حقوق الوالدين في الإسلام
Sheikh Sayed2019
الحمد لله الذي قرن طاعته بطاعة الوالدين ، وألزم حقوقه بحقوق الوالدين فقال تعالي } وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23){ ]الإسراء[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. قرن بر الوالدين بعبادته وطاعته ،فقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(36) } ]النساء[ .
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله (ﷺ) أرشدنا إلى أفضل الأعمال ، فعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت النبي (ﷺ) : }أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال:( الصلاة على وقتها ) قلت ثم أي ؟ قال: بر الوالدين قلت ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله{ [ متفق عليه] .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
أما بعـد ... فيا أيها المؤمنون
إن من الشكاوى المقلقة .. والأخبار المزعجة ،التي تتفطر لها القلوب، وترتج لها النفوس، وهي نذير شؤم، وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاحه كيف لا؟ وهذه الشكاوى والأخبار، تتعلق بأعظم الحقوق بعد حق الله تعالى، إنها أخبار عقوق الوالدين!! .
هذا يهجر والده لأتفه سبب ،وأخرى تسب أمها لأنها منعتها من الخروج، وآخر يتجاوز ذلك بالضرب والتعدي على أمه أو أبيه، وآخر يدع والديه في دار العجزة والمسنين، وربما تصل القضية إلى حد القتل كما نسمع في الأخبار وشبكات التواصل .
لذلك كان من الواجب أن نبين حقوق الوالدين في الإسلام ، ونحذر من عقوقهما، وذلك من خلال هذه العناصر ...
1ـ السبب في انتشار ظاهرة عقوق الوالدين .
2ـ حقوق الوالدين في الإسلام.
3ـ منزلة بر الوالدين في الإسلام.
4ـ قصص في بر الوالدين .
5ـ حرمة العقوق .
6 ـ عقوبة العقوق في الدنيا والآخرة .
7 ـ قصص في العقوق
8ـ الخاتمة .
العنصر الأول : السبب في انتشار ظاهرة عقوق الوالدين :
لا شك أن من أسباب انتشار ظاهرة عقوق الوالدين :
1ـ ضعف الإيمان، إذ لا يجرؤ على هذا الأمر إلا من ضعف إيمانه وخوفه من الله
2ـ انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح وأفكارها الهدامة التي تفسد الشباب والبنات، وتجرؤهم على الآباء والأمهات، ومنها: اختلاط الثقافات وتأثر بعض الناس بحياة الغربي الذي يعيش وحده، ويهجر أسرته وقرابته فلا يراهم إلا في المواسم والأعياد .
3ـ انتشار القيم المادية .
4ـ تفكك أواصر المحبة بين الآباء والأبناء.
5ـ طغيان الاهتمامات الفردية والمصالح الشخصية على أفراد الأسرة الغربية.
6ـ نكران جميل الوالدين، والنظر إليهم نظرة احتقار.
7 ـ سوء التربية من الوالدين، فيشب الشاب والفتاة على البعد أو القصور والجفاف في علاقتهما بوالديهما فيكون هذا سبباً في العقوق .
العنصر الثاني : حقوق الوالدين في الإسلام :ـ
حقوق الوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وأوجب الواجبات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم، وأبشع المهلكات؛ وللوالدين على الأبناء حقوقاً كثيرة لا تُعد ولا تُحصى ، مكافئة لما قاما به من مساعٍٍ حميدة من أجل راحة الأبناء ، وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، راجين بذلك ما عند الله والدار الآخرة ، ثم راجين من الله تعالى حُسن الرعاية من أبنائهما إثر تربيتهما لهم ، ومن هذه الحقوق البر :
1ـ البر بهما والإحسان إليهما وطاعتهما:
لقد جعل الوالدين السبب الظاهر في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما قولاً, وفعلاً؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما، وزجرهما بالكلمة العالية، أو نفض اليد عليهما
لقد أوصى الله عز وجل بالوالدين ، برعايتهما والاعتناء بهما، طوال العام، ليس في يوماً في السنة ، فبر الوالدين واجب وفريضة على الأبناء ،فقال تعالي}وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23){ ]الإسراء [
يقول أحد العلماء لو كان هناك أقل من كلمة أف لقالها الله عز وجل .
