حلاوة الإيمان. خطبة 17 ذو الحجة 1438هـ
عاصم بن محمد الغامدي
الخطبة الأولى:
الحمد لله المرجوِّ لطفُه وثوابُه، المخوفِ مكرُه وعقابُه، والصلاة والسلام على محمد سيدِ أنبيائه وخيرِ خليقتِه، وعلى آله وأصحابِه وعترتِه، أما بعد، عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- فلله درُّ أقوامٍ نعِمُوا بالإخلاص والطاعة، وتدثَّروا بلباسِ التُّقى والقناعة، ففازوا بأربحِ البضاعة، زالَتْ عنهم الأكدار، وكانت لهم عقبى الدار، نعيمٌ مقيمٌ، وجناتٌ تجري من تحتها الأنهار؛ فاعتبروا بالسابقين، وتفكَّروا في الراحلين، فالقلوب بالذكرى تلِين: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيْعُ أَجْرَ المُحْسِنِيْنَ}.
عباد الله:
لملذاتِ الدنيا مذاقات مختلفة، الناس عليها مقبلون، وفيها متفاوتون، فمنهم من أدمن السفر، ومنهم من أحب الزواج، ومنهم من يفضِّل طعم المال والثراء، أو الجاه والمنصب، لكنَّ طعم الإيمان اختص بأقوام دون أقوام، قال صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ". [رواه البخاري ومسلم].
ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشقات في رضا الله عز وجل، وإيثار ذلك على عرض الحياة الدنيا، وما يعقبه من انشراح في الصدر، وطمأنينة في القلب.
وقد فُطِر الناسُ على عدم الشعور بالوقت عند قضائه فيما يحبون، حتى قال أحد الشعراء يصور سرعة انقضاء أوقاتِ الأنس:
مرت سنون بالسعود وبالهنا
فكأنها من قصرها أيامُ
ثم انثنت ساعات هجر بعدها
فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنَّها وكأنَّهم أحلامُ
عباد الله:
يلقي المحبوب بظلاله على صاحبه، ويورثه راحة عند مقارفته، وصعوبة عند مفارقته، وأرقى أنواع المحبة وأفضلها محبة المؤمنين للطاعات والأعمال الصالحة، تلك المحبة التي تتأثر زيادة ونقصًا بحجم الإيمان في القلب.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». [رواه النسائي وصححه الألباني].
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
ومن لذة أبي بكر رضي الله عنه بالإيمان، تصدق بجميع ماله في سبيل الله، ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وكان عثمان رضي الله عنه يقول: "لو أن قلوبنا طهرت ما شبعت من كلام ربنا".
وكانت حلاوة الإيمان تخالط قلوب الصحابة رضي الله عنهم عند جلوسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعف أثرها بعد الخروج من عنده، فظنوا ذلك من النفاق، فأخبروا به النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً». [رواه مسلم].
ولما خالط الإيمان قلب أم سليم زوجِ أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما عملت ما لا تطيقه أغلب النفوس البشرية، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: اشتكى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، ثم مات وأبو طلحة في المسجد، فَقَالَتْ أم سليمٍ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ فَجَاءَ أبو طلحة فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ فُلَانٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَةً فَتَمَتَّعُوا بِهَا، فَلَمَّا طُلِبَتْ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَاكَ. قَالَ: مَا أَنْصَفُوا، قَالَتْ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنَّ اللهَ قَبَضَهُ، فَاسْتَرْجَعَ وَحَمِدَ اللهَ، ثمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا»، فَحَمَلَتْ، ثُمَّ وَلَدَتْ غُلَامًا سَمَّاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ. [رواه مسلم].
والشاهد من القصة ذلك الصبر العجيب على فقد الولد، قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
عباد الله:
كيف يحصل المرء على حلاوة الإيمان، ويتلذذ بالطاعات؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا». [رواه مسلم].
والرضا بالشيء يعني القناعة والاكتفاء به، وترك طلب غيره، فمن أطاع الله تعالى، ولم يشرك به شيئًا، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك غير منهج محمد عليه الصلاة والسلام، فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن استشعار حلاوة الإيمان، والتلذذ بطعمه، مقام رفيع، يحتاج المرء للوصول إليه إلى أمور، أهمها: مجاهدة النفس على الطاعات، والتقلل من المباحات، وتأمل سير الصالحين، وقراءة القرآن وتدبر معانيه.
ورد عن بعض السلف أنه قال: جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين عامًا فتنعمت به عشرين عامًا.
ومن أكثر من النوافل أحبه الله، ومن أحبه الله أكرمه، قال ابن القيم رحمه الله: إذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن من قلبك، والتذاذكِ بسماعه أعظمَ من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أنّ من أحبّ محبوبًا كان كلامه وحديثه أحبَّ شيءٍ إليه. [الجواب الكافي ص549].
أيها المسلمون:
معصية الله تعالى من أكبر موانع التلذذ بعبادته، وربما عوقب المرء على معصيته بأمور لا يشعر بها، كَانَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، كَمْ أَعْصِيكَ وَلَا تُعَاقِبُنِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قُلْ لَهُ: كَمْ أُعَاقِبُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي؟ أَلَمْ أَسْلُبْكَ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي؟ [حلية الأولياء 10/168].
ومن موانع التلذذ بالعبادة، تحولها في القلب إلى عادة، فبعض الناس قد يصلي ويؤدي زكاة ماله ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام، لكنَّ ذلك من باب التعوُّدِ لا استشعارًا لمعنى العبودية الحقيقية، فأنى يتلذذ مثل هذا بطاعة؟
فأقبلوا يا عباد الله على طاعته، واسألوه حلاوة الإيمان ولذته، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.