حقيقة الإنسان-4-8-1436هـ-محمد النابلسي-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1436/08/04 - 2015/05/22 03:40AM
[align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، يقول الله-تبارك وتعالى-: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا*إِلا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ*وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ*وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ*وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ*إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ*أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾.
إخواني: تنطوي هذه الآية الكريمة على حقيقة نفسية خطيرة، نعيشها كل يوم ونخبُرُها في كل مناسبة، وهي:
﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾.
الإنسان شديدُ الجزع, إذا أصابته مصيبة، أو نزلتْ قريبا من داره، شديدُ الحرص على ما في يديه، إنه يحرصُ على مستوى معيشته، ويخشى أن ينخفض, ويحرصُ على تجارته، ويخشى أن تبور، ويحرصُ على صناعته, ويخشى أن تكسد، ويحرص على محصوله الزراعي، ويخشى أن تصيبه آفة، ويحرص على وظيفته، ويخشى أن يفقدها، ويحرص على صحته, ويخشى أن تتدهور، ويحرص على حياته، ويخشى أن تنقضي، ويحرص على ثروته من بعد وفاته ويخشى أن ينالها الغرباء.
ليس في ذلك غرابة؛ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا﴾.
وإذا علم أحد الناس، أنَّ في قلبه تضخما، أو في دمه جلطة، أو في كُليته التهابا، أو في كبده تشمعا، أو في أمعائه تورما, أو في أعصابه تلفا، تراه يصفرُ وجهُه، ويتغيرُ لونُه، ولا تقوى ركبتاه على حمله، ليس في ذلك غرابة؛ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا﴾.
وإذا سمع أحدُهم, أن أسعارَ هذه السلعة سترتفع، وأن أسعارَ الوقود ستزيد، وأن هذه البضاعةَ سيمنعُ استيرادُها، تراه يحس بالانقباض والكآبة، ويعلن عن تشاؤمه وتبرمه، ليس في ذلك غرابة؛ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا﴾.
وإذا لاح للإنسان شبحُ مصيبةٍ، أو نازلةٍ، أو وباءٍ، أو مرض عضالٍ، ترى وجومَه باديا، وقلقَه ظاهرا، ولسانَه متلعثمَا، وليس في ذلك غرابة لأن ليس في ذلك غرابة؛ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا﴾.
إذًا طبيعةُ الإنسان أن يخافَ من كلِّ شر، ويحرص على كلِّ خير.
سكينةُ النفس لا يعرفها سوى المصلين، لأنهم اتصلوا بالله-عز وجل-فوجدوه غنيا فغنيت نفوسهم، واستغنت به عمن سواه، إنهم اتصلوا بالله-سبحانه-فوجدوه رحيما، أرحمَ بأنفسهم من أنفسهم، فاستسلموا لمشيئته وصبروا لحكمه، إنهم اتصلوا بالله-جل وعلا-فوجدوه عليما، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾، فاستراحوا من إعلان الشكوى, والصياح, والضجيج, والتظاهر، إنهم اتصلوا بالله فوجدوه قويا قادرا، فلم تُرهبهم قوةُ عدوهم، ولا شدةُ بأسه، وآمنوا بأنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، إنهم اتصلوا به فوجدوه عادلا لا يضيع مثقال ذرة، فأمنوا من الجور والظلم، إنهم اتصلوا به فوجدوا الاتصال به مُسعدا أيَّما سعادة، فلم تستخفَّهمْ شهواتُ الدنيا ولذائذُها، ولم تستهوهمْ زخارفُها وزينتُها، إنهم آمنوا بأنه: [ما يفتحِ اللهُ للناس من رحمة فلا ممسكَ لها وما يُمسكْ فلا مُرْسِلَ له من بعده]، وأن ما أصاب الإنسانَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال-عليه وآله الصلاة والسلام-: "عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا".
