حفظ العقل ثالث الضرورات الخمس. 1443/7/24هـ

عبد الله بن علي الطريف
1443/07/23 - 2022/02/24 17:36PM

حفظ العقل ثالث الضرورات الخمس. 1443/7/24هـ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ، اللَّطِيفِ الْقَاهِرِ، الَّذِي جَعَلَ الْعَقْلَ أَرْجَحَ الْكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ، وَالْعِلْمَ أَرْبَحَ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وَأَشْرَفَ الْمَعَالِي وَالْمَفَاخِرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ العَفُو الغَافِر، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّداً عَبْدُهُ رَسُولُهُ ذِو الْمَجْدِ الظَاهِرِ، الْمَبْعُوثُ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَنَاسِخًا بِشَرْعِهِ كُلَّ شَرْعٍ غَابِرٍ وَدِينٍ دَائِرٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]

أيها الإخوة: للعقل في الإسلام أهميةٌ كبرى فهو مناط المسؤولية، وبه كرَّم الله تعالى الإنسانَ وفضَّله على سائر المخلوقات، وتهيَّأ به للقيام بالخلافةِ في الأرض، وسخَّر له ما في البرِّ والبحر، قال الزمخشري: "كرَّمه اللهُ تعالى بالعقل، والنُّطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة، والقامة المُعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد". ووصف الغزَّالي العقلَ بأنه " آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف" وملاك أمور الدِّين والدنيا، وبأنه أشرف صفات الإنسان..

ولأهمية العقل في الإسلام؛ جعلتْه الشريعة المقصد الثالث من مقاصدها فحفظ العقل، بعد حفظ الدِّين وحفظ النفس، وهذا الترتيب يُبيِّن لنا مدى احتفاء الشريعة بالعقل، فالدِّين أوَّلاً؛ لكونه الغاية التي من أجلها خلقَ اللهُ تعالى الخلق، والنفس ثانياً؛ لكونها الوعاء الذي يضمُّ الجوارح والقلب والعقل.. وجاء العقل في المرتبة الثالثة؛ لكونه وسيلةَ التَّلقِّي والفهم، فيتلقَّى عن الله تعالى بواسطة الأنبياء الشريعة، ويفهم عنهم المراد والمقصد.. وكلَّفه بعبادته، وطاعته وتحمُّل الأمانة اعتمادًا على وجود العقل، وتحقق مصالح الدنيا والآخرة يحتاج إلى الشرع، والشرعُ لا يقوم إلاَّ على العقل؛ لأنه أساس التكليف.

ومعنى حفظ العقل: حفظُه من أن يدخل عليه خلل، لأن دخول الخلل على العقل مؤدٍّ إلى فساد عظيم من عدم انضباط التصرف. فدخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم. ولذلك يجب منع الشخص من السكر، ومنع الأمة من تفشّي السكر بين أفرادها، وكذلك تفشّي المفسدات مثل الحشيشة والأفيون والمورفين والكوكايين والهروين، ونحوها مما كثر تناوله في القرن الرابع عشر الهجري.

أيها الإخوة: عناية الإسلام بحفظ العقل وجعله من الضرورات الخمس أكبر دليل على اهتمامه به، والمتأمل في نصوص الشريعة ومقاصدها يدرك ذلك، فمن مظاهر اهتمام الإسلام بالعقل: جعله شرطًا في التكليف فما من عبادة تحتاج للتكليف إلا جعل العقلَ شرطاً لها.. ولذلك رُفِعَ الْقَلَمُ أي المؤاخذة عمن زالت عقوْلُهم بغير إرادتهم؛ فَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَحَهُ الأَلبَانِي.

والعقل كذلك مناطٌ في التعامل مع أحوال النفس والكون، اكتشافًا لأسرارهما واستنباطًا لقوانينهما والاستفادة من خبراتهما..

وقد أمر الله عز وجل الإنسان بالتفكير والتدبير والتأمل وميزه بذلك عن كثير من المخلوقات، كما أثنى سبحانه وتعالى على أصحاب العقول السليمة من المجتهدين والمفكرين والمتدبرين.

وكل هذا دليل على مكانة العقل في الإسلام، ودوره الملحوظ في فهم الأحكام واستنباطها وتطبيقها.

أيها الإخوة: ودعا الإسلام لحفظ العقل، واهتم به فمنع كل ما يعيقه ويعطله، فمنع المسكرات والمخدرات والمفترات، وكل ما يغيب العقل عن دوره في التكفير والتدبير، ومنع كثرة السهر ودوامه وقتل الأوقات وإضاعتها، كذلك نهى عن بقاء الجهل وانتشار الأمية، وأمر بطلب العلم ونشره وتعميمه؛ لأن بقاء العقل معطلًا بالجهل أو الأمية أو غيرها يعد من أسوء حالات العقل وأفسد سماته وعواقبه.

ومن عناية الإسلام بالعقل: أنه جعل له حدودًا وقيودًا لا يتعداها ولا يتجاوزها؛ وذلك لأن إطلاق العقل وتحريره بشكل مطلق يؤدي لا محالة إلى مفاسد لا تقل خطورة عن مفاسد تعطيله وتحجيم دوره؛ فحفظ العقل مصان بالوسطية الإسلامية المعهودة بإثبات دوره ومكانته وضبطه بقيود معتبرة وضوابط معلومة.

