حق السجناء والمفرج عنهم وأسرهم
سعيد العُمري
1436/02/20 - 2014/12/12 06:14AM
خطبة مجمعة من خطب مشائخنا الكرام في هذا الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم
حق السجناء والمفرج عنهم وأسرهم 20/2/1436هـ
الحمد لله فتح بابه للتائبين، وقبل برحمته رجوع المذنبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ قال تعالى (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)) فوَصَفَ سبحانه أفرادَ المجتمعِ المسلمِ بقولِه :{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }ووصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم كالجسدِ الواحدِ فقال : « تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » رواه البخاري .
وَحَكَمَ صلى الله عليه وسلم بالخَيْبةِ والخُسْرانِ عَلَى مَن فَقَدُوا الرحمةَ بِبَنِي الإنسانِ فقال: « خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ»حسنه الألباني .
عباد الله : إن الله تعالى جعل المسلمين أمة واحدة ارتبط أفرادها برابطة الأخوة الإيمانية {إنما المؤمنون إخوة} فعلى كل مؤمن أن يقوم يما تستوجبه هذه الأخوة نحو أخيه المؤمن في مجتمعنا المسلم وإن شريحة من شرائح مجتمعنا وفئة من فئاته تعيش معنا وبيننا ابتلاهم الله ببلاء خاص تأثروا منه وتأثروا به، بل وطال أثره غيرهم، طال أولادهم وعوائلهم.
هذه الفئة التي تقف مكتوفة الأيدي لا حول لها ولا قوة سوى سكب العبرات وكتم الآهات والأنات، وهي ترى الأولاد والبنات والزوجات قد حرموا من حنان الأبوة وتفرق شمل الأسرة وغياب ربانها وقائدها عنها.
إنهم يا عباد الله: شريحة السجناء الذين كتب الله عليهم لسبب أو لآخر أن يقبعوا في ظلمات السجون ويسكنوا غياهب الحبوس وأن يحرم منهم الأبناء والزوجات والآباء والأمهات مع أنهم موجودون.
والسجن يا عباد الله هو قبر الأحياء لا أحد يريده ولا يتمنى الجلوس فيه ومع ذلك فهو ضرورة من الضرورات جزاءً للمجرم وردعاً للعابث وحفظاً للحقوق.
على أنه ليس كل السجناء مجرمين ففيهم من تعثر في دفع ديونه، أو من تعثر في دفع أقساط سيارة اشتراها بالتقسيط كي يسترزقَ من خلالها ثم تورط في حادث أدى إلى خرابها، أو من كفل عن شهامة قريباً أو صديقاً وتهرب الآخر عن الدفع فسجن لذلك، أو من تسبب في موت إنسان عن غير قصد ولم يستطع أن يدفع الدية، وقد يدخله الإنسان ظلماً وبهتاناً كما حدث لنبي الله يوسف حينما لبث في السجن بضع سنين, بسبب رفضه فعل الفاحشة، وليس الطلقاء براء من العيوب، فكل أعرف بنفسه وإن لم تطله يد الرقيب.
إن بلاء السجن أيها الأخوة بلاء عظيم يجب أن نأخذ منه العبر وأن نقف من المساجين مواقف مشرفة شعارها التعاون على البر والتقوى، فهم من جملة المسلمين، والتبرؤ منهم والتساهل في حقوقهم تفريط فيما أوجب الله تجاههم.
إن لهؤلاء المساجين علينا حقوقاً كثيرةً نجهل منها الكثير ونتجاهل الكثير:
إن من أهم حقوقهم ألا نشمت بهم فهذا قدر كتبه الله عليهم فشماتتنا بهم هي شماتة بقدر الله، والشماتة شؤم يلاحق الشامتين، فاشكروا الله على العافية واسألوه لإخوانكم الخلاص من البلوى، وأن يفرج الله همهم ويفك أسرهم ويعيدهم إلى أهلهم ومن ينتظرهم أسوياء تائبين، ونسأل الله تعالى أن يعافينا مما ابتلاهم به.
وإن من حقوقهم: أن نرعاهم ونتفقدهم وننظر حوائجهم ونحفظ كرامتهم، فهم لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته يوم القيامة.
