حكايتي مع مراهق * (1/2) أ. : محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1439/12/16 - 2018/08/27 13:05PM

للأسف! يخطب الخطباء في وادٍ، وفئة المراهقين في وادٍ آخر، كأن لهم عالـمًا غير عالمنا ودنيا غير دنيانا؛ فمنهم من لا يدخل المسجد أصلًا، ومنهم من ينظر إلى الخطيب نظرة استعلاء ودونية، ومنهم من يراه مُنَظِّرًا خياليًا يحيا في الأوهام، ومنهم من لا يفهم مصطلحات الخطيب وتعبيراته -مع بساطتها- لأنه لا يمتلك أية خلفية دينية ولا أي ثقافة شرعية، ومنهم الواعي الفاهم الذي يتمنى تطبيق ما يسمع من خطيبه، لكنه يعاني ويكابد نار شهواته ورغباته ويكافح طوفان ميله للانفلات وفضوله لتجربة الجديد، فيأتي للخطيب شاكيًا هواه ونزواته وضعف نفسه أمام أهوائها!، ومنهم من هو قانت راكع ساجد طائع... وعليه: فمن المراهقين من تمر فترة مراهقته هادئة وادعة فلا يحس بها أحد ولا يعاني منها هو، ومنهم من مراهقته عاصفة قاصفة راعدة ثائرة تتعبه وتتعب من حوله.

 

وتختلف مواقف إخواننا الخطباء تجاه المراهقين، فمنهم من لا يعيرهم اهتمامًا ويراهم ما زالوا أطفالًا فهو لا يضيع وقته وجهده معهم! ومنهم من يقدرهم قدرهم لكنه يرى أن هناك قضايا مصيرية أولى بصرف الجهد والتركيز إليها، ومنهم من يصرف إليهم بعضًا من جهده وعمله ووقته فتراه لهم ناصحًا ومصاحبًا لكنه لا يفتأ يعروه الملل منهم حين يراهم يكبون ويقعون فيما نهاهم عنه فيتركهم وينصرف عنهم! ومن الخطباء من يعي خطورة تلك المرحلة؛ "مرحلة المراهقة" ويدرك أن مراهقي اليوم هم شباب ورجال الغد فهو لا يدخر جهدًا في الوصول إليهم وإنفاق الأوقات عليهم...

 

وفي الصفحات القادمة سطرت بعض تجارب متواضعة مع عدد من المراهقين، وقد استقيت منها أركان استراتيجية أظنها ناجعة في التعامل معهم، وأترككم الآن معها.

***

 

صليت المغرب في يوم من الأيام بالناس، ثم ألقيت على مسامعهم ما أعددته من موعظة تعودنا عليها وكانت تدور تلك الليلة حول: "أسس التربية الناجحة للأولاد"، وإذا برجل يأتيني بعد انتهائي من الدرس شاكيًا من عقوق ابن اخته لها وتمرده على والده، وطلب مني أن أذهب معه بعد العشاء إلى بيت ذلك الابن العاق لأجلس معه وأعظه لعله ينتفع بما أقول، فوعدته بذلك.

 

وبعد صلاة العشاء انطلقنا إلى ذلك المنزل الذي كان قريبًا من المسجد، فقلت وأنا أعبر بوابته: لعلي أعرف هذا الابن ووالده جيدًا؛ فمنزلهم قريب من المسجد ولعلهم صلوا معي كثيرًا، وما هي إلا لحظات وكان الرجل المصاحب لي يستأذن لي في الدخول، ودخلنا فاستقبلني الوالد استقبالًا باهتًا غير مكترث ولا مهتم، وفاجأني أني لم أرَ وجهه في المسجد من قبل مع أنه جار له!، وما أن جلسنا حتى قال في صوت مرتفع مخاطبًا خال أولاده الذي اصطحبني من المسجد: "هل أتيت بشيخ المسجد ليعظه؟! فوالله لو أتيته بفلان وفلان -من علمائنا الكبار- ما انتفع وما أطاع"، فأحسست ببعض الحرج من ذلك الأسلوب الجافي، وأدركت أن هذا الوالد سبب من أسباب مشكلة ابنه الذي جئت من أجله.

