حضارةٌ بائدة وعبرٌ خالدة!

                                 حضارةٌ بائدة وعبرٌ خالدة!

                                   1439/10/22هـ

                                       الخطبة الأولى:

أمَّا بعد:

في جنوبِ الجزيرةِ العربيةِ وقفَ التاريخُ مدونًا حضارةً كبرى، ومجدًا عريقًا، إذْ كانتْ حاضرتُها وكُبْرى مُدُنِها جنةً منْ جنانِ العالم، حتى قِيل: إنّ السائرَ في أزقّتِها لوْ وُضِعَ على رأسِه وعاءً لوجدَه قدْ مُلِىءَ ثمارًا منْ كثرةِ الأشجارِ التي يسيرُ تحتَها.

﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾، وحضارةٌ مُذْهِلة، ورخاءٌ عزَّ نظيرُه، ورفاهيةٌ قلّمَا تكاملتْ لِقَوم، وقدْ بلغُوا منْ هذهِ النعمِ القِدحُ المعلّى، وتكاملَ حظُّهم فيها أوفرَ حظٍ ونصيب.

وعلى طولِ الخطِ الحدوديِّ بينَ حاضرتِهم وبينَ منتهى أسفارِهم كانتْ لهم نِعمٌ أخرى تختلفُ عن غيرِهم؛ فلمْ يكونُوا يحملونَ كغيرهِم من الأممِ أزوادًا عندَ ارتحالِهم إذْ ألهمَهُمُ اللهُ تشييدَ قرىً ظاهرةً تظهرُ للسائرِ منْ بُعدٍ فلَا يضلونَ طريقَها، يصبحُون في قريةٍ ويبيتونَ في أختِها، قدْ اكتملَ لهمُ الأمانُ فصارَ الليلُ والنهارُ في أسفارِهم سيّان لم يعرفُوا قطاعَ طرقٍ ولا خِيفةَ تِيهٍ وضياع.

عبادَ الله!

إنَّ حضارةً بهذه المثابةِ جديرةٌ بأنْ تُسَمّى سورةٌ منْ سُورِ كتابِ ربِّنا بِها، وإنّها في قيامِها وزوالِها عبرٌ ودروسٌ لكلِّ البشرِ ولاسيما تلكَ الأمةِ التي أرادَها اللهُ تعالى أنْ تكونَ قائدةً للبشريةِ فِي مدى الدهر؛ أمةَ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم.

إنّ هذهِ النعمَ التي اكتملتْ في "مملكةِ سبأ" هيَ مقوماتُ الحضارةِ والمدنيّة، وَهِيَ أُنْمُوذجٌ يتكرّرُ في كلِّ زَمَان، فإنْ كانَ المؤرخونَ اليومَ يعدونَ سبأ حضارةً بائدة، فإنّ عِبَرَها ودُرُوسَها لنْ تكونَ بائدةً لقومٍ يتدبرون: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أيها المؤمنون!

سبأ ليستْ خبرًا منْ أخبارِ التاريخِ التي تُطوَى إذِ التاريخُ يعيدُ نفسَه، والمؤمنُ الواعي يدركُ أنّ في تاريخِنا أحداثًا مشابهةً وقصصًا محزنةً حيثُ حواضرُ الأندلسِ في الغرب: قرطبةُ وإشبيليةُ وغرناطة.

وفي مشرقِه يُبصرُ بعينِ بصيرتِه: سمرقندَ وبخارى وبغدادَ الرشيد، وسامراءَ المعتصم، ودمشقَ الحضارة، وحلبَ الشهباءِ وهلم جرا.

أما مملكةُ سبأَ التي نحنُ بصددِها، ماذا جَرَى عليهِمْ حينَ بدّلُوا نعمَ اللهِ وكفرُوا بِها، يحدثُنا القرآنُ أنهم بدلُوا وانحرفُوا فبدّلَ اللهُ عليهمْ فإذا جنانُهُمُ الخضراءُ أصبحتْ ﴿جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾، وإذا القرى الجميلةُ الظاهرةُ أصبحتْ صحراءَ مصفرَّة، ليسَ فيها إلا العِضَاةُ والبادية.

 وإذا بالرفاهيةِ تنقلبُ شظفًا، وإذا بالاجتماعِ صارَ تمزقًا وتشريدًا ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فغدوا للعربٍ مثلًا وخبرًا، وفيهمْ جاءَ قولُ ذي الرُّمَّةِ:

                    فَيَا لَكِ مِنْ دَارٍ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا ... أَيَادِي سَبَا عَنْهَا وَطَالَ انْتِقَالُهَا

أيُّها الإخوةُ الكرام!

إنّ المتأمّلَ في أولِ إخْفَاقٍ لهؤلاءِ القومِ في امتحانِ الرخاء: هوَ إعراضُهم عنْ توحيدِ اللهِ كما قالَ تعالى عنهم ﴿فَأَعْرَضُوا﴾، فكانَ الشركُ والإعراضُ عنِ التوحيدِ هوَ البابُ الأعظمُ الذي فتحَ عليهمْ البلاء ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل﴾، وقدْ تركَ القرآنُ تفاصيلَ هذا البلاءِ لِيُوقفَ الأمةَ على مفتاحِ البلاءِ الأعظمِ تاركًا كعادتِه ما لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي منْ تحليلاتِ الاقتصاديين، وأوهامِ المؤرخين.