ومن حقوقهم بعد الخروج: الفرح بتوبتهم وتطهيرهم من الذنوب، ومتابعة سلوكهم والأخذ بأيديهم، وتذكيرهم بأن الحياة دروس، والكبوة والغفلة علاجها التوبة، وإحياء مبدأ الخوف من عذابه الأخروي والدنيوي، والرغبة بثوابه ونعيمه، وأن الواجب الإكثار من الاستغفار والإقبال على الله ليصلح له ما أفسدته يد المعصية ودنسته أوساخ الخطيئة، يقول : (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ), رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
ومن ذلك: فتح المجال لهم دون سوط الماضي وتمكينهم من الأعمال التي يرفعون بها زلتهم، ويُشغلون بها أنفسهم، وعدم تحقيرهم والشماتة بهم بعد خروجهم وتعييرهم بأنهم كانوا سجناء في يوم من الدهر وبحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فقبول السجين بعد أن فرج الله عنه فيه إعانة له على نفسه وشد من أزره وقطع لأطماع رفقاء السوء منه، والسجين يبتلى بعد خروجه كما يبتلى في سجنه، وما الإشادة النبوية بتوبة الغامدية إلا تنويهاً بمنـزلتها وإن قتلت رجماً، وما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) لمن أُتي به فجلد، فقال أحد من حضر: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، إلا صورة من عظمة هذا الدين الذي يرحم حين يعاقب، ويحسن حين يحاسب.
ومن هذا المنطلق فإن الدولة رعاها الله قد أقرت لجاناً وطنيةً لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم والتي تهدف لمساعدة المفرج عنهم ، وتقديم الخدمات المادية والمعنوية لأسرهم، وتذليل المشكلات التي تواجههم، وتساهم في تحسين بيئة الإصلاحيات والسجون، وبذل كل الأسباب لتهذيب النزلاء وإرشادهم. ونجاح هذه اللجنة مرهون بتعاون المجتمع معهم ومد يد العون لهم وتفهم دورهم وعدم نبذ السجين بعد خروجه بل استقطابه حتى يتماثل للاستقامة والانخراط في المجتمع .
اللهم أزل الظلم عن المظلومين، اللهم واقض الدين عن المدينين، اللهم اكشف الكربة عن إخواننا المسجونين، اللهم فرج عنهم، وفك أسرهم، وردهم إلى أهلهم صالحين مصلحين، اللهم احفظ أعراضهم وأبناءهم وسخر لهم من يمد لهم يد العون برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وتزودوا للآخرة من الدنيا فإنكم عن الدنيا راحلون، وعلى الآخرة مقبلون، وللأعمال الصالحة محتاجون.
أيها الأحبة: اعلموا -وفقني الله وإياكم لطاعته- أن مسؤولية الفرد عما يرتكبه من انحراف أو زلل، إنما هي مسؤولية فردية، والله تعالى يقول: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]. والعجب كل العجب من حال مجتمعنا -أفرادًا ومؤسسات- عندما يمتد عقابهم إلى أسرة السجين، وربما بدون قصد فيزيدونهم ألمًا ومعاناة، وتصبح معاقبتهم بدون جريرة! أو ضحية بلا ذنب! وكم من المآسي في هذا الباب! وكم من زوجة اليوم زوجها مع السجناء!! ولها منه صبية صغار ضعفاء، وبيتهم بالإيجار!! هَمٌّ يحيطُ بها بالليل وهمٌّ بالنهار، ضاقت عليها السبل، وأُوصدت أمامها الأبواب، فهل تذل نفسها وتطرق أبواب الأخيار!! أم تهلك نفسها وتسلك طريق الفجار!!
