حقوق كبار السن وبر الوالدين

محمد بن خالد الخضير
1446/04/06 - 2024/10/09 21:00PM

الخطبة الأولى

 ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"

عبادَ الله، لَقَدْ خَلَقَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِنْسَانَ أَطْوَارًا؛ يَتَرَقَّى مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، وَيَنْـتَقِلُ مِنْ مَرْحَلَةٍ إِلَى مَرْحَلَةٍ، وَهَكَذَا هِيَ قَافِلَةُ الْحَيَاةِ، وَمَنَازِلُ الأَعْمَارِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54]، فَآخِرُ مَرْحَلَةٍ يَمُرُّ بِهَا الإِنْسَانُ مِنْ عُمْرِهِ هِيَ مَرْحَلَةُ الكِبَرِ حَيْثُ تَضْعُفُ فِيهَا قُوَاهُ الجِسْمِيَّةُ وَالذِّهْنِيَّةُ وَتَتَرَاجَعُ حَوَاسُّهُ السَّمْعِيَّةُ وَالْبَصَرِيَّةُ وَفِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ مِنْ حَيَاتِهِ يَحْتَاجُ كَبِيرُ السِّنِّ إِلَى مَزِيدِ عِنَايَةٍ وَيَفْتَقِرُ إِلَى كَثِيرِ رِعَايَةٍ؛ وَهُمْ بَرَكَةُ الْبُيُوتِ وَأَنْوَارُهَا، وَهَيْبَتُهَا وَوَقَارُهَا؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» صحيح الجامع.

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَأَبْطَأَ القَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» رَوَاهُ التِّـرْمِذِيُّ.

عباد الله: كبارُ السنِ همُ الفئةُ العزيزةُ الغاليةُ، التي لها المكانةُ العاليةُ، هم في البُيوتِ مصدرُ السَّعادةِ والسُّرورِ، وهم في العائلاتِ أعمدةُ الحِكمةِ والنُّورِ، قد ذَهبَتْ قُوَّتُهم، وجاءَ ضَعفُهم وشَيبَتُهم، فكَم من نَصرٍ ورِزقٍ جاءَ من دُعائهم وصلاتِهم، قالَ الرسولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:«هلْ تُنْصَرونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بضعفائِكمْ؟ بدعوتِهم وإخلاصِهم». رواه النسائي، وصححه الألباني

قد شابتْ رؤوسُهم من تَجاربِ الزَّمنِ وشَريطِ الذِّكرياتِ، وتوقَّدِتْ عقولُهم من مواقفِ العمرِ ومواعظِ الحياةِ، إذا تكلَّمَ سَمِعتَ في حديثِه التَّاريخَ والحَوادثَ والخَبَرَ، وإذا سكتَ رأيتَ على وجهِه الأسرارَ والعِبرَ، فإذا كُنتَ عِندَهم فاسكتْ، وإذا تَكلموا فأنصِتْ، وأطفئ جوالَكَ، وأجِّلْ أشغالَك، فذلكَ من احترامِهم وتوقيرِهم الذي هو من تَعظيمِ اللهِ-تعالى-، قالَ الرسولُ-عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إنَّ من إجلالِ اللَّهِ-تَبجيلِهِ وتَعظيمِهِ-إِكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ» رواه أبو داود وحسنه الألباني.

والكبيرُ له الحقُّ في أن يُوصلَ ويُزارَ، ويجتمعَ عندَه في المنزلِ الكِبارُ والصِّغارُ، فعِندَما دَخلَ الرسولُ-صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ فَاتحًا مُنتصِرًا، فإذا بأَبي بَكْرٍ-رضيَ اللهُ عَنهُ-قد جاءَ آخِذًا بَيَدِ أبيهِ أَبِي قُحَافَةَ الشيخِ الكَبِيرِ، يَسُوقُهُ إِلَى النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- : فلمَّا رَآهُ-صلى الله عليه وسلم- قالَ لأبي بكرٍ مُعاتِبًا: «أَلَا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِي نَأْتِيهِ»، هكذا كانتْ أخلاقُ إمامِ المتَّقينَ، وخاتمِ النَّبيينَ، مع الكِبارِ والمُسنينَ.

فَلْنُحْسِنْ - يَا رَعَاكُمُ اللهُ - إِلَى كِبَارِ السِّنِّ رَدًّا لِجَمِيلِهِمْ وَلَيْسَ مِنَّةً عَلَيْهِمْ بَعْدَ طُولِ السِّنِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يُودَعُوا فِي دُورِ الْعَجَزَةِ وَالْمُسِنِّينَ، بَلْ هَذَا مِنَ العُقُوقِ وَالْعَارِ، وَالخِزْيِ وَالشَّنَارِ، وَمِنْ نُكْرَانِ المَعْرُوفِ وَالجَمِيلِ، الَّذِي لَا يَلِيقُ بِأَيِّ شَهْمٍ أَصِيلٍ.

