حكايتي مع مراهق (2/2) أ. محمود الفقي - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
ما من الناس رجل ولا امرأة إلا وقد مر بمرحلة المراهقة، وليس منا واحد إلا وهو يذكر بعض مواقف تلك المرحلة وتغيراتها، وإن اختلفت انطباعات كل منا عن تلك المرحلة، مع اعتراف الجميع بأنها مرحلة خاصة حساسة متضاربة الأمواج، فهي مرحلة انتقالية من الطفولة إلى الرجولة أو الأنوثة، لذا فهي مرحلة مفصلية في عمر الإنسان خطيرة في تحديد مساره متقلبة في شئونها متسارعة في تطوراتها... ولهذا كان لعقلاء الناس عامة وللخطباء خاصة عناية فائقة بأفراد تلك المرحلة العمرية الفريدة.
وفي الجزء الأول من هذا المقال حاولنا أن نضع الأسس لاستراتيجية تعامل الخطباء مع فئة المراهقين، وسردنا ساعتها بنودًا ثلاثةً لتلك الاستراتيجية، كانت كالتالي:
أولًا: سلكت الطريق إلى قلبه.
وثانيًا: تركت التأنيب والتوبيخ والسخرية منه.
وثالثًا: أشعرته بقيمته وبحريته.
ونشرع الآن في إكمال بنود تلك الاستراتيجية، وإن كانت البنود الباقية أسرع وتيرة من البنود الماضية، فإليها:
رابعًا: أَنَرْتُ عقله بالعلم:
كنت موقنًا أن "وائل"؛ ذلك المراهق -ومثله كل إنسان- لن يستقيم حاله إلا باستقامة قلبه وعقله؛ فأما قلبه فأول ما فعلته معه أن "سلكت الطريق إلى قلبه" كما مضى، وبقي عقله التائه الحائر المتخبط الذي ليس له أسس يرتكز عليها ليفرِّق على أساسها بين الحق والباطل والصواب والخطأ؛ لذا فقد سعيت إلى إنارة عقله بنور العلم.
تذكرون في الجزء الأول من هذا المقال كيف ارتبك "وائل" وتردد لما أُذن لصلاة العصر وهو معي في المسجد فاصطحبه خاله فتوضأ وصلى معي، بعد ذلك سألته عن سر ارتباكه ذاك، فأجابني: لقد استيقظت من نومي يومها وقد أمْنَيْتُ ووجدت البلل في ثوبي إثر حلم رأيته، فاعتقدت أنما يكفيني أن أستبدل الملابس وأغسل ما أصاب جسدي من ذلك... وعندها علمت حاجته الماسة لدراسة أبواب من الفقه أولها الطهارة والصلاة.
ولقد كان الاهتمام بتعليم المراهقين -وغيرهم- منهجًا نبويًا قويمًا؛ فقد وصلنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خَصَّ عددًا من المراهقين بتعليمهم مسائل من العلم، أهمها: العقيدة، فقد علَّم -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس في سن المراهقة قائلًا: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"([1]).
ولقد كان هذا منهجًا متبعًا في مجتمع الصحابة كله؛ فعن جندب بن عبد الله قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن غلمان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا"([2])، و"الحزاورة": جمع حزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وقارب البلوغ([3]).
ثم بعد ذلك كانوا يعلِّمونهم الصلاة والآداب؛ أما الصلاة فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر..."([4])، وأما الآداب فقد أرشدنا أن نعلمهم إياها القرآنُ حين قال على لسان لقمان: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان:18-19].
فكنت أنتهز أي سؤال من "وائل" وأؤصل له الإجابة تأصيلًا من غير تطويل يمله، فإذا رأيت منه قبولًا زدته تفصيلًا يفيده، حتى آنست منه شوقًا لأن يعرف ويتعلم فدعوته إلى مقرأة القرآن يتدارس معنا الآيات والأحكام، ولما علم هو من بعض الناس أن بالمسجد مقرأة أخرى للحديث فقد فوجئت به وقد حضرها، فسمع وفهم عدة أبواب من صحيح البخاري... ثم كانت منه انطلاقة طلب فيها عنوان كتاب فقه ميسر، وصار كلما قرأ صفحة طالبني بالشرح والتوضيح، حتى صار شابًا آخر غير الذي التقيته أول مرة.