أحبتي: اسمعوا هذه الرسالة من زوجة سجين بعثتها إليه فقالت: "لقد غيبك السجن، فكم سنة غبت عني!! آهٍ لو ترى كيف ينظر الناس لي ولأولادك!! ليتك تسمع ما يتناقله الناس عنا، لقد اجتمع عليَّ الهم والذل والفقر، ولا أدري ماذا أفعل!! من أين أطعم أولادك؟! ليتك ترى كيف يعيشون!! ليتك ترى حالي وحالهم!! ليتك ترى حال صغارك؟! آهٍ ثم آه، فلست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك، وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة؛ وأنا في ذمتك وعهدك؟! أم أطلب الطلاق فيضيع أولادك، فآهٍ ماذا أفعل؟!". إلى آخر رسالتها الأليمة.
ولقد صوَّر الشاعر تلك المعاناة بقوله:
يا ويح قلبي من سؤال لا أطيق له جواب
أين زوجي كيف غاب
وبمن أستظل متى تحركت الذئاب
ولمن أفر وقد تكاثرت الصعاب
وكيف أطرق أي باب
أأمد يدي للسرابِ أم الخراب
هَمّ قلبي، دمع عيني، فِكْرُ ليلي في اضطراب
أمنياتي بل حياتي في عذاب
أين زوجي كيف غاب
يا ويح قلبي من سؤال لا أطيق له جواب
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -حفظه الله- عن أبناء السجناء وأنهم يعانون من فقدان عائلهم وراعيهم خلال قضاء فترة طويلة في السجن، فهل يُعتبر هؤلاء الأبناء بمنزلة الأيتام في الحاجة للعون والمساعدة؟.
فأجاب حفظه الله: هؤلاء الأولاد قد يكونون في حالتهم هذه اشد من الأيتام ،لأن اليتيم معلوم عند الناس أن أباه قد مات فيعطفون عليه ويصلونه, وأما هؤلاء فقد تكون النظرة إليهم نظرة احتقار وازدراء ونظرة عتاب، وقد لا ينتبه لحالهم ويهملون، وهذا خطر عظيم، فإن الأولاد لا يتحملون أخطاء آبائهم, ولا يجوز تحميلهم إياها ولا احتقارهم, وإنما الواجب النظر إليهم بعين الرحمة, ومواساتهم وتصبيرهم على مصابهم, وتشجيعهم للخروج من محنتهم, وتحذيرهم من العزلة, ومحاولة خلطهم بالمجتمع الصالح الذي يستفيدون منه في دينهم ودنياهم، وتفقد احتياجاتهم وتأمينها لهم، وإن كانوا فقراء فيعطون من الزكاة، وكذلك تفقدهم في المدارس ومتابعتهم حتى لا تزل بهم القدم والعياذ بالله فيما لا تحمد عقباه. انتهى. كلامه حفظه الله
وأنا من هذا المنبر المبارك أهيب بأربَابِ الأَموَالِ وَأَصحَابِ الجَاهِ ، أَن يَتَتَبَّعُوا تِلكَ الأُسَرَ المَرزُوءَةَ وَأُولَئِكَ الأُمَّهَاتِ المَكلُومَاتِ وَالأَطفَالَ المُنكَسِرِينَ ، وَأَن يَتَحَسَّسُوا حَاجَاتِهِم وَيُمِدُّوهُم بما يَكفِيهِم ، لِئَلاَّ يُصبِحُوا فَرَائِسَ لِلمُتَرَبِّصِينَ وَالمَاكِرِينَ مِن ذِئَابِ الأَعرَاضِ ، الَّذِينَ يَنتَهِزُونَ الفُرَصَ فَيَبذُلُون في خُبثٍ ، مُقَابِلَ شَهوَةٍ يَقضُونَهَا أَو عِرضٍ يَنتَهِكُونَهُ . كما أنَّ عَلَى أَصحَابِ الفَضلِ وَالحِسبَةِ ، وَأَهلِ الخَيرِ وَالمَعرِفَةِ ، أَن يَتَعَرَّفُوا عَلَى أُسَرِ المَسَاجِينِ فِيمَا حَولَهُم ، وَيَعمَلُوا جَادِّينَ عَلَى رَفعِ مُعَانَاتِهِم وَتَفرِيجِ ضَوَائِقِهِم وَتَنفِيسِ كُرُبَاتِهِم
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين، ويصلح شأنهم، ويفك أسر المأسورين ويجمع شملهم بأهليهم، ويجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، إنه جواد كريم.
