حِضن الأمهاتُ-9-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

محمد بن سامر
1442/06/08 - 2021/01/21 17:16PM

حِضن الأمهاتُ-9-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

    إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.

"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".

أما بعد: فيا إخواني الكرام:

هو المكانُ الذي يترعرعُ فيه الرِّجالُ، بل هو المصنعُ الذي يُصنعُ فيه الأبطالُ، هو المدرسةُ التي تُدَّرسُ فيها الأخلاقُ للأجيالِ، وهو الجامعةُ التي تتحقَّقُ فيهِ كبارُ الآمالِ، هو مصدرُ الجَمالُ، هو منبعُ الجلالِ، هو مبلغُ الكَمالِ، فهل علمتم من هو المقصودُ بالمَقال؟ ... إنَّه حِضنُ الأمَّهاتِ.

ولم أَرَ للخَلائقِ مِنْ مَحلٍّ*يُهذِّبُها كحِضنِ الأُمَّهاتِ

فحِضْنُ الأمِّ مَدرسةٌ تَسامتْ*بتَربيةِ البنينَ أو البَناتِ

وأخلاقُ الوَليدِ تُقاسُ حُسْنًا*بأَخلاقِ النِّساءِ الوَالداتِ

أَتَذْكُرُ عندما كُنتَ تَجلسُ في حِضنِها؟، فتشعرُ بأنَّكَ ملكٌ من الملوكِ على عَرشِ مُلكِهِ، مكانٌ يُشعرُكَ بالطُّمأنينةِ والأمانِ، مكانٌ يُملأُ فيك العِزَّ والإحسانَ، أَتَذْكُرُ لسانَ أمكَ الذي لا يَفترُ عن الحمدِ والذِّكرِ؟، أَتَذْكُرُ قلبَ أمِك المليءَ بالثَّناءِ والشُّكرِ؟، أَتَذْكُرُ قيامَ أمِك في اللياليَّ الخَاليةَ، تفرشُ فيها سجادَتها البَاليةُ، فتحيطُك بدعواتِها الغَاليةَ؟، فكيفَ أصبحتَ أنتَ ذلكَ الرَّجلَ لولا اللهُ ثم لَولاها؟، وكيفَ وَصلتَ إلى النَّجاحِ لولا توفيقُ اللهِ ثم دُعاها؟، فأخبروني عن أحوالِ الأمَّهاتِ، أخبرُكم عن الأجيالِ القادماتِ.

يقولُ: حَفَّظَتْني أُمِّي القُرآنَ وعُمري عَشرُ سَنواتٍ، وكانتْ تُوقظني قَبلَ صَلاةِ الفَجرِ، وتُجهِّزُ لي الماءَ، ثُمَّ تلبسُ خِمارَها، وتَذهبُ معي إلى المسجدِ لأنَّه بَعيدٌ، يقولُ: فَلما بَلغتُ السَّادسةَ عَشرةَ من عُمري، قَالتْ لي أُمي: اذهبْ وتعلَّمْ حديثَ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-؛ وأَعطتني زادَ السَّفَرِ: عَشرةَ أَرغفةٍ شَعيرًا، ووَضعتْ مَعها صُرةَ مِلحٍ، وقَالتْ: يا بُنَّي إنَّ اللهَ إذا استُودعَ شَيئًا لا يُضيِّعَه أَبدًا، فأستودعُكَ اللهَ الذي لا تَضيعُ وَدائعُه، فأَخرجتْ هذه الأمُّ المباركةُ لأمَّةِ الإسلامِ إمامَ أهلِّ السُّنَّةِ الجماعةِ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلَ-عليه وعلى أمِهِ رحمةُ اللهِ تعالى-.

ولما أَرسلَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ إلى والدتِه-رحمهم اللهُ تعالى-رِسالةً يَعتذرُ إليها عن ابتعاده عنها فهي في دمشق وهو في مِصرَ، لأنَّه يَرى ذَلكَ أَمرًا ضَروريًا لتعليمِ النَّاسِ الدِّينَ، جاءَه الردُّ من والدتِه: "يا أحمدُ، واللهِ لمثلِ هذا رَبيتُكَ، ولخدمةِ الإسلامِ والمسلمينَ نَذرتُك، وعلى شَرائعِ الدِّينِ عَلمتُك، ولا تَظننَّ يا وَلدي أنَّ قُربَكَ مِني أَحبُّ إليَّ من خِدمتِك للإسلامِ والمسلمينَ في شَتَّى الأمصارِ، يا وَلدي إنَّ غايةَ رِضائي عَليكَ يَكونُ بقدرِ ما تُقدمُه لدينِك وللمسلمينَ، وإنِّي يا وَلدي لن أَسألَكَ غَدًا أَمامَ اللهِ عن بُعدِك عَني، لأَني أعلُم أينَ كنتَ، وفِيمَ أَنتَ، ولكن يا أحمدُ سأسألُكَ أمامَ اللهِ، وأُحاسبُك إن قَصَّرتَ في خِدمةِ دينِ اللهِ، وخِدمةِ أتباعِه من إخوانِكَ المسلمينَ"، فعجبًا من مثلِ هذهِ الأمَّهاتِ، وصدقَ القائلُ:

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها*أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

وكانتْ أمُ السُّلطانِ محمدٍ الفاتحِ-رحمهم اللهُ تعالى-تَأخذُه وهو صَغيرٌ وقتَ الفجرِ؛ ليُشاهدَ أَسوارَ القِسطنطينيةِ، وتَقولُ لَهُ: أَنتَ يا مُحمدٌ تَفتحُ هذهِ الأسوارَ، فاسمُكَ مُحمدٌ كما قَالَ رَسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلمَ-، ومُحمٌد الصَّغيرُ يَقولُ: كَيفَ يا أُمي أَفتحُ هذه المدينةَ الكَبيرةَ؟، فتَردُّ قَائلةً: بالقرآنِ والسُّلطانِ وحُبِّ النَّاسِ.

أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فالأمُّ كانتْ وما زالتْ هي خيرُ الأصحابِ، وهي أقربُ الأحبابِ، هي نورُ البيتِ، الذي إذا خرجتْ منه أظلمَ منه كلُّ شيءٍ، مُنيبةً إلى ربِّها، طائعةً لزوجِها، مربيةً لولدِها، وكما أنَّ جنَّةَ الآخرةِ تحتَ قدميها، فجنَّةُ الدُّنيا في حِضنِها، كانَ ذلكَ الحِضنُ بالنسبةِ لنا ونحنُ صِغارٌ، دواءَ المريضِ، ونهايةَ الأوجاعِ، وسَعادةَ المحزونِ، وتسليةَ المُصابِ، في ذلكَ الحِضنِ كانتْ تَتلاشى الأخطارُ، وتُبثُّ الأسرارُ، وتنهمرُ من العينِ الدُّموعُ، وتُوقدُ بعدَ الظُّلماتِ الشُّموعُ.

فإذا رأيتَ الرَّجلَ راقيًا في دينِه وأخلاقِه، مفلحًا في دُنياهُ وآخرتِه، فاعلمْ أنَّ له أمًّا صالحةً، ربَّتهُ في حِضنِها العظيمِ، ومَدَّتهُ بدعائها الكريمِ، فهو يتقلَّبُ بسببِها من نعيمٍ إلى نعيمٍ، قد رضعَ منها البِرَ والدِّينَ والأخلاقَ، والرحمةَ والحبَّ والأشواقَ، وإذا رأيتَه غيرَ ذلكَ فقد يكونُ مِسكينا ماتتْ أمُهُ، أو ضَلَّتْ الطريقَ، أو ترَّبى في حِضنِ خادمةٍ فصارَ كالغريقِ، فمن أينَ له أن يكتسبَ الأمنَ والحنانَ؟، ومن أينَ له بناءُ الشَّخصيةِ والاتِّزانُ؟

فكيفَ نَظُـنُّ بالأبنـاءِ خَيـرًا*إذا نَشأوا بحِضنِ الخَادماتِ؟

كانوا يقولونَ قديمًا: "وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأةٌ"، ونحنُ نقولُ اليومَ: "وراءَ كلِّ جيلٍ عظيمٍ أمَّهاتٌ صالحاتٌ"، فالرِّهانُ اليومَ على الأمِّ، والمستقبلُ بيَدِ اللهِ ثمَّ الأمِّ، فأيُّ جيلٍ ستُقدُمُه الأمهاتُ للأمَّة؟

لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُ السماواتِ وربُ الأرضِ وربُ العرشِ الكريمِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ، وأصلحْ بطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيئها، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، نسألُك لنا ولهم من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).

اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.

 

 
المرفقات

1611249341_حِضن الأمهاتُ-9-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1611249345_حِضن الأمهاتُ-9-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 1351 | التعليقات 0