يقول عالمُ النفس ليبمان: "سكينةُ النفس هي الهِبةُ التي يدخرُها اللهُ لأصفيائه، إنه يعطي الكثيرين الذكاءَ، والصحةَ والمالَ، والشهرةَ، أما سكينةُ النفس فإنه يمنحها بقَدْرٍ لأصفيائه المؤمنين، إن سكينةَ النفس هي الغايةُ المثلى للحياة الرشيدة، وإنها تزدهر بغيرِ عونٍ من المال، بل بغيرِ مددٍ من الصحة، وفي السكينةُ يتحولُ الكوخُ إلى قصر, أما الجزعُ والقلقُ فإنه يحيلُ القصرَ إلى سجن".
أيها المسلمون: إن سكينةَ النفس لا يعرفها إلا المصلون، الذين هم على صلاتهم دائمون، أما غيرُ المصلين فهم قلقون مكتئبون، متشائمون، يتلف هذا القلقُ والتشاؤمُ ما آتاهم الله من صحة، ومال، وليس في ذلك غرابة؛ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا*إِلا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾.
ولكن لِمَ خُلقنا هكذا، وما الحكمةُ من تلك الخصلة التي أودعها الله في كل إنسان، وهي الجزعُ والخوفُ عند الشدة، والحرصُ والبخلُ في الرخاء؟!
الحقيقةُ أن سعادةَ الإنسان في الاتصال بربه، وهذه الخصلة تعينه على تلك الصلة كلما أصابه هم أو حزن، وبهذه الخصلة نعود وننيب إلى ربِنا، كلما ألمت به مصيبةٌ أو نازلة، ونتضرع إليه كلما أحسسنا بالخطر يقتربُ منا، ونلجأ إليه كلما هَدَدَنَا عدوٌ لنا، ونستعين به على كل ما يقلقنا، ونرجوه في كل ما لا نقوى على صرفه عنا، وعن أهلِنا وأولادِنا.
وبعدَ أن نلتجئَ وننيبَ إليه ونستعينَ به، ونرجوه ونفرَّ إليه ونلوذَ به يبدلُ خوفَنا أمنا، وقلقَنا استقرارا, وضيقَنا فرجا، وهمَنا رضى، ومصيبتَنا أجرا وذخرا.
وهذه هي حقيقة الصلاة وجوهرها ، نتائجها وآثارها.
﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا*إِلا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾.
الخطبة الثانية
أيها الأحبة: هذه الحقائق عن المصلين ترجمت إلى وقائع سطرها التاريخ، فهذا خبيبُ بنُ عديٍ-رضي الله عنه-يقودُه كفارُ قريشٍ إلى الموت، ويستأذنُهم في أنْ يصليَ ركعتين، وتدفقتْ في روحه حلاوةُ الإيمان، فودَّ لو ظلَّ يصلي ويصلي، ولكنه التفت إلى قاتليه وقال لهم: "واللهِ لولا أن تحسبوا أن بي جزعا-خوفا-من الموت لازددت صلاةً".
خبيبٌ لم يجزع وهو يواجهُ الموت، وغيرُ المصلين يجزعون إذا شاكتهم شوكةٌ في أصبعهم.
جعفرُ بنُ أبي طالب، انقضَ على الروم في مؤتة، وكان هو قائدَ الجيش وحاملَ اللواء، انقضَ يقتلُ فيهم يمينا وشمالا، ولكن ما لبثتْ سيوفُهم أنْ قطعتْ يمينَه، فأخذَ اللواءَ بشماله، فقُطعتْ شمالُه، فاحتضنه بِعَضُدَيْهِ حتى اسْتُشْهِدَ، ولم يصبه جزعٌ ولا خوفٌ، قال-عليه وآله الصلاة والسلام-: "لقد رأيت جعفرا في الجنة له جناحان مُضَرَّجانِ بالدماء..."، وكانت زوجه-أسماءُ بنتُ عُميس-حينَ وصولِ خبرِ استشهادِ زوجِها تنظفُ أولادَها, وتعطرُهم، فأتاهم الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-وقال: "إيتوني ببني جعفر، فأتوه بهم فشمهم وقبلهم، وذرفت عيناه، فقالت زوجه: يا رسول الله-بأبي أنت وأمي-ما يبكيك، أبلغَك عن جعفرٍ وأصحابِه شيءٌ؟، فقال: أصيبوا اليوم"، وأمرَ أنْ يُصنع لآلِ جعفرٍ طعاما، لأنهم شُغلوا بأمرِ مصابِهم.
﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا*إِلا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ*وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ*وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ*وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ*إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ*أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾.
اللهم اجعلنا والمسلمين من المصلين، الذين لا يَجزعون عندَ الشرِ، ولا يَمنعون عندَ الخيرِ.
[/align]
المرفقات

حقيقة الإنسان-4-8-1436هـ-محمد النابلسي-الملتقى-بتصرف.doc

حقيقة الإنسان-4-8-1436هـ-محمد النابلسي-الملتقى-بتصرف.doc

المشاهدات 1990 | التعليقات 0