 أَلَا فَقَدِّرُوهُمْ وَرَاعُوا مَشَاعِرَهُمْ؛ فَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ تُرِيحُهُمْ، وَالاِبْتِسَامَةُ الصَّادِقَةُ تُخَفِّفُ مِنْ جُرُوحِهِمْ، وَاللَّمْسَةُ الحَانِيَةُ تُسْعِدُهُمْ، وَالرَّأْفَةُ بِهِمْ عَنِ الْهَمِّ تُبْعِدُهُمْ؛ وَاحْذَرُوا الإِسَاءَةَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ تُؤْجَرُوا وَتَسْعَدُوا، فَعَمَّا قَرِيبٍ سَتَـكُونُونَ مِثْلَهُمْ إِنْ مُدَّ لَكُمْ فِي الأَجَلِ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.

الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تعظيمًا لِشَأْنِه، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِه، وَسَلَّم تسليمًا كثيرًا. أَمَّا بَعْدُ: إنَّ حقَّ الوالدينِ عظيمٌ، وَمعروفَهُمَا لاَ يجازَى، وَإنَّ مِنْ حقهِمَا المحبةُ وَالتقديرُ، وَالطاعةُ وَالتوقيرُ، وَالتأدبُ أمامَهُمَا، وَصدقُ الحديثِ معهُمَا، وَتحقيقُ رغبتِهِمَا فِي المعروفِ، وَتنفقُ عليهِمَا مَا استطعتَ.

ادفعْ عنْهُمَا الأذَى فقدْ كانَا يدفعانِ عنكَ الأذَى، لاَ تحدثْهُمَا بغلظةٍ أوْ خشونةٍ أوْ رفعِ صوتٍ، جنبْهُمَا كلَّ مَا يورثُ الضجرَ: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) تخيرْ الكلماتِ اللطيفةَ، وَالعباراتِ الجميلةَ وَالقولَ الكريمَ.تواضعْ لَهُمَا، وَاخفضْ لهُمَا جناحَ الذلِّ رحمةً وَعطفاً وَطاعةً وَحسنَ أدبٍ، لقدْ أقبلاَ علىَ الشيخوخةِ وَالكبرِ، وَتقدمَا نحوَ العجزِ وَالهرمِ بعدَ أنْ صرفَا طاقتَهُمَا وَصحتَهُمَا وَأموالَهُمَا فِي تربيتِكَ وَإصلاحِكَ. تأملْ حفظكَ اللهُ قولَ ربِّكَ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ) إنَّ كلمةَ (عندَكَ) تدلُّ علَى معنَى التجائِهِمَا وَاحتمائِهِمَا وَحاجتِهِمَا، فلقدْ أنهيَا مهمتَهُمَا، وَانقضَى دورُهُمَا، وَابتدأَ دورُكَ، وَهَا هيَ مهمتُكَ: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا).

 قالَ رجلٌ لعمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ: إنَّ لِي أمًّا بلغَ منْهَا الكبرُ أنَّهَا لاَ تقضِي حوائجَهَا إلاَّ وَظهرِي لهَا مطيةٌ، فهلْ أديتُ حقهَا؟ قالَ: لاَ. لأنَّهَا كانتْ تصنعُ بِكَ ذلِكَ وَهيَ تتمنَّى بقاءَكَ، وَأنتَ تصنعُهُ وَأنتَ تتمنَّى فراقَهَا، وَلكنَّكَ محسنٌ، وَاللهُ يثيبُ الكثيرَ علَى القليلِ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [ الأحزاب : 56] اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آلِه وصحبه أجمعين.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ والْمُسْلِمِينَ وَأَذِّلَ الشِّرْكَ والْمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًا وَسَائِرَ بِلَادِ المسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ وفِّقْهُ وَوَليَّ العَهْدِ لما فيهِ صَلَاحُ البِلَادِ والعِبَادِ.  اللَّهُمَّ انْصُرُ جُنُودَنَا الْمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، اللَّهُمَّ كُنْ لَهْم مُؤيِّدًا وَنَصِيرًا، وَمُعِينًا وَظَهِيرًا،، اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِأنْ تَجْزِيَ آبَاءَنا وَأُمَّهَاتِنا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبـُّونا صِغَاراً، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيّاً فَمَتِّعْهُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ عَلَى طَاعَتِكْ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ فَتَوَلَّهُ بِرَحْمَتِكَ وَأَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنْ وَاسِعِ رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَرِيضاً فَاشْفِهِ وَعَافِهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَسْبِلْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهِمَا مِنَ البَارِّينَ الْمُشْفِقِينَ العَطُوفِينَ، وَاجْعَلْنَا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُما فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَارْزُقْنا بِـرَّ أَبْنائِنا وَبَناتِنا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللهمَّ نَسألُكَ أن تُباركَ في كِبارِ السِّنِّ، وأن تُعْليَ قَدرَهم، وأن تَرزقنا بِرَّهم والإحسانَ إليهم، اللهمَّ اجعلنا ممنْ طَالَ عُمرُه وحَسنَ عَملُه.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المرفقات

1728496799_حقوق كبار السن وبر الوالدين 8-4-1446 نسخة الجوال.pdf

1728496804_حقوق كبار السن وبر الوالدين 8-4-1446.pdf

المشاهدات 1147 | التعليقات 0