 

وخيم الصمت على ثلاثتنا برهة من الزمان قطعها صاحبي مخاطبًا زوج أخته: "فأين وائل إذن؟"، ووائل هو من أتينا من أجله، فأجاب والده: "لقد نزل يتسكع في الطرقات مع أقرانه على الرغم من رفضي لذلك، لكنه لم يطع أمري!"، وللمرة الأولى يلتفت هذا الوالد إليَّ، وكأنه انتبه مؤخرًا لوجودي، وبدأ يشكو مر الشكوى من عقوق ولده وعدم طاعته له... ثم ختم كلامه قائلًا: "وفِّر وقتك وجهدك أيها الشيخ، فلو وعظته إلى الصباح ما هداه الله!"... فسألته -متجاهلًا عبارته-: "كم عمره؟" قال: "أربع عشرة سنة" ثم أردف قائلًا: "قصم الله أجله وعجَّل بهلاكه وأراحني منه"!، وحاولت بعدها جاهدًا أن أوضح له النهي عن الدعاء على الأولاد، وأن الهداية بيد الله -تعالى- يهدي من يشاء وقتما يشاء، وأن ولده في حاجة إلى دعائه...

 

ثم خرجت من عندهم وما ظفرت منه إلا بشيئين اثنين؛ الأول: أن يصلي هو كل صلاة جمعة معي في المسجد الذي أخطب فيه، أما الثاني فأن يسمح لخال أولاده أن يصطحب ذلك الابن إلى المسجد إن استطاع، ولقد طلبت منهم شيئًا ثالثًا؛ هو ألا يدعو على ولده أو حتى أن يمتنع عن الدعاء عليه وقتًا محددًا من الزمن، لكنه صرخ في عصبية: "والله لا أكف عن الدعاء عليه أبدًا حتى يهلكه الله أو أموت أنا"! ومع تعجبي من فعله وغضبه الشديد على ولده، إلا أنني أدركت أن ذلك الوالد في حاجة إلى الوعظ والتعليم والتذكير ربما أكثر من ولده المراهق! وأثناء نزولي أنا وصاحبي من منزلهم أخذت عليه العهد والميثاق أن يحاول بكل طريق أن يجلب ذلك المراهق إليَّ في المسجد بشرط ألا يخبره بأنني قد ذهبت إلى منزله ولا أنني التقيت بوالده.

 

وبعد أيام عدة وجدت صاحبي هذا يدخل عليَّ وفي صحبته مراهق هو أطول منه وأضخم جسمًا، فأدركت فورًا أنه المقصود، سلَّمت عليهما ورحبت بهما، ثم جلسا أمامي، وافتتح الخال الكلام قائلًا: "أيها الشيخ: إن ابن أختي هذا قد أتى ليسألك في بعض الأمور التي عجزت أن أجيبه عنها"، فالتفت إلى ذلك الشاب المراهق متبسمًا وقائلًا: "تفضل، كلي آذان صاغية"، وعندها أطرق المراهق إلى الأرض في تردد، ثم بدأ ينطق في تلعثم قائلًا: "ما حكم الدين إن قتل المرء نفسه لئلا يعصي ربه أو لأنه يعجز أن ينفذ أوامره؟!"، ومن سؤاله هذا أدركت كمَّ الصراع الداخلي الذي يحيا فيه هذا المراهق، وقبل أن أفتح فمي بكلمة انطلق الأذان لصلاة العصر، فاصطحبه خاله إلى مكان الوضوء وقد بدا على المراهق التردد.