أيها الإخوة: وبالغ الإسلام في حفظ العقل وجعل شرب قليل المسكر محرماً، ورتب الحد عليه، ووجه أن الكثير من المسكر مفسد للعقل، ولا يحصل إلا بإفساد كل واحد من أجزائه فحُد شارب القليل، لأن القليل متلف لجزء من العقل، وإن قل.. ويقاس على تحريم الخمر كلُ ما يُذهب العقل من المخدرات والحشيش ونحو ذلك.

أيها الأحبة: والخمر حرام بكتاب الله تعالى.. حرام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حرام بإجماع الأمة إجماعاً قطعياً معلوماً من دين الإسلام بالضرورة لا خلاف فيه ولا نزاع، ولا إشكال ولا لبس.. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.) [المائدة:90]، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أيما تحذير فمرة باللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله فقد لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ. رواه الترمذي قال الألباني حسن صحيح وابن ماجه وصححه الألباني عَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ومرة بالتهديد بعدم دخول الجنة أو المنع من بعض نعيمها، قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ" حديث حسن رواه ابن حبان عَنْ عن أَبِي مُوسَى وقال الألباني صحيح لغيره، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ. متفق عليه عَنْ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.. ومرة بالتحريم والوعيد بعقوبة خاصة قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أَوْ «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. ومرة بعدم قبول العمل بقوله الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحدٍ يشربُها فتقبلُ له صلاةٌ أربعين ليلةً، ولا يموتُ وفي مثانته منها شيءٌ إلا حُرِّمتْ بها عليه الجنة؛ فإن مات في أربعين ليلة ماتَ ميتةً جاهليةً. رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاكم وصححه الألباني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما..

والخمر محرمة بالإجماع قال شخنا محمد العثيمين رحمه الله: وأجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقديم الزمان وحديثه على أن الخمر حرام إجماعا قطعيا لا ريب فيه.. اللهم احفظ عقولنا واجعلنا هداة مهتدين أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم...

الثانية:

أما بعد أيها الإخوة: ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح آفات الخمر وأطال ومما قال: من آفات خمر الدنيا أنها تغتال العقل ويكثر اللغو على شربِها بل لا يطيبُ لشُرْابِها ذلك إلا باللغو.. وتوقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتدعو إلى الزنا وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم.. وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين وتسلبه أحسن الأسماء والسمات وتكسوه أقبح الأسماء والصفات.. وتسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه.. وتهتك الأستار وتظهر الأسرار وتدل على العورات وتُهَوْنُ ارتكاب القبائح والمآثم وتخرج من القلب تعظيم المحارم.. وكم أفقرت من غنى وأذلت من عزيز ووضعت من شريف وسلبت من نعمة وجلبت من نقمة وفسخت من مودة ونسجت من عداوة وكم فرقت بين رجل وزوجته فذهبت بقلبه وراحت بلبه.. وكم أورثت من حسرة وأجرت من عبرة وكم أغلقت في وجه شاربها بابا من الخير وفتحت له بابا من الشر وكم أوقعت في بلية وعجلت من منيته وكم أورثت من خزية.. فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلابة النعم وجالبة النقم..

وقال آخر: شارب الخمر يتصور نفسه الشجاع المقدام، والحاكم المطاع وهو في الحقيقة أضعف من دجاجة وأخبث من جُعل.. يقترف الإجرام وينطق بأخبث الكلام وربما سب الله ورسوله ودين الإسلام، وربما لعن أباه وأمه وغيرهم من ذوي الأرحام.. وربما ضرب زوجته وطلقها من غير سبب، وربما وضع الأقذار على نفسه.. يضحك بلا عجب ويبكي من غير سبب.. لو رأيته وهو ثمل يترنح وقد احمرت منه العينان وارتعشت منه اليدان.. حقير ذليل.. قد اختلط عليه الليل بالنهار خائف وجل يهذي بما لا يدري..

وبعد أحبتي: كم من حرة تعاني من سوء تعامل زوجها السكير.. وتسكت صابرة من أجل أبنائها الذين يفقدون عطف أبيهم ورعايته وهذا قد يسبب لهم أمراضاً نفسية أو انحرافاً يقود لإدمان المخدرات وبيع العرض.. تحروا عند تزويج البنات وتفقدوا بناتكم بعد الزواج لتطمأنوا على حياتهن فربما ابتليت بعض البنات بسكير فعاشت في ضيق وخوف وأقرب الناس لا يدري عنها بسبب الغفلة وحسن الظن..

ومن المهم تنبيه أبنائنا لمضار هذا الشراب المعلون شاربها وكذلك الحذر من كل مخدر أو مفتر مهما كان اسمه وتحذير المبتعثين لخارج الوطن وخصوصا إلى البلاد التي يباع فيها الخمر كما يباع الماء والعصير.. وتحذيرهم من الكأس الأولي والحبة أو السيجارة الأولى فهي الخطوة الأولى في هذا النفق المظلم المنتن.. والدعاء لهم بالحفظ.. اللهم احفظ شباب الأمة وشباتها من الشبهات والشهوات واجعلهم هداة مهتدين..

 

المشاهدات 1702 | التعليقات 0