حِكَمٌ وعِظَاتٌ مع ابنِ الوَرْدِيِّ
محمد بن مصطفى بن الحسن كركدان
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، ونصبَ لنا الدَّلالةَ على صحته بُرْهانا مبينًا، وأوضح السَّبيلَ إلى معرفته واعتقاده حقًّا مبينًا، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نَبِيَّنَا وإمامنا وقُرَّةَ عيوننا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصفوتُه من خَلْقه، وخيرتُهُ من بَرِيَّتِهِ، وأمينُهُ على وحيه، وسفيرُهُ بينه وبين خَلْقه، ابتعثَهُ اللهُ -جلَّ جلاله- بخيرِ مِلَّةٍ وأحسنِ شِرْعَةٍ، وأظهرِ دلالةٍ، وأوضحِ حُجَّةٍ، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أولي والفضل والحكمة.
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، فاتقوا الله أيها المسلمون حقَّ التَّقْوى، وراقبوه في السِّرِّ والنَّجْوى، وكونوا عباد الله من الصَّادقين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[2].
أما بعد، قصيدةٌ اشتملتْ على حِكَمٍ وعِظاتٍ في غايةِ الحُسْنِ والجمالِ، قائلُها عالمٌ فقيهٌ أديبٌ صاحبُ ذوقٍ رفيعٍ، وحِسٍّ مُرْهَفٍ بديعٍ، لا تحس عند قراءة أبياته بالملل؛ لحسن اختياره الألفاظ والجمل، فشعره رقيقٌ له حلاوة، وعليه طلاوة، وقد أثنى العلماءُ على شعره ثناءً عطرًا، فهذا الحافظ ابن حجر يقول عن نظمه في عِلْمِ الفقه: "وأقسم بِاللَّه لم ينظمْ أحدٌ بعده الْفِقْهَ إِلَّا وقصر دونه"[3].
هذا العَلَمُ الذي اخترته ليكون حديث جمعتنا هو: عمرُ بنُ الـمُظَفَّرِ بنِ عمرَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أبي الفوارس المعري، وهو مشهورٌ ومعروفٌ بابنِ الورديِّ[4]، ونسبُه مُتَّصِلٌ بصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- كما قال عن نفسه:
مع أنِّي أحمدُ اللهَ على .. نسبي إذ بأبي بكر اتَّصَلْ[5].
نشأ -رحمه الله- بحلب، وتعلَّمَ العِلْمَ، وتفقَّهَ، وفاقَ الأقرانَ[6]، وكان شاعرًا حَسَنَ الشعر، ومن جميل شعره: قصيدته المشهورة بلامية ابنِ الورديِّ، وقد كتبها لنُصْحِ ابنهِ وتوجيههِ وتعليمهِ وتربيتهِ على مكارمِ الأخلاقِ والرجولةِ كما قال:
أي بُنَيَّ اسمع وصايا جَمعتْ .. حِكَمًا خُصَّتْ بها خيرُ الـمِلَلْ[7].
وللهِ درُّه! فقد ضرب مثالًا جميلًا على عناية العلماء بأولادهم، فلم يَغْفَلْ عن ابنه رغم انشغاله بالعلم وتحصيله، وإفادة الناس؛ لعلمه -رحمه الله- بأهمية صلاحه، وأثر ذلك على نفسه، ووالديه، ومجتمعه، وفعله -رحمه الله- هذا يحثُّنا على الاجتهاد والعناية بتربية أولادنا.
إخوة الإيمان، صدَّر ابنُ الورديِّ -رحمه الله- قصيدتَهُ بنصيحةٍ لابنه في غاية الأهمية، حيث قال له:
اعتزلْ ذِكْرَ الأَغَاني والغَزَلْ .. وقُل الفَصْلَ وجانب من هزلْ[8].