ولقد أثنى الله عز وجل على يحيى على السلام لبره بوالديه . قال تعالى : {وَبَرَّۢا
بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا(14)} [مريم ]
وأخبر عن سيدنا عيسى عليه السلام، وماله من صفات وهبها الله إياه ومنّ بها عليه ، وذكر منها بره بوالدته . فقال تعالى: { وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا (32)}
[مريم]
فبر الوالدين وصية الله تعالي : لقد أوصي الله تعالي ببر الوالدين في القرآن ثلاث مرات في مواضع مختلفة وهذا دليل علي عظم حق الوالدين فقال تعالي }وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8){ ]العنكبوت[ .
فهي أي الأم في تعب وجُهد من قبل الولادة ثم أثناءها ثم بعدها، وكذلك الأب يسهر
لتعب الابن ويحزن لمرضه ، ويقلق ويخاف عليه أثناء غيابه ، فاستحقا بذلك البر بهما .
فبر الوالدين مقدم على بر غيرهما من الناس ، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء ، أو غير أولئك من الناس ، بر الوالدين مقدم على أولئك جميعاً .
وبر الوالدين يكون بكل ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج وكل ما يحتاجانه من خدمة وبر ومعروف قال تعالى :}وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15){ ]الأحقاف[.
ومن كمال عظمة هذا الدين أن أمر بالإحسان للوالدين مع اختلاف الدين ،فالله تعالى أَمَرَنَا بالإحسان إليهما من غير وجوب لكن لا يطيعهما في كفرهما ولا في معاصيهما، وهذا معنى قوله تعالى {وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ (14)} [لقمان].
ويقول رسول الله (ﷺ): }لا طاعة لمخلوق في معصية الله{ ]رواه أحمد[.
وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام مع والده المشرك ، كان في قمة البر والمودة ، حتي في استخدام الألفاظ ..
تأمل يا من ترفع صوتك علي والديك لمجرد اختلاف في الرأي وتصفه بالجهل ، يقول الله تعالي }وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48){.]مريم[.
يا أبت !!هل هناك نداء ألطف من هذا النداء ومن هذه العبارة ؟ والده مشرك ويعبد الأصنام ومع ذلك يقول له إبراهيم يا أبت .
وعن أسماء رضي الله تعالى عنها قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله (ﷺ) فاستفتيت رسول الله (ﷺ) قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة (في النوال والبر والإحسان) أفأصل أمي (أحسن استقبالها)؟ }قال: نعم صلي أمك{ [متفق عليه].
ومن الإحسان إليهما الإنفاق عليهما ، وشراء الطعام والشراب الذي يشتهيانه لهما ولو كان ذلك على حساب الأبناء ، ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه من أعمال .
وقال عروة بن الزبير : ما بر والده من سد الطرق إليه .
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي (ﷺ) فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً, وإن والدي يجتاحُ مالي؟ قال:}أنتَ ومالُكَ لوالِدِكَ؛ إنَّ أولادَكم مِن أطيَبِ كَسْبِكم؛ فكُلوا مِن كَسْبِ أولادِكم.{. ]أخرجه أبو داود ، وأحمد[
وسئل الحسن : ما بر الوالدين ؟ قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية ، قيل : فما العقوق ؟ قال : أن تهجرهما وتحرمهما ، ثم قال : أما علمت أن نظرك في وجوه والديك عبادة ، فكيف بالبر بهما ؟
وقال أبو هريرة وهو يعظ رجلاً في بر أبيه : لا تمش أمام أبيك ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه .
وقال طاووس : من السنة أن يوقر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ، ومن الجفاء أن يدعوا الرجل والده باسمه .
