((حقيقة الصدق مع الله وثمرته))

algehani algehani
1440/11/06 - 2019/07/09 11:31AM
 
((حقيقة الصدق مع الله وثمرته))
الخطبة الأولى
الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذ هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المتطوّل بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت، والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء، وعلى أصحابه قادة الأتقياء  .
أما بعد فإعلموا رحمكم الله أنّ أصل الحياةِ الطيِّبة وقاعدةَ السعادةِ المنشودةِ وأساسَ العاقبةِ الحسَنة بالعاجلِ والآجل يكمُن في الصدقِ مع الله جلّ وعلا ظاهرًا وباطنًا قولًا وفعلا طاعة وامتثالا؛
يقول ربّنا جلّ وعلا:
 (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)
عباد الله : أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم  أعرابيًّا قَسمًا مِن غنائم خيبر، فجاء للنبيِّ  فقال: ما على هذا اتَّبعتُك يا رسولَ الله، ولكن اتّبعتُك على أن أُرمَى ها هنا -وأشارَ إلى حَلقه- فأموت فأدخل الجنة، فقال: (إنْ تصدُقِ الله يصدُقك)، ثم نهَض إلى قتال العدوّ، فأُتيَ به إلى النبيِّ  وهو مقتول، فقال: (أهو هو؟) فقالوا: نعم، فقال: (صدق الله فصدقه)
نعم والله إنّه الصدق الذي يعيش به القلبُ والبدَن والظاهِر والباطنُ في رعايةٍ تامّة لأوامر الله جلّ وعلا والاستقامةِ على منهجِه سبحانه،
إنها تربيةُ الباطِن باليَقَظة الدائمة والحذَر التامّ من الجبار جلّ وعلا
الحذرمِن سخطه وأليمِ عقابِه والسعيِ إلى رضوانه وجنته،  قال تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) .
(عباد الله) إن أمّة الإسلام اليومَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصدق مع الله جلّ وعلا،
صِدقِ الإيمان والطاعة، صِدقِ التوجه والإرادة، صِدقِ العمل والاتباع، في كلِّ شأن من شؤن الحياة.
وإنّ هذا الأصلَ هو المقوِّم نحوَ الإصلاح والفلاحَ  , والعاقبةِ الحسَنة في الدنيا والآخرة،
وهو الذي يقودُها إلى الظفَر بالمطلوبِ والنجاةِ من المرهوبِ.
عباد الله : إنَّ الصدقَ مع الله جلّ وعلا تظهَر حقيقتُه في الخوفِ من الله باطنًا وظاهرًا؛ فتكونُ بذلك الحركات والسكنات والتصرّفات والتوجّهات والإرادات والأعمالُ والأقوال كلُّها محكومةً بأمر الله سبحانه وأمرِ رسوله  ،
لا تخالطها أهواء نفسيّة، ولا مصالح شخصيّة،
يقول الصدِّيق رضي الله عنه  (لا خيرَ في قول لا يريد به صاحبُه وجهَ الله).
إنّه الصّدق الذي تضمحلّ معه حظوظُ النفس ومشتهياتها؛
، وما أروع ما ضرَبه أصحاب رسول الله  من نماذجَ رائعةٍ في الصّدق مع البارئ سبحانه بفضلِ التربية النبويّة والمدرسة المحمديّة. ذكر ابنُ حجر رحمه الله في كتابِه الإصابة أن سعد بن خيثمَة استهَم هو وأبوه يومَ بدر، فخرج سهم سعد، فقال له أبوه: يا بنيّ آثرني اليومَ، فقال سعد: يا أبتِ، لو كان غير الجنّة فعلتُ، فخرجَ سَعد إلى بدر وبَقي أبوه، فقُتِل بها سَعد، وقُتِل أبوه خَيثمة بعدَ ذلك يومَ أحُد؛ كلّ ذلك بسببِ الصدق مع الله جلّ وعلا، فنالوا الشهادةَ التي هي أعظمُ مَطلوب.
وفي صحيح السيرة أنَّ عُمير بن أبي وقّاص رُدَّ يومَ بَدر لصغره، فبكى فأجازه النبيّ ، قال سعد أخوه: رأيتُ أخي عُميرًا قبل أن يعرِضَنا رسول الله  يومَ بَدر يتوارَى حتى لا يراه رسول الله ، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخافُ أن يراني رسولُ الله  فيستصغِرَني ويردَّني، وأنا أُحِبّ الخروجَ لعلَّ الله أن يرزقني الشهادةَ. فصدق وصدقه الله وأعلَى درجاته بالشهادة في سبيله.
وفي صحيح السيرة أيضًا أنَّ أنس بنَ النضر رضي الله عنه كان يأسَف أسفًا شديدًا لعدم شهودِه بَدرا، فقال: والله، لَئِنْ أراني الله مشهدًا مع رسولِ الله  ليرينَّ اللهُ كيف أصنع. وصدق في وعده مع الله، فلمّا كان يوم أُحُد مرَّ على قوم أذهَلتهم شائعةُ موتِ النبيّ  وألقوا بسِلاحهم، فقال: ما يُجلِسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله ، فقال: يا قوم، إن كان رسولُ الله  قد قُتل فإنَّ ربَّ محمّد حيٌّ لا يموت، وموتوا على ما مات عليه رسول الله، وقال: اللّهمّ إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء.
ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، إني لَأجِد ريحَ الجنة دون أُحُد، ثم ألقى بنفسِه في صفِّ المشركين، وما زال يقاتِل حتى استُشهد.
 وفي أمثاله نزلَ قوله سبحانه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ).
والأمثلة والنماذجُ الرائعةُ في صِدقهم مع الله جلّ وعلا أكثرُ من أن تحصَر؛ فنالوا المكانةَ السامية والمنزلة الرفيعةَ، حتى قال الله فيهم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ).
فما أحوجَنا إلى أن نصدق مع الله قولا وفعلًا ظاهرًا وباطنا قصدًا وإرادة، وأن نسيِّر حياتنا وتصرّفاتنا على هذا المنهج المرتضَى؛
لنبوءَ بالمغفرة والرضوانِ في الآخرةِ
وبالسعادةِ والحياة الطيبة في هذه الدار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بمافيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئه
فإستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
 
