ فلا بُدَّ أَن تظهرَ جليةً واضحةً في سلوكِكَ وتعاملِكَ مع اللهِ في العلنِ والسرِّ خاصة، وعلى سبيلِ المثالِ : جارحةُ البصر، فإنَّ البصرَ له نفوذٌ إلى القلبِ، وهو سهمٌ من سهامِ الشيطانِ، وإنَّه في هذا الزمنِ يستطيعُ المرءُ مع هذهِ الأجهزةِ أن ينظرَ إلى كثيرٍ مما حَرَّمَ اللهُ دونَ أن يشعرَ به أحدٌ ولو كان بجواره، لكن تبقى مراقبةُ اللهِ في الخلوةِ هي الحاضرةُ لمن كان له قلب، كما قالَ اللهُ تعالى : ( ليعلمَ اللهُ من يخافُه بالغيب ) [المائدة:94] .
كُلُّ الحوادثِ مَبْداها منَ النظرِ ومُعْظَمُ النارِ من مُسْتَصْغرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتكتْ في قلبِ صاحبِها فتكَ السِّهام بلا قوسٍ ولا وترِ
والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَلِّبُها في أعينِ الغيدِ موقوفٌ على خطرِ
يسرُّ مقلتَه ما ضرَّ مُهْجَتَهُ لا مرحباً بسرورٍ عادَ بالضررِ
هذه العينُ ستشهدُ يومَ القيامةِ، قال تعالى : ( شهدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم بما كانوا يعملون ) [فصلت:20].
وإن من علاماتِ المحبةِ الإكثارُ من الذكر، فمن أحبَّ شيئاً أكثرَ من ذِكرِه، ومن أحبَّ اللهَ أكثر من ذِكْرِهِ – سبحانه – ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) [الأحزاب:41]، وقال تعالى : ( واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) [الجمعة:10]، ومن أحبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – أكثرَ من الصلاةِ عليه، وتمثَّلَ سُنَّتَه في حياتِه وأفعالِه، لا كمن استهواه التقليدُ للغربِ الكافر، أو التأثرُ بمشاهيرِ قلةِ المروءةِ، أين سنَّتَهُ في حياتِك؟ أين خُلُقُهُ في تعاملِك؟ أين الصفةُ والخُلَّةُ المذكورةُ في الحديث : ( أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما )
الصفة الثانية في الحديث : ( وأن يحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله )، تحبُّهُ لأنَّهُ مطيعٌ لله، ولأجلِ الله لا لأجلِ الدنيا، ليس بينكَ وبينَهُ أيُّ رابطٍ منْ روبطِ الدنيا، فالميزانُ قربُهُ أو بُعدُهُ منَ اللهِ فقط، في الحديث : ( من أحبَّ للهِ وأبغضَ لله، وأعطى للهِ ومنعَ للهِ فقدِ استكملَ الإيمان ) [السلسة الصحيحة]، وحديثُ السبعةِ الذين يُظلُّهُمُ اللهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلى ظلّه، وذكر منهم : ( رجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) [البخاري]، وفي الحديث يقول – صلى الله عليه وسلم - : ( زارَ رجُلٌ أخًا لَهُ في قريَةٍ فأرْصَدَ اللهُ لَهُ ملَكًا علَى مَدْرَجَتِه ، فقال : أينَ تُرِيدُ ؟ قال : أخًا لِي في هذِهِ القرْيَةِ ، فقال : هل لَّهُ عليكَ مِنْ نعمةٍ ترُبُّها ؟ قال : لا ؛ إلَّا أنِّي أُحِبُّه فِي اللهِ ، قال : فإِنَّي رسولُ اللهِ إليكَ أنَّ اللهَ أحبَّكَ كمَا أَحْبَبْتَهُ ) [البخاري ومسلم]، وفي الحديث القُدسي : ( قال اللهُ عزَّ وجلَّ : المتحابّونَ في جلالي لهم منابرُ من نورٍ يغبطُهم النَّبيُّونَ والشهداءُ ) [صحيح الترمذي]، وفي الحديثِ الآخر قال اللهُ تعالى : ( وجبتْ محبتي لِلْمُتَحابينَ فِيَّ ، والمتجالسينَ فِيَّ ، والمتباذلينَ فِيَّ ، والمتزاورينَ فِيَّ ) [صحيح الجامع]، فلا يحب المؤمن رجلاً لأجل مالِهِ أو منصبِه، أو لأنَّه جليسٌ مُؤْنِسٌ له في الأحاديث؛ لأنَّ تلكَ العلاقاتِ التي لم تُبْنَ على طاعةِ الله، بل كانت على لهوٍ ولعبٍ تنقلبُ إلى عداوات قال الله تعالى : ( الأخلاءُ يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المتقين ) [الزخرف:67] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطـبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وعظيمِ امتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ،،
أيها الإخوة .. الصفة الثالثة في الحديث : ( وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ بعد إذ أنقذهُ اللهُ منه كما يكرهُ أن يقذفَ في النَّار ) فمن أحبَّ اللهَ أحبَّ محابَّهُ، وكرِهَ مكارِهَهُ، فاللهُ يكرهُ الكفرَ ولا يرضاه، ( إن تكفروا فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنكم ولا يرضى لعبادِه الكفر ) [الزمر:7]، وكرهُكَ للكفرِ هو بمقدارِ معرفتِكَ لقدرِ نعمةِ اللهِ عليكَ بالإيمان، فكُنْ شاكراً بجوارحِك كما قال تعالى : ( اعملوا آل داود شكراً ) [سبأ:13] .
ونحن بحمدِ اللهِ وُلدنا مسلمينَ فلمْ نجرِّبِ الكفرَ بفضلِ الله، لكن علينا أن نتمسكَ بأسبابِ الثباتِ على الدِّينِ حفاظاً على هذه النعمة، فإنَّ المسلمَ – وإن وُلدَ مسلماً – فإنه يعلمُ أنَّ عاقبةَ الكفرِ شقاءٌ في الآخرةِ لا نهايةَ له، وهو الخلودُ المُؤَبَّدُ في النارِ- أعاذنا الله وإياكم ووالدينا من النار – فالمسلمُ لو قذفَ في النارِ لكانَ أهونُ عليه من أن يكفر بالله ..
صلوا وسلموا على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المسداة محمد بن عبد الله ...
المرفقات
1696428908_حـــلاوة الإيمــان.docx