2ـ إدخال السرور عليهما:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ (ﷺ) فقال جِئتُ أُبَايِعُك علَى الهِجرةِ وتركتُ أبويَّ يبكِيانِ فقال : }ارجِع إليهِما فأضْحِكْهُما كما أبكيْتَهُما{ ]أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه ، وأحمد[.
وما ذاك إلا لعظم حقهما على أبنائهما .
3ـ أن لا يتعرض لسبهما، ولا يعقهما, ولا يكون سبباً في شتمهما:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) قال:}من الكبائرِ شتمُ
الرَّجلِ والدَيْه ، قالوا : يا رسولَ اللهِ ! وهل يشتُمُ الرَّجلُ والدَيْه ؟ قال : نعم ، يسُبُّ أبا
الرَّجلِ ؛ فيسُبُّ أباه ؛ ويسُبُّ أمَّه ؛ فيسُبُّ أمُّه { ]أخرجه البخاري ومسلم[
وعنه أيضا قال رسول الله (ﷺ): }إنَّ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ. قيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، وكيفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ { ] أخرجه البخاري[.
4ـ توقيرهما:
أن لا يجلس الابن وأبواه واقفان ، وأن لا يمشي أمامهما ، ولا يركب السيارة حتى يركب أبوه وأمه قبله ، ويساعدهما في النزول والقعود والنهوض والوقوف إذا احتاجا إلى ذلك ، ويجلس معهما حال مرضهما ويسعى جاهداً لعلاجهما ، ولا يبخل عليهما بمال ولا وقت ، ولا يدخر جهداً في إرضائهما .
5ـ الدعاء لهما ، وصلة أهل وُدّهما ، وإنفاذ عهدهما، والصلاة عليهما :
لقد حثنا المولي تبارك وتعالي على الدعاء للوالدين في كل وقت وحين ، ويدعوا هو لهما، لعل الله أن يرحمها بكثرة دعاءه لهما ، فهذا نبي الله نوح عليه السلام يدعو للوالدين ويقول { رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا (28)} ] نوح[ .
وأمره الله عز وجل أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتساباً للأجر, لا للخوف منهما، وأمره عز وجل أن يدعو لهما بالرحمة: أحياءً, وأمواتاً، جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عز وجل:}وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24){ ]الإسراء[.
ولقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، واللطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف ، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلًّا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر.
وأمره (ﷺ) بصلة أهل ودهما ، فعن عبدالله بن دينار عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبدالله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال عبدالله بن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب, وإنهم يرضون باليسير، فقال عبدالله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب , وإني سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولد أهلَ وُِدِّ أبيه{ ] صحيح مسلم[
وعن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه ،قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله
(ﷺ) إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء
أبرهما به بعد موتهما؟ فقال:}نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما
من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما{. ]رواه أبو داود[.
6ـ الاعتراف بفضلهما:
عن أبي مرة مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب: أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ
[العقيق] فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليكِ السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه يا أمَّتاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمكِ اللهُ كما ربيتني صغيراً، فتقول: يا بُنيَّ! وأنت، فجزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً).
العنصر الثالث : منزلة بر الوالدين في الإسلام :
1ـ مقرونة بعبادة الله تعالي :
قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى, كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده،.
وقد جاء حق الوالدين مقروناً بعبادة الله عز وجل في آيات كثيرة ،من القرآن الكريم منها قوله تعالي: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(36) } ]النساء[ .
2ـ إرضائهم من إرضاء الله تعالي ، وسخطهم من سخط الله تعالي:ـ
بر الوالدين يرضي الرب عز وجل، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي (ﷺ) قال:}رِضى اللَّهِ في رِضى الوالِدَينِ ، وسَخَطُ اللَّهِ في سَخَطِ الوالدينِ {
] أخرجه الترمذي وابن حبان والبيهقي[
3ـ بر الوالدين ميثاق بين العبد وربه تعالي:
لقد أخذ الله تعالي علي الميثاق والعهد علي عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأيضا من ضمن الميثاق والعهد علي عباده هو الإحسان إلي الوالدين فقال عز وجل: }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83){ ]البقرة[ .