 

بعد الصلاة جلسنا وطالت جلستنا، سألني كثيرًا فأجبته عن بعض الأسئلة وتركت الإجابة عن بعضها في لباقة إلى حين، كان يطرق كل حين وكأنه لا يدري ما يقول فافتح عليه الكلام، كانت تستغلق عليه بعض الكلمات وبعض الأسئلة فلا يدري كيف يصوغها فأصوغها أنا بدلًا منه، كنت أحاول أن أنفذ إلى خباياه إلى أغوار نفسه لأتلمس ما يفتعل داخله من أحاسيس جياشة ومشاعر متضاربة وأفكار متناقضة وتساؤلات حائرة ونزوات ثائرة وعجائب لا يدري لها كنهًا ومستجدات تعتريه حينًا بعد حين وغرائب يكتشفها في جسده... ولقد أدركت من خلال حديثه ضحالة علمه بأحكام دينه حتى أنني اكتشفت أنه صلى العصر معي وقد كان في حاجة إلى غسل من الجنابة!

 

واستأذن في الانصراف ومضى على وعد باللقاء أخرى، انصرف وقد كوَّنت فكرة كبيرة عن شخصيته وطبائعه وما يدور في وجدانه، والذي لا يختلف كثيرًا عما يفتعل في نفس كل من يمر بتلك المرحلة العمرية؛ "مرحلة المراهقة"، وكعادتي جلست منفردًا وقد شغلني أمره، سرحت بالفكر طويلًا، وعدت بذكرياتي عقودًا إلى الوراء حيث كنتُ تقريبًا في مثل سنه، تذكرت ردود فعلي على تلك المتغيرات المتتابعة في جسدي، عايشت تلك المشاعر الفوارة التي كانت تسيطر على نفسي من التمرد على الأوامر والتأبي على النصائح والسعي إلى الاستقلالية والرغبة في الانطلاق والتحرر والانعتاق من القيود... وتذكرت أيضًا كيف كنت سريع التقلب بين السعادة والحزن بين الشعور بالعجز وبالقوة بين تخيلي حينًا أنني أعرف كل شيء وإدراكي أحيانًا أنني لا خبرة لي بشيء... وكم أفادني ذلك التخيل في فهم شخصية ذلك المراهق.

 

وهرعت إلى مكتبتي وإلى كل مصدر أستقي منه معلومات عن تلك الفترة العمرية الحرجة، وأخذت أنقب عن طرق التعامل مع المراهقين، وقد أهمني أمر ذلك المراهق، فهداني الله -عز وجل- إلى كتابة بنود تلك الاستراتيجية؛ "استراتيجية التعامل مع المراهقين"، وكانت كالتالي:

 

أولًا: سلكت الطريق إلى قلبه:

إن المشاعر والعواطف والأحاسيس هي أكثر ما يسيطر على المراهق في سنه تلك، فالمراهق -في الأغلب الأعم- إنسان تحكمه عواطفه من حماسة وكآبة وسعادة... لذا فإنك إن استطعت النفوذ إلى قلبه من خلال التأثير في مشاعره وأحاسيسه فقد ملكت عليه نفسه، وليس من عاطفة أبلغ تأثيرًا في نفس المراهق من عاطفة الحنان عليه والرحمة والترفق به، ولقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، إن المراهق إنسان يرى ما لم ير في عمره السابق؛ يرى جسده يتغير، ونفسه تتطور، يثور في عقله ألف سؤال وسؤال، تتفجر داخله براكين الشهوات والرغبات، يطمح فيما يعجز عنه غالبًا، يتمزق بين أوامر التدين وبين مطالب الدم واللحم... لذلك هو في صراع ونزاع ومغالبة وتقلب إلا أن يتولاه الله بولايته.

 

لذا فقد ترفقت به أيما ترفق، رأيته يرتكب مخالفات بجهل فأجلت الإنكار عليه إلى الوقت المناسب، نطق بما لا يليق من ألفاظ وهو لا يرى بها بأسًا فتغاضيت ولم أعتب عليه إلى حين، أخلف بعض مواعيده معي فصبرت وأعطيته غيرها، بل لقد ثار عليَّ مرة في انفعال لأمر بسيط -وهذي عادة بعض المراهقين- فتبسمت له وقلت: "حنانيك رفقًا بنفسك" ثم وضحت له ما أستغلق عليه... وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"([1]).