خامسًا: أرشدته كيف يواجه شهوته:
سن المراهقة هو سن فوران براكين اللحم والدم داخل جسد المراهق، سن عنفوان الشهوة وطغيانها وغلبتها على العقل وسيطرتها على الفؤاد... أضف إلى ذلك أنه سنٌ تتفتح فيه عين المراهق على أشياء لم يكن له علم بها، فيميل إلى تجربة كل شيء نافعًا كان أو ضارًا، وهو أيضًا سن التمرد على الأوامر والنواهي، وسن الملل والتضجر من كل ما يتكرر؛ لذا فعلى الخطيب الذي يعتني بمراهقين أن يساعدهم على ترويض الشهوة التي تجلب عليه كثيرًا من العناء من خلال النقاط التالية التي حاولت أن أطبقها مع "وائل":
فالأُولى: أغلقت عليه باب الشهوة بأمره بغض البصر؛ فهذا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يقص علينا كيف حال النبي -صلى الله عليه وسلم- بين شاب أردفه وبين أن ينظر لامرأة أعجبته، قائلًا: أردف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئًا، فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها([5]).
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعليٍ -وكان شابًا-: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة"([6]).
والثانية: بغَّضت إليه الزنا. وكفى أن تعلِّمه أن الاسم الحقيقي لما يقترف الآن باسم الحب هو: "الزنا"، وكفى أن تستثير نخوته؛ "أترضاه لأمك أو لأختك"، وكفى أن تخبره بجزاء من حفظ فرجه؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا شباب قريش: احفظوا فروجكم لا تزنوا، ألا من حفظ الله له فرجه دخل الجنة"([7]).
والثالثة: شغلته بالخير ولم أدع له وقت فراغ؛ فكل وقته كان بين المقارئ والدروس والتنزه اللطيف الموجَّه، وفي بيته بين كتاب يقرأه أو هواية يمارسها أو راحة يحتاجها، ومن الخير الذي ينبغي أن ينشغل به المراهق ممارسة الرياضة البدنية من العدو والسباحة... وقد صدق من قال:
إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة
والرابعة: عوَّدته صيام التعفف؛ تنفيذًا لحديث عبد الله بن مسعود المشهور: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"([8])، فكان "وائل" يواظب على صيام الاثنين والخميس وغيرهما من النوافل.
والخامسة: دارسْتُه قصة يوسف -عليه السلام- وأشباهها؛ ليستقي منها مفهومًا جديدًا هو مفهوم العفة، مفهوم يُرَوِّج كل ما في مجتمعات اليوم لضده، ففتحتْ تلك القصصُ عيناه إلى أن هناك من يرفض الفواحش ولا يسعى إليها.
ولم أصنع ذلك فحسب؛ بل: عوَّدته كثرة التواجد بالمسجد؛ بغية أن يكون ممن "قلبه معلق بالمساجد"، وأبعدته قدر الاستطاعة عن المثيرات؛ فقاطع التلفاز و"النت" والمجلات... إلا في الخير.
سادسًا: علمته المسئولية:
فكلفته بمهام تناسبه؛ ليتعلم تحمل التبعات، ولينشغل بالخير عن الشر، وليتعود الاستقلالية ويدع التبعية والاتكالية، وليكون ساعد بناء لصرح حضارة الأمة، وجعلت قدوته في ذلك خيرة شباب الأمة؛ فهذا عليٌّ -رضي الله عنه- يبعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا، فيقول: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء! فقال: "إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك..."([9]).
وهذا أسامة بن زيد يُوْكل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه قيادةَ الجيش ولم يجاوز السابعة عشرة من عمره، وفي مثل سنه بايع عبدُ الله بن يزيد الأنصاري النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة الرضوان التي رضي الله عن أهلها، وأصغر منهما جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- هاجر إلى المدينة وحضر غزوة أحد ولم يتخلف عن غزوة بعدها، وأصغر منه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- شارك في غزوة الخندق، ومثله في السن معاذ ومعوذ ابنا عفراء قتلا أبا جهل فرعون هذه الأمة... وما أكثر وأشهر النماذج على ذلك، وباختصار: "عرفته على الرجال؛ ليتخذ منهم قدوة".
فكان "وائل" مسئولًا عن مرافق المسجد؛ يستبدل التالف من المصابيح، ويعتني بالمكيفات، ويشرف على النظافة، ويعلق لوحات التعلم والإرشاد... وكان مسئولًا كذلك عن بعض المشتريات للمسجد؛ كالمفروشات وطعام الصائمين وأدوات التنظيف... وكان مسئولًا عن معرفة من تغيب عن مقارئ المسجد وتنبيهي لتغيبهم وأحيانًا الاتصال بهم هاتفيًا للاطمئنان عليهم...
