حق السجين والمفرج عنه وأسرهم

حق السجين والمفرج عنه وأسرهم
الخطبة الأولى
الحمد لله فتح بابه للتائبين، وقبل برحمته رجوع المذنبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا الله عباد الله وكونوا إخوانا في الله فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا.
أيها المسلمون: إن الله تعالى جعل المسلمين أمة واحدة ارتبط أفرادها برابطة الأخوة الإيمانية {إنما المؤمنون إخوة} يفرحهم ما فيه عزهم وجمع كلمتهم والسعي بما فيه صلاحهم واستقامة مجتمعاتهم، ويسوؤهم ما فيه سبب هوانهم وتفريق صفهم وفلِّ وحدتهم وإفساد تجمعهم.
وإن شريحة من شرائح مجتمعنا وفئة من فئاته تعيش معنا وبيننا ابتلاهم الله ببلاء خاص تأثروا منه وتأثروا به، بل وطال أثره غيرهم، طال أولادهم وعوائلهم.
هذه الفئة التي تقف مكتوفة الأيدي لا حول لها ولا قوة سوى سكب العبرات وكتم الآهات والأنات، وهي ترى الأولاد والبنات والزوجات قد حرموا من حنان الأبوة وتفرق شمل الأسرة وغياب ربانها وقائدها عنها.
إنهم يا عباد الله: شريحة السجناء الذين كتب الله عليهم لسبب أو لآخر أن يقبعوا في ظلمات السجون ويسكنوا غياهب الحبوس وأن يحرم منهم الأبناء والزوجات والآباء والأمهات مع أنهم موجودون.
والسجن يا عباد الله هو قبر الأحياء لا أحد يريده ولا يتمنى الجلوس فيه ومع ذلك فهو ضرورة من الضرورات جزاءً للمجرم وردعاً للعابث وحفظاً للحقوق.
على أنه ليس كل السجناء مجرمين ففيهم من تعثر في دفع ديونه، أو من تعثر في دفع أقساط سيارة اشتراها ‏بالتقسيط كي يسترزق من خلالها ثم تورط في حادث أدى إلى خرابها، أو من كفل عن شهامة قريباً أو صديقاً‎ ‎وتهرب الآخر عن الدفع فسجن لذلك، ‏أو من تسبب في موت إنسان عن غير قصد ولم يستطع‎ ‎أن يدفع الدية، وقد يدخله الإنسان ظلماً وبهتاناً كما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام حينما لبث في السجن بضع سنين, بسبب رفضه فعل الفاحشة، وليس الطلقاء براء من العيوب، فكل أعرف بنفسه وإن لم تطله يد الرقيب.
إن بلاء السجن أيها الأخوة بلاء عظيم يجب أن نأخذ منه العبر وأن نقف من المساجين مواقف مشرفة شعارها التعاون على البر والتقوى، فهم من جملة المسلمين، والتبرؤ منهم والتساهل في حقوقهم تفريط فيما أوجب الله تجاههم.
إن لهؤلاء المساجين علينا حقوقاً كثيرةً نجهل منها الكثير ونتجاهل الكثير:
إن من أهم حقوقهم ألا نشمت بهم فهذا قدر كتبه الله عليهم فشماتتنا بهم هي شماتة بقدر الله، والشماتة شؤم يلاحق الشامتين، فاشكروا الله على العافية واسألوه لإخوانكم الخلاص من البلوى، وأن يفرج الله همهم ويفك أسرهم ويعيدهم إلى أهلهم ومن ينتظرهم أسوياء تائبين، ونسأل الله تعالى أن يعافينا مما ابتلاهم به.
وإن من حقوقهم: أن نرعاهم ونتفقدهم وننظر حوائجهم ونحفظ كرامتهم، فهم لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته يوم القيامة.
ومن حقوقهم بعد الخروج: الفرح بتوبتهم وتطهيرهم من الذنوب، ومتابعة سلوكهم والأخذ بأيديهم، وتذكيرهم بأن الحياة دروس، والكبوة والغفلة علاجها التوبة، وإحياء مبدأ الخوف من عذابه الأخروي والدنيوي، والرغبة بثوابه ونعيمه، وأن الواجب الإكثار من الاستغفار والإقبال على الله ليصلح له ما أفسدته يد المعصية ودنسته أوساخ الخطيئة، يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ), رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
ومن ذلك: فتح المجال لهم دون سوط الماضي وتمكينهم من الأعمال التي يرفعون بها زلتهم، ويُشغلون بها أنفسهم، وعدم تحقيرهم والشماتة بهم بعد خروجهم وتعييرهم بأنهم كانوا سجناء في يوم من الدهر وبحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فقبول السجين بعد أن فرج الله عنه فيه إعانة له على نفسه وشد من أزره وقطع لأطماع رفقاء السوء منه، والسجين يبتلى بعد خروجه كما يبتلى في سجنه، وما الإشادة النبوية بتوبة الغامدية إلا تنويهاً بمنـزلتها وإن قتلت رجماً، وما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) لمن أُتي به فجلد، فقال أحد من حضر: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، إلا صور من عظمة هذا الدين الذي يرحم حين يعاقب، ويحسن حين يحاسب.