4ـ أعلي مراتب الجهاد :
بر الوالدين أفضل من الجهاد، وأعلا مراتب الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي (ﷺ) يستأذنه في الجهاد فقال:}أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد{ ]البخاري ومسلم[
وفي لفظ لمسلم: أقبل رجل إلى نبي الله (ﷺ) فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي
الأجر من الله، قال:}فهل من والديك أحدٌ حيٌّ؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: تبتغي
الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما{
قال ابن حجر رحمه الله:}أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الـجهاد{
5ـ من أفضل الأعمال :
بر الوالدين أفضل الأعمال، وأقرب الأعمال إلى الجنة، وأحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة, التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي (ﷺ) أخبر بذلك ورتبه بـ (ثم) التي تعطي الترتيب والمهلة، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله (ﷺ) أيُّ العَمَلِ أفضل؟ قال:}الصلاةُ لوقتها قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله{. ]أخرجه مسلم[
6ـ باب من أبواب الجنة:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه{ ] أخرجه الترمذي[.
وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي (ﷺ) فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك فقال (ﷺ):}هل لك من أمٍّ؟ قال: نعم. قال: فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها{ ] أخرجه النسائي[.
ولفظ الطبراني: ألك والدان؟ قلت: نعم. قال: الزمهما؛ فإن الجنة تحت أرجُلِهما .
وخفض الكلام ولين الكلام للوالدين يدخل الجنة.
7ـ كفارة للذنوب :
عن طيسلة بن مياس قال: كنتُ مع النَّجَداتِ، فأصبْتُ ذُنوبًا لا أراها إلَّا مِنَ الكبائرِ، فذكَرْتُ ذلكَ لابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ما هي؟ قلتُ: كذا وكذا، قال: ليستْ هذهِ مِنَ الكبائرِ؛ هُنَّ تِسْعٌ، الكبائرُ تِسْعٌ: }الإشراكُ باللهِ، وقَتْلُ نَسَمَةٍ، والفِرارُ مِنَ الزَّحفِ، وقَذْفُ المُحْصَنةِ، وأكْلُ الرِّبا، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، وإلحادٌ في المسجدِ، والذي يَستَسخِرُ، وبُكاءُ الوالدَيْنِ مِنَ العُقوقِ، قلتُ: إيْ واللهِ، قال: أَحَيٌّ والِدُكَ؟ قلتُ: عِندي أُمِّي، قال: فواللهِ، لو أَلَنْتَ لها الكلامَ، وأطعمْتَها الطَّعامَ، لَتَدْخُلَنَّ الجنَّةَ ما اجتَنَبْتَ الكبائرَ { ] صحيح الأدب المفرد[
8ـ دعوة الوالدين مستجابة:
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً عابداً، وكان في صومعة له، فأتته أمه وهو يصلي, فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فقال: يا ربِّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثاني كذلك فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثالث أتته، فقال: ربِّ أمِّي وصلاتي فأقبل على صلاته، قالت: }اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات{ فاستجاب الله دعاءَها فبهتته بغي من بني إسرائيل حامل من الزنا، وقالت: هو الذي فعل بها، فعذب وهدمت صومعته، وأخيراً أنجاه الله بعد العقوبة
العاجلة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ):}ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم{ ] أخرجه أبو داود والترمذي[
هذا بعض جزاء من بر بوالديه في الآخرة، أما جزاؤه في الدنيا...
9ـ سعة في الرزق وبركة في العمر:
أن يبارك الله له في عمره، وينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويرفع ذكره، وييسر أمره، ويفرج كربه، ويغفر ذنبه، ويجيب دعاءه، ويكافئه ببر أولاده به.