والأغاني: جَمْعُ أغنيَّة، وهي: الغِناء والتلحين، وقيل: الأغاني: جَمْعُ غانية، وجاء في بعضِ النُّسخِ: اعتزلْ ذِكْرَ الغَواني والغَزَلْ، والغانيةُ هي: الشَّابةُ الجميلةُ التي تستغني بجمالها الطبيعيِّ عن الزينة.
فحرصَ ابنُ الورديِّ كُلَّ الحرصِ على تربية ابنه، وتوجيهه إلى اجتناب فتنة النساء؛ لأن فتنتهنَّ من أعظم الفتن المتعلقة بالغرائز والشهوات؛ ولعظمها بدأَ اللهُ بذكرها[9]، قال -عزَّ وجلَّ-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[10]، وجاء في الحديث الـمُتَّفَقِ عليه في الصحيحين عن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّهُ عنهما-، عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ)[11]، بل قابلَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فتنةَ النساءِ بفتنة الدنيا لخطرهنَّ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)، متفق عليه[12]، وهاهم سلف أمتنا يحذرون من فتنة النساء، قال الإمامُ الجليلُ سعيدُ بنُ الـمُسَيِّبِ -رحمه الله-: "ما أَيِسَ الشَّيْطانُ من شيءٍ إلا أتاه من قِبَلِ النِّسَاءِ، ثم قال وهو ابنُ أربعٍ وثمانينَ سنةً، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشى بالأخرى: ما من شيءٍ أخوفَ عندي من النِّسَاءِ"[13].
إخوة الإيمان، من فقه المربي الناجح مع أولاده: إعطاء البدائل لهم، فإذا نهى الأبُ ابنَهُ، أو بنتَهُ عن فعلٍ ما، فجميل أن يعطيهم البديل، وهذا ما نلمسه من كلام ابنِ الورديِّ في صدر قصيدته، فلم يكتفِ -رحمه الله- بنهي ابنه فقط، بل أعطاه البديل وهو: أمره بالجدِّ والانشغال بالحق؛ كتلاوة القرآن وحفظه ومعرفة معانيه، والإقبال على العلم النافع، ورفع الجهل عن النفس، فالنفس الإنسانية إذا لم تشغلها بالحقِّ شغلتك بالباطل.
فرحم اللهُ ابنَ الورديِّ حين بدأ قصيدته بدعوة ابنه إلى الجِدِّيَةِ والرجولة، والبعد عن اللهو والأنوثة، فهذا الأصل في شخصية المسلم، فالمسلم الموفَّق جادٌّ في تفكيره وسلوكه، جادٌّ في قوله وعمله، وجِدِّيته تفرضها الغايةُ التي خُلِقَ الإنسانُ من أجلها، قال -جلَّ جلاله-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[14]، ويفرضها الإدراك بقصر الحياة الدنيا، وسرعة انقضائها، قال ابنُ الورديِّ:
قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تَفُزْ .. فدليلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ
إن من يَطْلُبُهُ المــوتُ على .. غِرَّةٍ منـــه جديرٌ بالوجــــــــلْ[15].
ولا يعني -عباد الله- أن الإنسان يترك المزاح، واللعب النظيف المباح، بل المقصود: الاعتدال في المزاح، وتنظيم الوقت للعب المباح، فيأخذ المسلمُ المقدارَ الذي يُنَشِّطُ النَّفس على طاعة الله، ويقويها على أداء رسالة الله[16].
أعاننا اللهُ وإياكم على تربية أبنائنا وبناتنا، ووفقنا اللهُ وإياكم على غرس الأخلاق الفاضلة في قلوبهم، وحفظنا الله وإياكم من شرور الشبهات والشهوات، بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ العظيمَ من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية.
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمْدِهِ، والشكرُ لله حَقَّ شُكْرِهِ، أحمدُهُ سبحانه وأشكرُهُ، وأستعينُهُ وأستغفرُهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا وإمامنا وقُرَّةَ عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين.