 

وكلنا قد سمعنا حكاية ذلك الشاب الذي جاء يستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الزنا، ولا أظنه إلا مراهقًا؛ فألفاظ الحديث -فضلًا عن الموقف نفسه- ترجح ذلك بشدة، ففي لفظ: "إن فتى شابًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-..."، وفي آخر: "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلام شاب فقال...".

 

فإن بعض الحاضرين حول النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدركوا ما يفتعل في نفسه من فوران وغليان فقاموا إليه ليقعوا به، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك حالته تمام الإدراك، لذا فقد ترفق به وخاطبه مشفقًا عليه قائلًا له في رفق: "أتحبه لأمك؟"، فقال: لا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم!"، فسأله الثانية: "أتحبه لابنتك؟" قال: لا، قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟" قال: لا، قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟"، قال: لا، قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟" قال: لا، قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك" فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطهر قلبي، فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره فقال: "اللهم أغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن الشاب بعد ذلك يلتفت إلى شيء([2]).

 

وبمثل هذا ينبغي أن يعامل المراهق؛ في رحمة وشفقة ورفق وحنان وتفهُّم للمرحلة العمرية التي يمر بها، إن المراهق في حاجة إلى ربت على كتفه ولمس ليده وفرك لشعره ومسح لصدره، وكلمة مؤازرة وإشعار بتقديره وفهم لأحاسيسه...

 

وثانيًا: تركت التأنيب والتوبيخ والسخرية منه:

وإن كان هذا بديهي فقد ترقيت معه درجة فعلَّمته أن "كل بني آدم خطاء"؛ كي لا يسخر هو أو يؤنب أو يحتقر من عاينهم متلبسين بما يشين... لقد اكتشفت أن أباه قد سقط من نظره لأنه لا يصلي وكان دائم التوبيخ له والدعاء عليه وكان لا يقدره ويعامله بازدراء معتقدًا أن هذا عين العدل؛ فأباه لا يطيع ربه فيصلي وهو يعصي من عصى الله!، وكم كانت مفاجأته لما سمع قول الله -عز وجل-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].

 

وعلًّمته هذا أيضًا من أجل نفسه؛ فقد كان شديد الندم قاسي التأنيب لنفسه لكل معصية وتقصير وتفريط يصدر منه، وهذا ما قد يصل به إلى درجة اليأس من صلاح نفسه والقنوط من رحمة ربه -والعياذ بالله-، فمرة وقد جاءني محطَمًا قد احمرت عيناه من كثرة البكاء تظهر عليه علامات الفزع والاضطراب والتحسر، فقلت له لما خلوت به: ما لك؟! قال: كنت في شقتنا فقمت أغلق النافذة التي تطل على "منور" البيت، فوقعت عيني على جارتنا في الطابق السفلي المطلة نافذته على ذات "المنور" وقد تخففت من بعض ملابسها، فتسمرت في مكاني محدقًا فيها ولم أستطع حراكًا، وبينما أنا كذلك إذ ضبطني أبي وأمي فانهالا عليَّ ضربًا وسبًا وتقريعًا، ثم انطلق أبي يدعو عليَّ ويسأل الله أن يهلكني، وخرت أمي منهارة باكية قائلة: "لقد خيَّبت أملي فيك" ثم أغمي عليها، فصرخ بي أبي: "ويلك لقد قتلت أمك وقضيت عليها"... يحكي هذه الكلمات في انفعال واضطراب وشعور بالضياع والخيبة والخسران شاعرًا أنه المسئول وحده إن حدث مكروه لأمه...

 

فمثل هذا المراهق قد أخطأ خطأً وزل زلة، لكن في نظري أن ما فعله أبواه وأمه قد أفسد وما أصلح وهدم وما بنى، فقد كان الأولى بهما أن يكونا أكثر حكمة في تعاملهما مع ولدهما، يعاقبانه لكن في تعقل، يؤنبانه لكن في هدوء مع بيان فداحة جرمه، كان الأولى بهما أن يستثيرا غيرته ونخوته فيقولا: "تُرى لو صنع أحدهم ذلك فاسترق النظر إلى عورات أمك أو أختك وتلصص عليها، ماذا كنت فاعلًا، وبما كنت له واصفًا"...