أما مباركة الله له في رزقه وزيادة عمره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) : }من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه{[ رواه البخاري ومسلم].
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن رسول الله (ﷺ):}صلةُ الرحمِ وحسنُ الجوارِ وحسنُ الخلقِ يُعمِّرانِ الديارَ ويزيدانِ في الأعمارِ{[رواه أحمد].
العنصر الرابع : قصص في بر الوالدين:
1ـ روي أن رجلاً طاف بأمه حول الكعبة سبعة أشواط وهو يحملها على ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أُذعرت ركابها لم أذعر
وعندما انتهى سأل بن عمر رضي الله عنهما ، فقال : يا بن عمر أتراني قد جزيتها قال : لا ، ولا بزفرة من زفراتها . هكذا فليكن البر .
2ـ حديث الثلاثة الذين أغلقت عليهم الصخرة باب الغار ذكر أحدهم فقال :}اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت شيئاً.....{ [ البخاري ومسلم ] .
3ـ كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أفراد اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر ؟
حتى أتى عليه ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟
قال : نعم ، قال ، من مراد ثم من قرن ؟
قال : نعم ، قال : فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ؟
قال : نعم ، قال : لك والدة ؟
قال : نعم ، قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد
اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ، فاستغفر لي ، فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة ، قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟
قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي فلا إله إلا الله انظر إلى هذه المنزلة التي بلغها وحظي بها هذا البار بأمه حتى أن النبي رسول الله (ﷺ) أخبر عنه وعن بره بأمه ، وقال لعمر فاروق الأمة أحد المبشرين بالجنة : إن استطعت أن يستغفر لك فافعل .
4ـ ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها فقيل له في ذلك فقال : كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
5ـ وكان رجل من المتعبدين يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه فقال : كنت أتمرغ في رياض الجنة ، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات .
6ـ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أحضر ماء لوالدته فجاء وقد نامت فبقي واقف بجانبها حتى استيقظت ثم أعطاها الماء ، خاف أن يذهب وتستيقظ ولا تجد الماء , وخاف أن ينام فتستيقظ ولا تجد الماء فبقي قائما حتى استيقظت.
العنصر الخامس : حرمة العقوق :ـ
عقوق الوالدين من الكبائر التي توعَّد الله فاعلَها بالعذاب الشديد في النار.
ومعنى العقوق أن يؤذيَ والديه أذًى ليس بهيّن، ومع ذلك فإيذاء الوالدين سواء كان أذًى شديدًا أو خفيفًا فهو حرام.
ومن الأمثلة على العقوق شتمُ الأم أو الأبِ أو ضربُ الأم أو الأبِ أو إهانتهما أو أحدهما .
ومن جملة العقوق أن يطيع الولد أمه على ظلم أبيه أو يطيع الولد أباه على ظلم أمه، ولا ينفعه عند الله تعالى إن أطاع أمه وظلم أباه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ونُصرةُ أحدِ الأبوين في ظلم الآخر حرام.
وقد نهى رسول الله (ﷺ) عن التعاون على الظلم، وورد في النهى عن الظلم أحاديث عدة، منها ما جاء عن أبي ذرّ الغِفاريّ رضي الله عنه عن النبيّ (ﷺ) فيها يرويه عن رّبه عزّ وجلّ أنه قال: }يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظَّالموا{ ]رواه مسلم[.
ومعنى "إني حرّمت الظلم على نفسي" أي نزّهت نفسي عن الظلم، فربّنا منزّه عن الظلم.
فلا يُتَصَوَّرُ منه ظلم لأنَّ الظلم محال في حقّ الله قال الله تعالى }وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِّلْعَبِيدِ (46){ ]فصلت [
واعتبر الإسلام عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ،وقرن النبي (ﷺ)عقوقهما بالشرك
بالله عز وجل، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ): }ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثاً. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) وجلس وكان متكئاً, فقال: (ألا وقول الزور) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت {.