وصلوا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله.فقد أمركم بذلك المولى جل في علاه
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
بسم الله الرحمن الرحيم
حق السجناء والمفرج عنهم وأسرهم 20/2/1436هـ
الحمد لله فتح بابه للتائبين، وقبل برحمته رجوع المذنبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ قال تعالى (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)) فوَصَفَ سبحانه أفرادَ المجتمعِ المسلمِ بقولِه :{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }ووصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم كالجسدِ الواحدِ فقال : « تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » رواه البخاري .
وَحَكَمَ صلى الله عليه وسلم بالخَيْبةِ والخُسْرانِ عَلَى مَن فَقَدُوا الرحمةَ بِبَنِي الإنسانِ فقال: « خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ»حسنه الألباني .
عباد الله : إن الله تعالى جعل المسلمين أمة واحدة ارتبط أفرادها برابطة الأخوة الإيمانية {إنما المؤمنون إخوة} فعلى كل مؤمن أن يقوم يما تستوجبه هذه الأخوة نحو أخيه المؤمن في مجتمعنا المسلم وإن شريحة من شرائح مجتمعنا وفئة من فئاته تعيش معنا وبيننا ابتلاهم الله ببلاء خاص تأثروا منه وتأثروا به، بل وطال أثره غيرهم، طال أولادهم وعوائلهم.
هذه الفئة التي تقف مكتوفة الأيدي لا حول لها ولا قوة سوى سكب العبرات وكتم الآهات والأنات، وهي ترى الأولاد والبنات والزوجات قد حرموا من حنان الأبوة وتفرق شمل الأسرة وغياب ربانها وقائدها عنها.
إنهم يا عباد الله: شريحة السجناء الذين كتب الله عليهم لسبب أو لآخر أن يقبعوا في ظلمات السجون ويسكنوا غياهب الحبوس وأن يحرم منهم الأبناء والزوجات والآباء والأمهات مع أنهم موجودون.
والسجن يا عباد الله هو قبر الأحياء لا أحد يريده ولا يتمنى الجلوس فيه ومع ذلك فهو ضرورة من الضرورات جزاءً للمجرم وردعاً للعابث وحفظاً للحقوق.
على أنه ليس كل السجناء مجرمين ففيهم من تعثر في دفع ديونه، أو من تعثر في دفع أقساط سيارة اشتراها بالتقسيط كي يسترزقَ من خلالها ثم تورط في حادث أدى إلى خرابها، أو من كفل عن شهامة قريباً أو صديقاً وتهرب الآخر عن الدفع فسجن لذلك، أو من تسبب في موت إنسان عن غير قصد ولم يستطع أن يدفع الدية، وقد يدخله الإنسان ظلماً وبهتاناً كما حدث لنبي الله يوسف حينما لبث في السجن بضع سنين, بسبب رفضه فعل الفاحشة، وليس الطلقاء براء من العيوب، فكل أعرف بنفسه وإن لم تطله يد الرقيب.
إن بلاء السجن أيها الأخوة بلاء عظيم يجب أن نأخذ منه العبر وأن نقف من المساجين مواقف مشرفة شعارها التعاون على البر والتقوى، فهم من جملة المسلمين، والتبرؤ منهم والتساهل في حقوقهم تفريط فيما أوجب الله تجاههم.
إن لهؤلاء المساجين علينا حقوقاً كثيرةً نجهل منها الكثير ونتجاهل الكثير:
إن من أهم حقوقهم ألا نشمت بهم فهذا قدر كتبه الله عليهم فشماتتنا بهم هي شماتة بقدر الله، والشماتة شؤم يلاحق الشامتين، فاشكروا الله على العافية واسألوه لإخوانكم الخلاص من البلوى، وأن يفرج الله همهم ويفك أسرهم ويعيدهم إلى أهلهم ومن ينتظرهم أسوياء تائبين، ونسأل الله تعالى أن يعافينا مما ابتلاهم به.
وإن من حقوقهم: أن نرعاهم ونتفقدهم وننظر حوائجهم ونحفظ كرامتهم، فهم لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته يوم القيامة.
