حكايتي مع المشي // د. مالك الأحمد

احمد ابوبكر
1436/02/07 - 2014/11/29 04:10AM
[align=justify]الحديث عن المشي هو حديث عن الحياة بكل تفاصيلها وأبعادها الإنسانية والوجدانية.

المشي سلوك وخلق، قال تعالى: “وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً" ذم الله الخيلاء، والمرح، والعجب، وذلك من خلال ذم هيئة المشية.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مشى أبو دجانة متبختراً أمامه في غزوة أحد: “إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".

إذن هناك مشي جيد ومشي سيئ!

تقول الكاتبة رحاب حسان: “إن علماء النفس والفراسة يقولون: إن مشي المرء يعطي مدلولاً على شخصيته! بل يعدونه ميزاناً للاستقرار والاتزان النفسي!

إن طريقة المشي تعطي الانطباع الأول الذي يظل شديد الأهمية في العلاقات الإنسانية، فلو مشى الشخص بتثاقل وكأنه يجر رجليه، محنياً ظهره، كان هذا دليلاً على الانطواء والكآبة، وبعكسه لو مشى معتدلَ القامة بخطى ثابتة، فذلك دليل على اتزان الشخص واستقراره النفسي وقوته النفسية".

هل سمعت قارئي الكريم بالوهص، والرهو، والجدف، والدلف، والبيقرة، والزياف؟ إنها أنواع المشي عند العرب.. اضبط مشيتك حسب لغة العرب!

يقول الأعشى عن محبوبته:

غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها ** تمشي الهوينى كما يمشي الوَجِي الوَجِلُ

أي تمشي بتريث متغنجة متدللة!

يتحدث البعض عن المشي بحكم “التخصص"، أو الخبرة والتجربة، أنا سأتحدث عن المشي بحكم “الهواية" والممارسة المتقطعة..

المشي.. بالنسبة لي.. متعة.. نفسية وفكرية قبل أن تكون رياضة شخصية..

أحب المشي مع “الأحبة" والأصدقاء.. كما أفضل المشي كوسيلة للتعرف على الجدد من المعارف، أواعد البعض في “الممشى" لعرض موضوع ومناقشة قضية، أو حل إشكال، وفي كثير من الأحيان أجد إجابة وافية..

أثناء المشي تتفتح العقول، وتزدهر الأفكار، وتخرج الإبداعات..

المشي سلوك رياضي جسدي وعقلي ونفسي، أرفه بالمشي عن نفسي، وأهدئ من روعي، وأقلل من احتقانات صدري!

في المشي تتقارب النفوس وتتحطم الحواجز، وتسهل “السيطرة" على الآخر، وتوجيه فكره ورأيه.

يقولون “غداء عمل" حيث ينجزون الكثير من الصفقات على المائدة، حين تتخلخل العقول وتقل المقاومة لآراء الغير..

وأقول الأمر نفسه ينطبق على المشي، ففيه “لذة" ومتعة الطعام، كما فيه “أجواء" النقاش السلس والوصول إلى اتفاقات، وتوصيل أفكار واقتراحات.

مشيت مع البعض “بطيئي" المشي فأوجعني ظهري، ومشيت مع البعض “سريعي" المشي فأوجعتني سيقاني، التوسط أيها الأفاضل جيد، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم رائع. يقول علي بن أبي طالب في وصف مشيه: إنه يتكفأ في مشيته كأنما ينحدر في صبب، أي في موضع منحدر، وذلك دليل على سرعة مشيه؛ لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه. قال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة، وفي رواية أنه إذا مشى تقلع، والتقلع القوة في المشي مع تتابع الخطى. وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه في وصف مشيه: ذريع المشية، والتَّذْرِيعُ في المشي: تحريك الذِّراعين أي استخدام الذراعين في المشي، دلالة على انتظام المشية، واتزانها واتزان الجسد كله معها.

فمشيتُه صلى الله عليه وسلم كلها حيوية وقوة، مع حركة منتظمة مع تتابع في الخطى، وثبات دون توقف أو عجلة أو تبختر.

مشيت في أزقة فتعبت عيني من النظر خشيت السقوط في حفرة، أو الاصطدام بلوح!

مشيت في الشوارع (على الأرصفة) خائفاً متوجساً أن تدهسني سيارة منفلتة!

مشيت في أماكن مخصصة للمشاة، وكثيراً ما أتفادى الاصطدام مع البعض “ضعيفي النظر"!