 

ولا أنسى كيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من جاءه قائلًا: "هلكت، يا رسول الله"، قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: "هل تجد ما تعتق رقبة؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟" قال: لا، قال: ثم جلس، فأُتيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: "تصدق بهذا"، قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا!، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك"([3]).

 

فإن كان هذا فعله -صلى الله عليه وسلم- مع رجل راشد متزوج ارتكب كبيرة من الكبائر فأفطر في نهار رمضان متعمدًا بلا عذر، فكيف ينبغي أن يكون التعامل مع زلة مراهق ارتكبها جاهلًا غير متجهز لها! أليس أولى وأحق بالرفق واللين والشفقة والرحمة؟!

 

وثالثًا: أشعرته بقيمته وبحريته:

لقد كان "وائل" المراهق يحتقر نفسه ويزدريها؛ والأسباب لذلك كثيرة، لعل أهمها سقوطه المتكرر في المعاصي التي يعلم يقينًا أن الدين يحرمها، فكلما سقط في حمأة المعصية سقط من عين نفسه، ومنها: إهانة والديه له من خلال مبالغتهم في التوبيخ والتسفيه لكل خطأ يقع فيه ولدهم وإن كان خطأً صغيرًا، ومنها: خلو يده من الإمكانيات وشعوره باحتياجه إلى سواه وعدم قدرته على الاستقلالية التي يتمناها...

 

فكانت مهمتي أن أشعره أنه شيء مهم في هذه الحياة، أن أبني في نفسه الثقة في نفسه، أن أجعل له هدفًا أسمى وأمنيات أرقى، فركزت على مميزاته مهما كانت ضيئلة وأبرزت حسناته ولو كانت قليلة ومدحته بانضباط على أقل تقدم... حتى لقد لاحظت بدء استقرار نفسه وأنسه بالمكث معي في المسجد.

 

واحترام المراهقين وتقديرهم أمر أصَّله ديننا وأسَّسه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدح، فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال: "يا غلام أتأذن لي أن أعطي الأشياخ"، فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه([4]).

 

فأما الغلام فهو عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، والشيخ الذي كان عن يسار النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وعليه فإننا نستطيع أن نؤكد أن ابن عباس ساعتها كان في سن المراهقة؛ فابن عباس يقول عن نفسه: "ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاث عشرة سنة"([5])، وقد كانت هذه الواقعة بعد فتح مكة لأن خالدًا لم يسلم إلا بعد الفتح، وقد كان فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة وابن عباس عمره عشر سنين، وهذا يعني أن الواقعة التي نحن بصددها حدثت وابن عباس بين العاشرة والثالثة عشر من عمره، وهي من سنوات المراهقة.

 

أضف إلى ذلك أن كلمة غلام مشتقة من مادة:"غلم" التي تعني في اللغة: اهتياج الشهوة، والغلام هو الولد الذى نبت شاربه؛ لأنه حينئذ ينزع إلى شهوة النكاح([6])، والشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احترم وجود ابن عباس الذي هو في فترة المراهقة، فالتفت إليه واستأذنه في أن يسقي الأكبر سنًا عن يساره، ولما لم يأذن ابن عباس نزل -صلى الله عليه وسلم- على رغبته وأعطاه الإناء.

 

وأتركك -أخي الخطيب- الآن لألقاك إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه التجربة مع المراهقين.

 


* كل وقائع هذا المقال واقعية حقيقة قد عاشها وعاينها كاتب هذا المقال، وإن كانت مع أكثر من مراهق.

[1])) مسلم (2594).

([2]) أحمد (22211)، ومسند الشاميين للطبراني (1066)، وصححه الألباني (الصحيحة: 370).

[3])) البخاري (1936)، ومسلم والسياق له (1111).

[4])) البخاري (2366)، ومسلم (2030).

[5])) البداية والنهاية لابن كثير (8/325)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى 1408، هـ - 1988 م.

[6])) نقلًا عن موقع بيان الإسلام: http://bayanelislam.net.

المشاهدات 781 | التعليقات 0