عباد الله: إن ديننا ينص على ألا يؤاخذ أحد إلا بذنبه {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فلا ذنب لأسر السجناء حين تُقصى أو تدان، ولذا فالواجب تفقد أسرهم وأولادهم الذين حرموا حنان الأبوة وفقدوا عائل الأسرة، فإنهم أيتام وآبائهم أحياء، وهذا حق عظيم، وأجره كبير.
فتذكر أطفالهم المحرومين وقد سالت دموعهم على خدودهم، وهم يرون غيرهم يلبس الجديد ويشتري الجديد و هم لا حول لهم ولا قوة، وتذكر أمهات هؤلاء الأطفال وقلوبهن تتفطر وأكبادهن تتشقق حسرة على أطفالهن الذين حرموا من أب يؤمن ما أمنته أنت لأبنائك، كم ستكون فرحتهم عندما تمد لهم يد العون وتجود عليهم مما جاد الله به عليك، ولعلك تحصل على دعوة من طفل بريء أو زوجة محرومة أو أم مفجوعة تكون سببا لسعادتك في الدنيا والآخرة.
وقد سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -حفظه الله- عن أبناء السجناء وأنهم يعانون من فقدان عائلهم وراعيهم خلال قضاء فترة طويلة في السجن، فهل يُعتبر هؤلاء الأبناء بمنزلة الأيتام في الحاجة للعون والمساعدة؟.
فأجاب حفظه الله: هؤلاء الأولاد قد يكونون في حالتهم هذه اشد من الأيتام ،لأن اليتيم معلوم عند الناس أن أباه قد مات فيعطفون عليه ويصلونه, وأما هؤلاء فقد تكون النظرة إليهم نظرة احتقار وازدراء ونظرة عتاب، وقد لا ينتبه لحالهم ويهملون، وهذا خطر عظيم، فإن الأولاد لا يتحملون أخطاء آبائهم, ولا يجوز تحميلهم إياها ولا احتقارهم, وإنما الواجب النظر إليهم بعين الرحمة, ومواساتهم وتصبيرهم على مصابهم, وتشجيعهم للخروج من محنتهم, وتحذيرهم من العزلة, ومحاولة خلطهم بالمجتمع الصالح الذي يستفيدون منه في دينهم ودنياهم، وتفقد احتياجاتهم وتأمينها لهم، وإن كانوا فقراء فيعطون من الزكاة، وكذلك تفقدهم في المدارس ومتابعتهم حتى لا تزل بهم القدم والعياذ بالله فيما لا تحمد عقباه. انتهى.
ومن هذا المنطلق فإن الدولة رعاها الله قد أقرت لجاناً وطنيةً لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم وحثت الناس على المشاركة بقدر ما يستطيعون حتى لا تشعر هذه الفئة بالنقص والحاجة والعوز مما قد يجر إلى الانزلاق وراء أمور لا تحمد عقباها.
فليعمل كل فرد على حصانة نفسه من الموبقات الإجرامية، أو المغامرات المالية التي مآلها الحجر لمصلحة نفسه أو غيره، والاجتهاد في التواصل مع أولاده وكشف عواقب الانحراف ودعم كل عمل خيري وإصلاحي يكفل للمجتمع النزاهة والسلامة، عافانا الله وإياكم من الفتن.
اللهم أزل الظلم عن المظلومين، اللهم واقض الدين عن المدينين، اللهم اكشف الكربة عن إخواننا المسجونين، اللهم فرج عنهم، وفك أسرهم، وردهم إلى أهلهم صالحين مصلحين، اللهم احفظ أعراضهم وأبناءهم وسخر لهم من يمد لهم يد العون برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا جميعاً بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وتزودوا للآخرة من الدنيا فإنكم عن الدنيا راحلون، وعلى الآخرة مقبلون، وللأعمال الصالحة محتاجون.
أيها المسلمون: استغلوا هذا الشتاء والبرد في تفقد أحوال إخوانكم الذين ابتلاهم الله وكونوا عونا لهم واعلموا أن من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. تفقدوا الفقراء والمساكين وأسر المساجين فإنهم في حاجة ماسة حتى وإن لم يشتكوا ويطلبوا، وأدخلوا السرور عليهم وابتغوا بذلك وجه الله وأبشروا بالثواب والخلف والرزق فإنه ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده.
فاتقوا الله عباد الله واستشعروا عظم المسؤولية فالمسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ثم صلوا وسلموا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.




هذه الخطبة مستقاة من مجموعة من الخطب لعدد من أصحاب الفضيلة

المشاهدات 2664 | التعليقات 1

الخطبة مرفقة على مستند وورد

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/6/3/8/حق%20السجين%20والمفرج%20عنه%20وأسرهم.docx

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/6/3/8/حق%20السجين%20والمفرج%20عنه%20وأسرهم.docx