] رواه البخاري[ .
وعن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي (ﷺ) عن الكبائر قال:}الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور{ ] البخاري[ .
وعن المغيرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال:}إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات, ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال{
] البخاري[.
وللعقوق صور متعددة منها ...
1ـ السب واللعن. 2ـ التبرؤ من والديه. 3ـ تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم. 4ـ الكذب عليهما. 5ـ غيبتهما. 6ـ التكبر والترفع عليهما. 7ـ التسبب في بكائهما. 8ـ عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات
العنصر السادس :عقوبة العقوق في الدنيا والآخرة :
1ـ مُحَرَّم عليه الجنة :
ولْيُعْلَمْ أن عذاب عقوق الوالدْينِ المسلمَيْنِ عند الله تعالى عظيم حيث إن عاقَّهما لا يدخل الجنَّة مع الأوّلينَ، بل يدخلها بعد عذاب شديد مع الآخرين، وذلك لأنَّ هذا الذنب هو من كبائر الذنوب، قال رسول الله (ﷺ): }لا يدخل الجنة عاقٌّ{ ]رواه البخاري ومسلم[
أي لا يدخلها مع الأوّلين وليس المعنى أنه كافر محروم من الجنة، وذلك لعظم حقهما
ولقد دعا رسول الله (ﷺ) على من لم يبر والديه عند الكبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }رَغِمَ أنْفُهُ، ثم رَغم أنفه، ثم رغم أنفه!! قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر: أحَدَهُما, أو كليهما ثم لم يدخل الـجنة{ ] رواه مسلم[
2ـ محروم من نظر الله :
ولعظم حق الوالدين أن الله لا ينظر إلى من عقَّ والديه يوم القيامة؛ لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ): }ثلاثة لا ينظر الله إليهم عز وجل يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنَّان بما أعطى{ ] أخرجه النسائي وأحمد[
3ـ تعجيل العقوبة في الدنيا :
عَن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ: }كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ الله مِنْهَا مَا شَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا الْبَغْيُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ يُعَجِّلُ لَصَّاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ{. ]أخرجه البخاري في "الأدب المفرد[
وورد عند الحاكم بسند صحيح مرفوعاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه : }بابان معجّلان عقوبتهما في الدّنيا: البغي والعقوق{.
العنصر السابع :قصص في العقوق:
1ـ ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب ، لا يفيق عنه وكان له والد صاحب دين ، كثيراً ما يعظ هذا الابن ويقول له : يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته ، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد ، وكان إذا ألح عليه زاد في العقوق ، وجار على أبيه ، ولما كان يوم من الأيام ألح على أبنه بالنصح على عادته فمد الولد يده على أبيه ، فحلف الأب مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ، فيتعلق بأستار الكعبة ويدعوا على ولده ، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامة من قرب ومن بعد
إني أتـيـتك يا من لا يخيب من يدعـوه مبتـهلاً بالواحـد الصمد
هذا منازل لا يرتـد من عقـقي فخذ بحـقي يا رحمن من ولـدي
وشـل منه بحـول منك جـانبه يا من تقدس لم يولـد ولـم يـلد
فقيل أنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن .
2ـ وكان هناك رجلاً يحث ابنه على طريق الهداية والاستقامة ولبث على هذه الحال سنين، ولما كبر الأب، تأفف منه الابن ولم يحسن إليه في كبره، بل حمله على جمله وذهب به إلى الصحراء ولما توسط الصحراء، سأله الوالد فقال : يا بني أين تريد الذهاب بي، قال : يا أبي لقد مللتك ولقد سأمتك، قال : وماذا تريد ؟
قال : أريد أن أذبحك، قال يا بني ماذا تقول ؟
قال أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبي، فقال الأب : إن كنت ولابد فاعلاً ، فاذبحني عند تلك الصخرة ، قال : ولم يا أبي ، قال : فإني قد قتلت أبي عند تلك الصخرة فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند تلك الصخرة . لأن الجزاء من جنس العمل . قال تعالى : {مَن يَعۡمَلۡ سواءتا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا (123)} [ النساء ].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول (ﷺ): }بروا أباءكم تبركم أبناءكم { ] رواه الطبراني في الأوسط[.