ومن حقوقهم بعد الخروج: الفرح بتوبتهم وتطهيرهم من الذنوب، ومتابعة سلوكهم والأخذ بأيديهم، وتذكيرهم بأن الحياة دروس، والكبوة والغفلة علاجها التوبة، وإحياء مبدأ الخوف من عذابه الأخروي والدنيوي، والرغبة بثوابه ونعيمه، وأن الواجب الإكثار من الاستغفار والإقبال على الله ليصلح له ما أفسدته يد المعصية ودنسته أوساخ الخطيئة، يقول : (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ), رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
ومن ذلك: فتح المجال لهم دون سوط الماضي وتمكينهم من الأعمال التي يرفعون بها زلتهم، ويُشغلون بها أنفسهم، وعدم تحقيرهم والشماتة بهم بعد خروجهم وتعييرهم بأنهم كانوا سجناء في يوم من الدهر وبحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فقبول السجين بعد أن فرج الله عنه فيه إعانة له على نفسه وشد من أزره وقطع لأطماع رفقاء السوء منه، والسجين يبتلى بعد خروجه كما يبتلى في سجنه، وما الإشادة النبوية بتوبة الغامدية إلا تنويهاً بمنـزلتها وإن قتلت رجماً، وما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) لمن أُتي به فجلد، فقال أحد من حضر: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، إلا صورة من عظمة هذا الدين الذي يرحم حين يعاقب، ويحسن حين يحاسب.
ومن هذا المنطلق فإن الدولة رعاها الله قد أقرت لجاناً وطنيةً لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم والتي تهدف لمساعدة المفرج عنهم ، وتقديم الخدمات المادية والمعنوية لأسرهم، وتذليل المشكلات التي تواجههم، وتساهم في تحسين بيئة الإصلاحيات والسجون، وبذل كل الأسباب لتهذيب النزلاء وإرشادهم. ونجاح هذه اللجنة مرهون بتعاون المجتمع معهم ومد يد العون لهم وتفهم دورهم وعدم نبذ السجين بعد خروجه بل استقطابه حتى يتماثل للاستقامة والانخراط في المجتمع .
اللهم أزل الظلم عن المظلومين، اللهم واقض الدين عن المدينين، اللهم اكشف الكربة عن إخواننا المسجونين، اللهم فرج عنهم، وفك أسرهم، وردهم إلى أهلهم صالحين مصلحين، اللهم احفظ أعراضهم وأبناءهم وسخر لهم من يمد لهم يد العون برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وتزودوا للآخرة من الدنيا فإنكم عن الدنيا راحلون، وعلى الآخرة مقبلون، وللأعمال الصالحة محتاجون.
أيها الأحبة: اعلموا -وفقني الله وإياكم لطاعته- أن مسؤولية الفرد عما يرتكبه من انحراف أو زلل، إنما هي مسؤولية فردية، والله تعالى يقول: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]. والعجب كل العجب من حال مجتمعنا -أفرادًا ومؤسسات- عندما يمتد عقابهم إلى أسرة السجين، وربما بدون قصد فيزيدونهم ألمًا ومعاناة، وتصبح معاقبتهم بدون جريرة! أو ضحية بلا ذنب! وكم من المآسي في هذا الباب! وكم من زوجة اليوم زوجها مع السجناء!! ولها منه صبية صغار ضعفاء، وبيتهم بالإيجار!! هَمٌّ يحيطُ بها بالليل وهمٌّ بالنهار، ضاقت عليها السبل، وأُوصدت أمامها الأبواب، فهل تذل نفسها وتطرق أبواب الأخيار!! أم تهلك نفسها وتسلك طريق الفجار!!
أحبتي: اسمعوا هذه الرسالة من زوجة سجين بعثتها إليه فقالت: "لقد غيبك السجن، فكم سنة غبت عني!! آهٍ لو ترى كيف ينظر الناس لي ولأولادك!! ليتك تسمع ما يتناقله الناس عنا، لقد اجتمع عليَّ الهم والذل والفقر، ولا أدري ماذا أفعل!! من أين أطعم أولادك؟! ليتك ترى كيف يعيشون!! ليتك ترى حالي وحالهم!! ليتك ترى حال صغارك؟! آهٍ ثم آه، فلست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك، وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة؛ وأنا في ذمتك وعهدك؟! أم أطلب الطلاق فيضيع أولادك، فآهٍ ماذا أفعل؟!". إلى آخر رسالتها الأليمة.