مشيت مرة في الصحراء (البر) في نزهة برية، ومعي صاحب بعد الفجر وأضعنا بقية رفاقنا.. لتشابه طبيعة الأرض.. وبعد أن أصابنا التعب والإرهاق (في حدود ساعتين) نزلنا (ضيوفاً) على مجموعة من المتنزهين (طبعاً برغبتنا!) وتناولنا معهم إفطاراً شهياً، ثم طلبنا أن نبحث عن رفاقنا بسيارتهم، وما هي إلا دقائق إلا وقد وجدناهم يبحثون عنا، وقد أصابهم الملل والجوع وبرد إفطارهم (ونحن في شبع وسعادة)!

قدرت المسافة بحدود 5 كيلومترات من الفندق إلى مقر المؤتمر (في أمريكا)… قلت في حدود ساعة مشي.. الجو جميل.. والمناظر فاتنة.. توكلت على الله وانطلقت.. أضعت الطريق في البداية (ضيعت قريب نصف ساعة) ثم واصلت.. . بعد مدة غاب رصيف المشاة.. فبدأت أمشي أحياناً على الأسفلت وتتخطفني السيارات! وأحياناً على العشب الرطب جداً فتغوص قدماي فيه !.. أنهكت تماماً.. بحثت عن تاكسي.. لا يوجد.. واصلت بعد أن كدت أسقط من الإعياء لرداءة الطريق والوقت الطويل (أكثر من ساعتين).

كنت في سنغافورة… زرت مع صديقي أحد المراكز قررنا العودة مشينا؛ لأن الطريق جيد وآمن والمسافة – في ظننا – ليست طويلة.. بعد ساعة أنهكنا التعب من الحر والرطوبة.. سألنا عن الفندق قيل إنه قريب.. واصلنا على أمل الوصول بسرعة.. أيضاً أكثر من نصف ساعة.. وصلنا الفندق، ولم يبق في ملابسنا قطعة إلا مبللة بالعرق!

قلت لصاحبي إن قلت نمشي في سنغافورة سأخنقك!!

أحياناً كثيرة أمشي بمفردي.. اقرأ من القرآن ما تيسر.. لا أشعر بالوقت.. أتفاعل مع الآيات.. أحياناً أكلم نفسي وأعبر عن معاني القرآن… أشعر براحة واطمئنان عجيب.. غالباً ما أمشي في المساء.. وأحياناً نادرة في الصباح الباكر.. ولاشك أن مشي الفجر أفضل وأصح (حسب كلام أهل الاختصاص) لكني وجدت في مشي المساء متعة مختلفة.. آتي العشاء مشتهياً راغباً بخلاف الليالي التي لا أمشي فيها.. أيضاً يكون نومي هانئاً عميقاً مريحاً، بعد حمام دافئ جميل.. ولكل وقت ميزته!!!

رافقني البعض في المشي وهو لابس النعال.. في ختام الجولة.. شعر بألم في رجليه.. قلت له لست أنا المسؤول..

البعض يجامل في المشي.. بعد مرحلة يسيرة يتوقف ويقول تعبت كفاية… أقول لا عتب عليك.. أذهب وأنا سأواصل وحدي !..

بعض الشباب أطلب منه أن نلتقي في المشي يرفض بعد تجربة مريرة من التعب حيث لم يتعود ذلك!

أحدهم كان رفيقي في سفر خارجي.. بالكاد يرفع رجليه عن الأرض، دائماً يمشي خلفي بمسافة، يمشي قليلاً ويتوقف كثيراً.. أتعبني، وأتعبته.

أحدهم – في باريس – وبعد تجوال جاوز الساعة غضب وقال: “كفاية" لن أتحرك من مكاني تعبت كثيراً من المشي!.. خلع حذاءه وجواربه وجلس على الأرض (في باريس!) في مشهد مضحك مؤلم.. قلت.. لا بأس عليك.. نرجع حالاً للفندق لترتاح!!

يقول لي أحدهم: المشي يصفي الدماغ، وينشط خلايا العقل بل – ويزيد – أن هرمون السعادة في الجسم يزداد مع نشاط المشي.. هي رياضة.. وسعادة.. وتأمل.. وذكر.. وتجديد للعقل.. وو…. هلم بنا إلى المشي!![/align]
المشاهدات 1009 | التعليقات 0