فالبر والعقوق دين ، ولا بد من الوفاء بالدين ، وكما تدين تدان}فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (8){ [الزلزلة] .
3ـ ومن القصص الواقعية والتي ظهرت فيها عدالة السماء :
أنه كان هناك شاب نشأ مدللا بين والديه، ومات والده وقامت أمه برعايته حتى كبر، واشتد ساعده واستوى على سوقه، وأصبح رجلا وعمل في مجال التجارة ، حيث إن والده ترك له ثروة لا بأس بها، ودعوات الأم الطيبة ترافقه في كل مكان، ومع ، كل خطوة يخطوها تدعو له بالتوفيق فكثرت أمواله واتسعت تجارته.
وكانت أمه لا زالت ترعاه وتقوم بشؤونه وتفرح لفرحه وتحزن لحزنه وتواسيه وتحبب ، إليه الحياة وتحثه على العمل، فكانت هي السبب بعد الله عز وجل في هذه الثروة العظيمة التي يمتلكها، وهذه الشهرة التي اشتهر بها بين الناس، والأم لا تكمل فرحتها إلا بزواج ولدها لتفرح به وبأولاده، وتسعد معه بتكوين أسرة تكمل المشوار.
وبحثت له عن بنت الحلال، ولكنه لم يرض بما أشارت إليه بهن أمه، بل اختار هو بنفسه وتزوج وفرح بزواجه ولكن فرحة أمه أكبر وأعظم، وأخذت الأم تدعو ربها أن يرزق ولدها الذرية الصالحة لكي تفرح بهم وتسعد معهم، واستجاب الله تعالى لدعائها ورزق بولدين مطيعين له، فأحبهما أكثر من نفسه ورعاهما وسهر على راحتهما حتى كبرا وشبّا عن الطوق، وكبرت الأم وصارت بحاجة إلى من يرعاها ويقوم بشؤونها، ولكنه تأفف من ذلك، فرغم أنه الرجل صاحب الثروة الكبيرة والجاه العظيم، إلا أنه بخل على أمه بأن يجعل لها خادمة تقوم برعايتها، وتضايق من أمه، وفكر في وسيلة تريحه منها، فهو لا يطيق حتى أن ينظر إليها، ودفعه تفكيره إلى أن يودعها في دار العجزة.
فتبا له من ولد عاق كيف هانت عليه أمه أن يودعها في دار العجزة أين السهر؟
أين المعاناة ؟ أين الصبر؟ أين الحنان؟ أين الرعاية ؟
لقد ذهب كل هذا أدراج الرياح، أمك التي بذلت كل ما في وسعها من أجلك يكون هذا جزاؤها من ولدها لا وحيد؟! فتبا لك ألف مرة.
وذهب مرة لزيارة أحد أصدقائه ليبث له شكواه، وقال لصديقه وهو يندب حظه العاثر: تصور يا أخي ما أن أودعت والدتي دار العجزة، ورعاية المسنين حتى لامني الكثير من الأهل والأقارب والبعيد والقريب ممن أعرفهم، فأجابه صديقه مندهشا: ماذا تقصد بوالدتك التي أودعتها دار العجزة؟!
هل هي أمك التي حملتك؟ أمك فلانة التي ربتك صغيرا، ورعتك كبيرا؟ أم لديك أم غيرها؟! قال: بل هي أمي فلانة!! فما العجب في ذلك؟
وقد افتتحت الحكومة هذه الدار لأمثالها، فقال صديقه: يا سبحان الله!!
