حقوق الشواذ
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ ذي الجلالِ الأكبرِ، عزَّ في علاهِ فغلبَ وقهرَ، أحصى قَطْرَ المطرِ، وأوراقَ الشَّجرِ، وما في الأرحامِ من أُنثى وذَكرَ، خالقِ الخَلقِ على أحسنِ الصُّورِ، ورازقُهم نباتاتٍ وحيواناتٍ وبَشرٍ، ومميتُهم على صِغَرٍ وشبابٍ وكِبَرٍ، أحمدُه حمداً يوافي نِعمَه ما خَفيَ منها وما ظهرَ، ويكافئُ مزيدَ كرمِه العظيمِ الأوفرِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ من أنابَ وأبصرَ، وراقبَ ربَّه واستغفرَ، وأشهدُ أن سيَّدَنا ومولانا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، الطَّاهرَ المطهَّرَ، المُختارَ من سيِّدِ البَّشرِ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وذويه، ما أقبلَ ليلٌ وأدبرَ، وأضاءَ صبحٌ وأسفرَ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً وأكثرَ.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) .. أما بعد:
ففي هذا الزَّمانِ الذي انتكستْ فيه بَعضُ الفِطَرِ، وأصبحَتْ الحيواناتُ البَهيمةُ خيراً من كثيرٍ من البَشرِ، وخرجتْ علينا مؤتمراتُ العالَمِ بقراراتٍ تُذهبُ ما بَقيَ مِن الصَبرِ، بجوازِ نكاحِ المرأةِ للمرأةِ وزواجِ الذَّكرِ من الذَّكرِ، نحتاجُ أن نرجعَ إلى كتابِ اللهِ تعالى لنرى مَكمنَ الخَطَرِ، فلعلَّهُ يكونَ لنا ذِكرى ومَوعظةً ومُزدَجَرَ.
ففي الوقتِ الذي يبتدئُ جميعُ الرُّسلِ في سورةِ الأعرافِ دعوةَ أقوامِهم بقولِهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، يذكرُ لنا تعالى بدايةَ دعوةِ لوطٍ لقومِه بقولِه: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ)، فلا إلهَ إلا اللهُ .. ما هذه الجريمةُ العظيمةُ التي ابتدأَ بها لوطٌ دعوتَه وتحذيرَه؟، كأنها تساوي الشِّركَ في منزلتِه الخطيرةِ، بل حتى الزِّنا لم يأتِ فيه مثلُ هذا، فقد قالَ اللهُ تعالى فيه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)، فهو فاحشةٌ من الفواحشِ، وأما في جريمةِ قومِ لوطٍ فعبَّرَ عنها بلفظِ (الْفَاحِشَةَ) بالألفِ واللَّامِ ليفيدَ أنها جمعتْ جميعَ أنواعِ الفُحشِ والدَّناءَةِ والقُبحِ والشَّناعةِ، فالكلامُ عن نبيِّ اللهِ لوطٍ عليه السَّلامُ وقومِه، هو الحديثُ عن معركةٍ مُستمرةٍ بين طَهارةِ الحقِّ ورِجسِ القَبيحاتِ، وعن الصِّراعِ الدَّائمِ بينَ المُصلحينَ وأصحابِ الهوى والشَّهواتِ.
قالَ لهم: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ)، إنها واللهِ انتِكاسُ الفِطَرِ، إنها مانعةُ الخيرِ والمطرِ، إنها طريقُ الفسادِ والغِوايةِ والإجرامِ، بسببِها انتَشرتْ الأمراضُ والأسقامُ، يقولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا)، يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ في هذهِ الفاحشةِ: (تَكَادُ الْأَرْضُ تَمِيدُ مِنْ جَوَانِبِهَا إِذَا عُمِلَتْ عَلَيْهَا، وَتَهْرُبُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا شَاهَدُوهَا، خَشْيَةَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهَا، فَيُصِيبُهُمْ مَعَهُمْ، وَتَعِجُّ الْأَرْضُ إِلَى رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَكَادُ الْجِبَالُ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا).
وَلذلكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ)، لَمْ يَلعنْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَدِيثٍ، إلا في هذا العملِ الخبيثِ، فأينَ يَذهبونَ إذا طُرِدوا من رَحمةٍ وَسِعَتْ العالَمينَ، ومن يرحمُهم إذا خَرجوا من رحمةِ أرحمِ الرَّاحمينَ.
الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ الخليفةُ الأُمويُّ الذي امتدَّتْ في زمنِه حدودُ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ من المغربِ الأقصى غرباً، وإلى بلادِ الهندِ فأطرافِ الصِّينِ شَرقاً، حتى أصبحتْ الدَّولةُ الأمويَّةُ أكبرَ امبراطوريَّةٍ عرفَها التَّاريخُ، وانفتحتْ البِلادُ على كلِّ الحضَاراتِ، وخالَطتْ كلَّ الثَّقافاتِ، وجاءَ النَّاسُ من كلِّ مكانٍ إليه في دمشقٍ عاصمةِ العلمِ والعُمرانِ، يقولُ رحمَه اللهُ: (لولا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قصَّ علينا خبرَ قَومِ لوطٍ، ما ظننتُ أنَّ ذَكَراً يعلو ذَكَراً).
والعجيبُ .. أن أصحابَ هذه الفاحشةِ في كلِّ زمانٍ وحِينٍ، يُرغِمونَ الآخرينَ للاعترافِ بحقوقِهم بالقوَّةِ أو باللِّينِ، ويُسمونَ أنفسَهم خِداعاً وتزييفاً بالمِثليينَ، وإن لم تَعترفْ بفعلِهم فإنَّكَ عدوٌّ للحُريَّةِ مبينٌ، تدعو إلى الكراهيةِ وينبغي أن تكونَ من المَنبوذينَ، (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فإما أن ترضى بفاحشَتِهم الذَّميمةِ، أو تَخرجَ مَطروداً من مسرحِ الجريمةِ.
فلمَّا كَثُرَ الفسادُ وعمَّ، وانتشرَ المنكرُ وطمَّ، استَعانَ لوطٌ بربِّهِ: (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ جعلَ فيما قصَّ على عبادِه عبرةً لأولي الألبابِ، وحرَّمَ عليهم أسبابَ الذُّنوبِ والعقابِ، أبانَ السَّبيلَ، وأقامَ الدَّليلَ، ليهلكَ من هلكَ عن بيِّنةٍ ويحيا من حييَ عن بيِّنةٍ وإنَّ اللهَ لسريعُ الحسابِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ خلقَ الخلقَ وهو ربٌّ الأربابِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه إلى يومِ الدِّينِ والمآبِ، أمَّا بعد:
فلمَّا دَعا عليهِم، جاءَتهُ الملائكةُ: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)، فماذا حدثَ في الصُّبحِ؟، العذابُ الأولُ: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)، صَوتٌ قَاصفٌ يُقطِّعُ الأفئدةَ في الصُّدورِ.
العذابُ الثَّاني: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)، قالَ أهلُ التَّفسيرِ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَصْبَحَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، فَانْتَسَفَ بِهِ أَرْضَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنْ قُصُورٍ وَدَوَابٍّ وَحِجَارَةٍ وَشَجَرٍ، وَجَمِيعِ مَا فِيهَا، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا نُبَاحَ كِلَابِهِمْ، وَأَصْوَاتَ دُيُوكِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا، فَأَرْسَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ مَنْكُوسَةً، وَدَمْدَمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا.
العذابُ الثَّالُثُ: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ)، حجارةٌ من طينٍ مٌتتابعةٌ، لا تُصيبُ أحداً إلا أَهلَكتْه، (مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ) مكتوبٌ عليها أسماءُهم .. فهل رأيتُم عذابَ أمَّةٍ كعذابِ قومِ لوطٍ؟.
هذا عذابُ اللهِ، وأما واجبُ الوُلاةِ، فَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمَا جَمِيعاً، لَكِنْ تَنَوَّعُوا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ: فَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُرْجَمُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُرْمَى مِنْ أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُحَرَّقُ بِالنَّارِ).
فهذا بيانٌ شافٍ لحقوقِ الشَّواذِ الكَونيةِ والشَّرعيةِ .. فالحذرَ، الحذرَ، فَقَدْ قَرَّبَ اللَّهُ تَعَالى مَسَافَةَ الْعَذَابِ بَيْنَ أُمَّةِ لُوطٍ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ مُخَوِّفًا لَهُمْ حتى لا يَقَعوا في الْوَعِيدِ: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
المرفقات
1639540097_حقوق الشواذ.docx
1639540113_حقوق الشواذ.pdf