 
 
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وخالق السماوات والأرضين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، وقدوة للصادقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد عباد الله ، إنَّ الصدق مع الله جلّ وعلا هو الذي يبعَث على الافتداء بكلِّ غالٍ ورخيص في سبيل رضوان الله ومحبّته ونُصرة دينه مهما كانت التضحيةُ ومهما كان الثمن غاليًا. فالصدق مع الله جلّ وعلا هو الذي دفع بطلحةَ أن يقيَ رسول الله  بأحد حتى شُلَّت يده رضي الله عنه، والصدق مع الله هو الذي دفع بسعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أن يقاتلَ بين يدَي رسول الله  في أُحُد، وكان يناوله النبل ويقول: (ارمِ يا سعد، فداك أبي وأمي). والصدقُ مع الله هو الذي حدا بأبي طلحة أن يستبسِل في الدّفاع عن رسول الله  والمشركون محيطون به وأبو طلحةَ يقول: يا نبيَّ الله، بأبي أنت وأمي لا تشرِف إلى القوم أن لا يصيبك منهم سهم، نحري دون نحرك، أي: جعل الله نحري دون نحرك. وهذا الشأنُ هو الذي دَفع بنسيبةَ بنتِ كعب رضي الله عنها بأُحُد أن تذُبَّ عن رسولِ الله  بالسيفِ وتُرمَى بالقوس وتُصاب بجراح كثيرة. وهذا الأمر -أي: الصدق مع الله- هو الذي جعل أبا دُجانةَ يُترِّس بنفسِه دون رسول الله  حتى يقَع النبلُ في ظهرِه، وهو منحنٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم  حتى كثُر فيه النَّبل.
فما بالُ بعض المسلمين اليومَ حينما تُعرَض عليه مصالح آنية أو منافع ذاتيّة تجده يسير وراءَها لاهثًا ويندَفِع نحوَها مسرعًا ولو كان ذلك على حساب دينه ومخالفة أمره؟!
فبئس القوم الذين آثروا دنياهم على آخرتهم واستبدلوا الفاني بالباقي.
هذا وصلوا رحمكم الله على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين فقد أمركم الله بذلك فقال عز من قائل (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)  اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله الطيبين الطاهرين،  .
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين،  وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين،  اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر،
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار)
(عباد الله) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تذكرون
فأذكروا الله العظيم الجليل يذكركم
وأشكروه على نعمه يزدكم
ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون
المشاهدات 1241 | التعليقات 0