سابعًا: صرتُ أنا صحبته:
ولأكون صاحبه فقد كلفني هذا أن أتبسط كثيرًا معه، وأن أتحدث معه في أمور تهمه هو، ولا تهمني أنا إطلاقًا؛ بل أراها من التافهات وإن كانت من المباحات؛ فكم تكلمت معه عن مصانع الأجهزة والأقمشة في بلادنا وأماكنها، وعن "موديلات" السيارات، وعن أعلى المباني في العالم وأعلى الجبال وأطول الأنهار...
حتى استطعت أن أنتقل به إلى بديع خلق الله في كونه وسعة الفضاء الذي تسبح فيه ملايين المجرات التي تحتوي كل منها على ملايين النجوم والتي تتبعها ملايين الكواكب والأقمار... وكم تفكرنا وتدبرنا سويًا في عجائب الخلائق في أعماق المحيطات وفي ملكوت السموات، ودخلنا جحر النمل نستطلع عجائبه كما سبرنا أغوار الغاب نستجلي غرائبها! وكم كانت تبهره وتجذبه تلك الأحاديث!.
على كلٍ، فقد مكنني الله -تعالى- أن استدرجه بعيدًا عن أصدقاء السوء، وسحبته من صحبته الأولى التي كادت أن تهلكه، وتساميت به شيئًا فشيئًا عن التفاهات والسفاسف حتى تشبثت نفسه بالمعالى من الأمور.
ولكنه لم يقنع بي وحدي صاحبًا، خاصة مع ما بيننا من فارق السن الذي كان يحول بينه وبين أن يمازح ويشاغب... فاشتاق إلى بعض أصحابه، فقلتُ في نفسي: "هي فرصة سانحة"، ثم خاطبته: "لما لا تدعهم فيجلسوا معنا"، فدعا إليَّ من فيهم الخير من أصحابه وزملائه، فصارت لنا جلسة أسبوعية، نتبسط أحيانًا ونجِدُّ أخرى، وصار بعضهم عونًا لـ"وائل" على ما نريد، وإن تفلت آخرون.
ثامنًا: بالغت في تشجيعه على أقل إحسان:
فللتشجيع في النفوس أثر بليغ في الاستدامة والنشاط في العمل، وهي في نفس المراهق أوقع وأبلغ؛ فهي تبعث فيه الهمة والعزم وتشغله عن الغرائز والشهوات وتزرع فيه الحماسة والسرور وتغرس في قلبه الثقة في النفس.
وللتشجيع أساليب كثيرة منها: "المشاركة"، وهو أسلوب تعلمناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان"، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لكم لا ترمون؟"، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارموا فأنا معكم كلكم"([10]).
ومن أساليب التشجيع أيضًا: "المكافأة"؛ ففي يوم أُحدٍ يستهدف المشركون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول لأصحابه: "من يردهم عنا وله الجنة؟" أو "هو رفيقي في الجنة"([11])، وفي يوم الأحزاب يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟"([12])... ولا يلزم أن يكون التشجيع بشيء أخروي فقط؛ بل ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه شجع بأمور دنيوية؛ فقال يوم حنين: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه"([13]).
ومن أساليب التشجيع أيضًا: "التقدير والثناء"؛ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- صبيحة غزوة ذي قرد: "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة"([14]).
تاسعًا: شاركته أفراحه وأتراحه:
أُظهِر الحزن إذا رأيته حزينًا، والبؤس إذا رأيته بائسًا، ثم أكر عليه بالمبشرات فلا أدعه إلا فَرِحًا مسرورًا، وأُظهِر الفرح إذا رأيته فرِحًا وأتساءل عن سبب فرحه حتى أوجهه وأهذبه، حتى لقد كان "وائل" يهرع إليَّ إذا أصابه حزن أو فرح؛ فإن كان حزنًا واسيته ووصلته بربه ليخفف عنه، وإن كان فرحًا استعلمته عن سببه فإن كان لائقًا شاركته إياه حتى يصير مثل الجبل، وإن كان لا يليق سلَّمته إلى الآية الكريمة: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58].
ومشاركة الأحزان والأفراح مبدأ إسلامي جميل؛ فتعزية من أصابته مصيبة ومواساته من مشاركة الأحزان، وقد ندب إليها الإسلام؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله -سبحانه- من حلل الكرامة يوم القيامة"([15]).