ولقد صوَّر الشاعر تلك المعاناة بقوله:
يا ويح قلبي من سؤال لا أطيق له جواب
أين زوجي كيف غاب
وبمن أستظل متى تحركت الذئاب
ولمن أفر وقد تكاثرت الصعاب
وكيف أطرق أي باب
أأمد يدي للسرابِ أم الخراب
هَمّ قلبي، دمع عيني، فِكْرُ ليلي في اضطراب
أمنياتي بل حياتي في عذاب
أين زوجي كيف غاب
يا ويح قلبي من سؤال لا أطيق له جواب
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -حفظه الله- عن أبناء السجناء وأنهم يعانون من فقدان عائلهم وراعيهم خلال قضاء فترة طويلة في السجن، فهل يُعتبر هؤلاء الأبناء بمنزلة الأيتام في الحاجة للعون والمساعدة؟.
فأجاب حفظه الله: هؤلاء الأولاد قد يكونون في حالتهم هذه اشد من الأيتام ،لأن اليتيم معلوم عند الناس أن أباه قد مات فيعطفون عليه ويصلونه, وأما هؤلاء فقد تكون النظرة إليهم نظرة احتقار وازدراء ونظرة عتاب، وقد لا ينتبه لحالهم ويهملون، وهذا خطر عظيم، فإن الأولاد لا يتحملون أخطاء آبائهم, ولا يجوز تحميلهم إياها ولا احتقارهم, وإنما الواجب النظر إليهم بعين الرحمة, ومواساتهم وتصبيرهم على مصابهم, وتشجيعهم للخروج من محنتهم, وتحذيرهم من العزلة, ومحاولة خلطهم بالمجتمع الصالح الذي يستفيدون منه في دينهم ودنياهم، وتفقد احتياجاتهم وتأمينها لهم، وإن كانوا فقراء فيعطون من الزكاة، وكذلك تفقدهم في المدارس ومتابعتهم حتى لا تزل بهم القدم والعياذ بالله فيما لا تحمد عقباه. انتهى. كلامه حفظه الله
وأنا من هذا المنبر المبارك أهيب بأربَابِ الأَموَالِ وَأَصحَابِ الجَاهِ ، أَن يَتَتَبَّعُوا تِلكَ الأُسَرَ المَرزُوءَةَ وَأُولَئِكَ الأُمَّهَاتِ المَكلُومَاتِ وَالأَطفَالَ المُنكَسِرِينَ ، وَأَن يَتَحَسَّسُوا حَاجَاتِهِم وَيُمِدُّوهُم بما يَكفِيهِم ، لِئَلاَّ يُصبِحُوا فَرَائِسَ لِلمُتَرَبِّصِينَ وَالمَاكِرِينَ مِن ذِئَابِ الأَعرَاضِ ، الَّذِينَ يَنتَهِزُونَ الفُرَصَ فَيَبذُلُون في خُبثٍ ، مُقَابِلَ شَهوَةٍ يَقضُونَهَا أَو عِرضٍ يَنتَهِكُونَهُ . كما أنَّ عَلَى أَصحَابِ الفَضلِ وَالحِسبَةِ ، وَأَهلِ الخَيرِ وَالمَعرِفَةِ ، أَن يَتَعَرَّفُوا عَلَى أُسَرِ المَسَاجِينِ فِيمَا حَولَهُم ، وَيَعمَلُوا جَادِّينَ عَلَى رَفعِ مُعَانَاتِهِم وَتَفرِيجِ ضَوَائِقِهِم وَتَنفِيسِ كُرُبَاتِهِم
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين، ويصلح شأنهم، ويفك أسر المأسورين ويجمع شملهم بأهليهم، ويجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، إنه جواد كريم.
وصلوا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله.فقد أمركم بذلك المولى جل في علاه
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}