والمتأملُ أيضًا يجدْ أنّ قاصمةَ الظهرِ لهذه الحضارةِ كانَ في بطرِ النعمةِ ومَلَلِها والاستهانةِ بِها: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، وصدقَ منْ قال: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا».

واجتماعُ الترفِ معَ كفرِ النعمِ مؤذنٌ بالهلاكِ والخسرانِ والتدمير: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيم.

                                         الخطبةُ الثانيةُ:

أما بعد:

معاشرَ المؤمنين:

الفناءُ للأمم، والبوارُ للحضاراتِ حينَ يخذلُهُمُ اللهُ فيركنُهُمُ إلى ضَعْفِهم البشريِّ فيهونونَ عليه، فتحقُّ عليهم كلمةُ العذاب ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)﴾ ، وفي قصةِ سبأ، تلكَ التي صارتْ أثرًا بعدَ عين، وحديثًا بعد حضارة، يبصرُ المؤمنُ معنى خذلانِ اللهِ لهم، فانشلّ تفكيرُهم في العواقب، فعبثَ الشيطانُ بأحلامِهم وعقولِهِم.

إن مفتاحَ السرِ لعبرِ سبأَ هوَ الصبرُ والشكرُ؛ ولِهذا قالَ تباركَ وتعالى في ختامِ خبرِهم: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ قالَ قتادة: "نِعْمَ العبدُ عبدٌ إذا ابْتُلِيَ صَبَر، وإذا أُعْطِي شَكَر".

 وأمّا الوشيجةُ بينَ الصبرِ والشكرِ فيجلّيها ابنُ جريجٍ بقولِه: "وجدنَا أصبرَهم أشكرَهم، وأشكرُهم أصبرُهم".

وذلكَ أنّ الشكرَ حصانٌ للمؤمنِ منْ بطرِ النعم، وطغيانِ المِنَن، فَلَا يحرمهُ اللهُ التوفيقَ ولا يقذفُ به خذلانُ اللهِ في بُنِيّاتِ الطريق.

عبادَ الله:

وفي هذهِ القصةِ عدةُ آيات: فمشهدُ انعكاسِ حالِهِمْ مِن الرفاهيةِ إلى الشظفِ آيةٌ على تقلّبِ الأحوال، وتغيرُ العالم، وآيةٌ على صفاتِ اللهِ تعالى من خلقٍ ورزقٍ وإحياءٍ وإماتة.

 وفي ذلك آيةٌ منْ عدمِ الاطمئنانِ لدوامِ الحالِ في الخيرِ والشر، فيكونُ المؤمنُ على حذرٍ فلا يبطرُ عِندَ النعماء، ولا يجزعُ عِندَ الضرّاء، وهذا أعونُ ما يكونُ على ضبطِ الإنسان، وأبقى لحياةِ ضميرِه وإنسانيتِه فيكونُ رؤوفًا بالمنكوبين والمشردين، ويدخرُ منْ أيامِ رخائِه صنائعَ معروفٍ لأيامِ شدتِه، ومنْ سرّه زمنٌ ساءتْه أزمان.

ومما يُفاد من هذهِ القصة: فيما كانَ منْ عُمْرَانِ إقليمِهم واتساعِه أنّ الأمنَ أساسُ العمرانِ والنهضة، وفي تمنِّيهم زوالُ ذلك آيةٌ على ما قدْ تبلغُهُ العقولُ منَ الانحطاطِ المُفْضِي إلى اختلالِ الأمور، وذهابِ المكتسبات؛ ولذا جاءَ النهيُ في الشريعةِ المباركةِ عنِ الدعاءِ على النفسِ والولدِ والمال، وهوَ من العجلةِ المذمومة؛ ﴿وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا﴾.

وفي حديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَدْعُوا على أَنْفُسِكُمْ إلا بِخَيْرٍ؛ فإن المَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ على ما تَقُولُونَ)؛ رواه مسلم.

وفيما صاروا إليه من النزوحِ عن الأوطانِ والتشتتِ في الأرضِ آيةٌ عظيمة، فالاستقرارُ نعمةٌ لا يعرفُ قدْرَها إلا المشرَّدون!

كما أنّ في هذه القصةِ العظيمةِ دليلاً على قدرةِ الرب - جلّ جلالُه - على تحويلِ النعمِ إلى نِقم، وقلبِ المنحِ إلى محن؛ ذلكَ أنّ هذه المدينةَ ملّت هذه المنح، وأعرضتْ عنْ شرعِ الله، وكفرتْ بنعمِ الله، وفِي ذلك يحذرُ المرءُ من نسيانِ نعمِ اللهِ عليه أو مللِها وعدمِ شكرِها فَهُو مؤذنٌ بجريانِ السننِ عليه، وسننُ اللهِ لا تحابي أحدًا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ  سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)﴾.

اللهم إنا نعوذُ بِك من زوالِ نعمتِك وفجاءةِ نقمتِك وجميعِ سخطِك،اللهم أدمِ الْسَّكِينَةَ فِي قلوبِنا، وَالْسَّعَادَةَ فِي بُيُوتِنا، وَالْصَحِةَ فِي أبدانِنا، وَالتَّوْفِيْقَ فِي حياتِنا، والأمَانَ فِي دُرُوبِنا، وَالنُّورَ فِي وُجُوهِنا، واغْفِرْ لنا ولِوالدينا ولذرياتِنا وأحبابِنا، وكلِّ عزيزٍ علينا يا ربَّ العالمين.

المرفقات

سبأ-5

سبأ-5

سبأ-6

سبأ-6

المشاهدات 1399 | التعليقات 0