وكذلك فإن إجابة الدعوة في الإسلام هي مشاركة للآخرين في الأفراح، وتركها في الإسلام بغير عذر معصية؛ فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "... ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله"([16]).
وإن هذا وذاك مما يوطد العلاقات ويقرِّب القلوب ويقرنها ببعضها البعض، وقديمًا قالت أم إياس توصي ابنتها ليلة زفافها كيف تحبب فيها زوجها: "ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتمًا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا"([17]).
وهذا قاعدة عامة في الناس كلهم، ولها مزيد خصوصية بالمراهقين الذي تكثر تقلباتهم النفسية، وبالتالي تكثر أحزانهم وأفراحهم وتتوالى لأبسط الأسباب، حتى لربما وجدته حزينًا واجمًا لتذكره شيئًا ما، ثم فجاءة تنبسط أساريره لأنه قد خطرت بباله خاطرة سعيدة، وذلك ينطبق على أغلب المراهقين؛ لذا فهم في حاجة إلى من يشاركهم هذه وتلك، وهم لا يشاركونها إلا مع من هو قريب من قلوبهم، فاحرص -أيها الخطيب- أن تكون هذا الشخص فيخبرونك بما لا يخبرون به سواك.
***
وبقيت بنود أخرى لهذه الاستراتيجية أغلبها واضحة لا تحتاج إلى شرح، منها: أنني قد أعطيته الحب، فأعطاني الثقة! وما لي لا أحبه وأنا أراه ضعيفًا مسكينًا يبغي النجاة ولا يعرف طريقها، يحب الاستقامة لكنه يتعثر عند سلوكها.
ومنها: أني علَّمته الفرق بين الحاجة والرغبة؛ فقد كان يخلط بين ما يحتاج إليه حاجةً لا دخل لعقله فيها؛ بل هي من نداء فطرته وجبلته كتوق إلى طعام وشراب وميل إلى نساء... وبين ما يرغبه هو ويهواه وإن لم يكن من الملحات، فعلَّمته أن يُشبِع من الأولى -وهي الحاجات- ما استطاع بالمباح وباعتدال، وأن يتسامى عما لم يحن أجله أو لا يستطيع تلبيته منها، وأن يزن الرغبات فيسعى لتحقيق المستساغ، ويكبح جماح ما ليس من حقه ولا في توقه.
***
ولا أظنني سأنسى أبدًا ذلك اليوم الذي دخل عليّ فيه والد "وائل" في المسجد منشرح الصدر متهلل الوجه، ينطق في تعجب وسعادة فيقول: "ماذا فعلت بوائل! كيف غيَّرته! كيف أقنعته أن يطيعني ويُقبِّل يدي؟!"، وأجبته ساعتها: أنا ما غيَّرته ولكن القرآن والعلم وما فتحت عليه عيناه من الخير -مما لم يكن يعرف- هو ما غيَّره...
ومن أراد أن يؤثر في "وائل" وفي كل "وائل" فإني أرى أن بنود هذه الاستراتيجية -المتفق على أغلبها- ستكون -بتوفيق الله- أنجع وأقصر الطرق إلى تقويمه وإصلاحه وتأهيله.
والله من وراء القصد.
[1])) الترمذي (2516)، والحاكم (6303)، وصححه الألباني (المشكاة: 5302).
[2])) ابن ماجه (61)، والإيمان لابن منده واللفظ له (208)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه).
[3])) انظر حاشية السندي (1/31)، الناشر: دار الجيل - بيروت، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (12/3895)، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة، الطبعة: الأولى، 1417هـ.
[4])) أبو داود (495)، أحمد (6689)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود).
[5])) البخاري (6228)، ومسلم (1334).
[6])) أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).
[7])) الحاكم (8062)، والبيهقي في شعب الإيمان (4984)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 2696).
[8])) البخاري (5066)، ومسلم (1400).
[9])) أبو داود (3582)، والنسائي في الكبرى (8366)، وصححه الألباني (إرواء الغليل: 2500).
[10])) البخاري (2899).
(([13] البخاري (3142)، ومسلم (1751).
([15]) ابن ماجه (1601)، والكنى والأسماء للدولابي (1307)، وحسنه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه).
([16]) البخاري (5177)، ومسلم واللفظ له (1432).
([17]) العقد الفريد لابن عبد ربه (7/89 - 90).