أما بعد، الشعر له جماله وحلاوته وتأثيره على النفس الإنسانية، والمسلم يحرص كُلَّ الحرصِ على الشعر النافع المشتمل على مكارم الأخلاق، الداعي إلى الحِكَمِ والعظاتِ، والـمُحَبِّبِ للتحلِّي بجميل الصفات، والـمُحَفِّزِ إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، روى أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً)[17]، قال الحافظُ ابنُ الأَثيرِ -رحمه الله- في معنى الحديث: "أي: بعض الشعر كلامٌ جَيِّدٌ يمنع عن الجهل والسَّفَهِ، وينهى عنهما"[18].
وجاء في رواية ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- التي أخرجها أبو داود، وابنُ ماجه في سننهما، والترمذيُّ في جامعه وحَسَّنَهُ قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا)[19]، وقوله: (حُكْمًا) أراد بها الحِكْمَةَ كما قال الحافظُ ابنُ عبد البر -رحمه الله-، "وذلك نحو قوله -عزَّ وجلَّ-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)[20]، يعني: الحِكْمةَ والنُّبُوَّةَ"[21].
والحكمة عباد الله كما قال العلماءُ: "اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يَمنع من الوقوع في الخطأ، وإذا اقترنت بالقرآن، فالمراد: خصوص السنة النبوية"[22].
فـ"كُلُّ كَلِمَةٍ وعظتكَ وزجرتكَ أو دعتك إلى مَكْرُمَةٍ أَوْ نهتك عن قَبِيحٍ فهي: حِكْمَةٌ وحُكْمٌ" كما قال أبو بكر بنُ دُرَيْدٍ -رحمه الله-[23].
فاحرص على يا عبد الله على الشعر النَّافع، واجتنب الفاحش المذموم، وكن معتدلًا في مطالعته، وسماعه بحيث لا يغلبك على مطالعة كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابنُ بَطَّالٍ: "الشعر والرَّجَز والحُداء؛ كسائر الكلام، فما كان فيه ذِكْرُ تعظيمِ لله، ووحدانيته، وقدرته، وإيثار طاعته، وتصغير الدُّنْيَا، والاستسلام له تعالى ... فهو حَسَنٌ مُرَغَّبٌ فيه، وهو الذى قال فيه -عليه السلام-: (إن من الشعر حكمة)، وما كان منه كذبًا وفُحْشًا، فهو: الذى ذَمَّهُ اللهُ ورسولُهُ"[24].
عباد الله، صلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عزَّ من قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[25].
[1] سورة آل عمران (102).
[2] سورة التوبة (119).
[3] الدرر الكامنة لابن حجر (4/229).
[4] الدرر الكامنة لابن حجر (4/228).
[5] العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (169).
[6] الدرر الكامنة لابن حجر (4/228).
[7] العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (168).
[8] العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (167).
[9] ينظر فتح الباري لابن حجر (9/138).
[10] سورة آل عمران (14).
[11] صحيح البخاري رقم (5096)، صحيح مسلم رقم (2740).
[12] صحيح البخاري رقم (1)، وصحيح مسلم رقم (1907).
[13] شعب الإيمان للبيهقي (7/321)، وينظر حلية الأولياء للأصبهاني (2/166).
[14] سورة الذاريات (56).
[15] العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (170).
[16] ينظر العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (21، 22، 23، 24).
[17] رواه البخاري في صحيحه رقم (6145).
[18] الشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (3/400).
[19] سنن أبي داود رقم (5011)، سنن ابن ماجه رقم (3756)، جامع الترمذي رقم (2845).
[20] سورة الأنعام (89).
[21] التمهيد لابن عبد البر (5/181).
[22] العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي للدكتور مصطفى مخدوم (56).
[23] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (2/33).
[24] شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/319).
[25] سورة الأحزاب (56).
المرفقات
وعِظاتٌ-مع-ابنِ-الورديِّ
وعِظاتٌ-مع-ابنِ-الورديِّ