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنَّا... هل ضقت بوالدتك ذرعا وأنت صاحب المال والجاه والثروة الواسعة والتي آلت إليك بسبب دعواتها لك بالتوفيق، عد إلى رشدك يا رجل، واستغفر الله واذهب إلى أمك وقبِّل قدميها، واسأل الله التوبة والمغفرة، واطلب الصفح منها، وعد بها إلى البيت وهيِّء لها من يقوم بخدمتها، واعمل على سعادتها وراحتها، أما إن كان الذي فعلته رغبة حرمكم المصون، فلم أعلم أنك مطيَّة بين الرجال، بل عرفتك رجلا.
ولما سمع من صديقه هذا الكلام الصادق ضاق وهاج وماج وقال: يا أخي إن كنت ستزيد من آلامي فأنا في غنى عن معرفتك.
فقال له صديقه: هذا لا يشرفني من ابن عاق مثلك فصداقة أمثالك عار.
ومرت الأيام وأمه ملقاة في دار العجزة لا أحد يزورها، وهي تعاني من آلام الكبر، والمرض والقهر، واشتد عليها المرض، ولم يزرها مرة واحدة، ونقلت إلى المستشفى، ولم يرق قلبه لها، وحثه أقرباؤه وأبناؤه لزيارتها وهي في المستشفى فأبى واستكبر وأخذته العزة بالإثم، واشتد عليها المرض، واقترب الوعد الحق، وعلم العاق أن أمه تعاني سكرات الموت، فهل فاق وتاب وأناب أبدا، بل شد رحاله وغادر البلاد فجأة دون علم أحد، وبعد أن تأكد أنها ودعت الدنيا بما فيها من مآس ودفنت في قبرها، عاد راجعا، ولكنه رجع ليجني ثمار ما زرع، و يا شرّ ما زرع، لقد زرع العقوق ،والعصيان، فماذا سيجني؟ وماذا ستكون النتيجة ؟
لاشك أنه سيجني البؤس والشقاء.
لم تمر إلا أيام معدودة قبل أن يجف قبر أمه، تعرّض فلذة كبده وأحب أبنائه إلى قلبه إلى حادث مروري مروِّع راح ضحيته الابن، وكان هذا الحادث عبارة عن خنجر غرس في قلب الأب، ولم يمر عام على هذا الحادث الأليم، إلا ويتعرض ولده الثاني وساعده الأيمن في تجارته وأعماله لمرض عضال جعله ملازما للسرير، وأخذه والده وجال فيه أرجاء العالم، يبحث له عن شفاء ولكن دون جدوى، ولحق الابن الثاني بأخيه، وبقي الأب وحيدا، فقد كسر جناحاه، وساءت حالته النفسية، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وبارت تجارته، وأخذ موظفوه يسرقونه، وأخذ يجني ثمار زرعه، وها هو يرى حياته تتصدع أمام عينيه، وها هو يرى ما بناه يسقط أمامه دون أن يستطيع عمل أي شيء، وها هي العقوبة تطل عليه في كل يوم وكل ساعة وكل لحظة، والله أعلم بمصيره في الآخرة.
إنها الحكمة الإلهية والعدل الإلهي، فكما تدين تدان.
وفي الختام ... أيها المؤمنون ...إني أدعو نفسي وإياكم أيها المؤمنون على بر والدينا أحياء وأمواتا ، وأن من كان بينه وبين والديه قطيعة أو خلاف فليبادر بإصلاح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه عليه أن يبذل ما بوسعه في برها وإسعادها .
ومن كان باراً بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
فاللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعاً على بر والدينا، اللهم إن كنا قد قصرنا في برهما، أو أخطأنا في حقهما فاغفر لنا تقصيرنا وسهونا وجهلنا ، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرفنا وما أعلنا، يا ذا الجلال والإكرام .. واغفر لهما وارحمهما ،وأعنا على الإحسان إليهما بعد موتهما .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم .
==========
المرفقات
1704065829_حقوق الوالدين في الإسلام.pdf
1704065834_حقوق الوالدين في الإسلام.docx