حصار المسجد الأقصى المبارك منذ ليل السبت الفائت، واحتجاز أكثر من مئتي معتكف!!!خطبتك
أبو عبد الرحمن
المشاهدات 5606 | التعليقات 7
1- إحراق اليهود للمسجد الأقصى. 2- معاناة المقدسيين ودفاعهم عن المسجد الأقصى. 3- المخاطر المحدقة بالمسجد الأقصى. 4- واجب المسلمين تجاه هذه الأحداث والجرائم الصهيونية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله تفرّج الكربات وتستجلب البركات وتستنصر ربَّ البريات، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.
معاشر المؤمنين، لم تكد تمرّ علينا الذكرى المؤلمة التي كانت طعنة في قلب الأمّة الإسلامية، ذكرى إحراق المسجد الأقصى على يد يهودي صهيوني عام 1969 ميلادية، حين التهمت النار أجزاء هامة منه كمنبر صلاح الدين الأيوبي محرر الأقصى من الصليبيين، في اعتداء آثم لا زالت ذكراه تؤلم قلوب المسلمين، حتى دنس الصهاينة أرض المسجد الأقصى قبل أيام لإقامة صلواتهم الباطلة كما يزعمون، في سلسلة اعتداءات آثمة متكررة تستهدف تهويد المكان المقدس وبناء هيكلهم المزعوم.
إنها النار التي لا زالت تلتهم الأقصى والقدس والمقدسيين حتى الآن، إنها نار الكيد الصهيوني لتدنيس المسجد وتهويد القدس، فلا زالت حرب الاقتحامات والمصادرة لأملاك المقدسيين والتهويد والاغتصاب العنصري مستمرة، ولا زال المقدسيون يعانون، ولا زال الأقصى يعاني من محاولات عزله عن أهله ومنع المسلمين من الصلاة فيه. إنه المسجد الأقصى ـ عباد الله ـ أولى القبلتين ومسرى رسول الله ومعراجه إلى السموات العلا، وموضع إمامته للصلاة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
استهداف الأقصى ـ عباد الله ـ لم يمنع المسلمين من الدفاع عنه، فقد شهدت ساحاته والساحات المحيطة بالقدس مواجهات قدم فيها المقدسيون المرابطون خيرة أبنائهم دفاعًا عن القدس والأقصى، رأيناهم شبابا وشيبا، رجالا ونساء، يتصدون لهجمات الصهاينة بأسلحتهم وهم عزّل إلا من الإيمان والفداء والشجاعة.
معاشر المؤمنين، إن الأقصى في خطر محدق، انهيارات أرضية نتيجة للحفريات أسفل الأقصى، وتشققات في ساحات الأقصى ناتجة عن عمليات الحفر المجنونة تحت بلاط الأقصى، يقول أحد خبراء الآثار الفلسطينيين: أفقنا يومًا ولم نجد قطرة ماء في أحد آبار المسجد الأقصى، فنزلنا في البئر لنعرف السبب، فوجدنا عددًا من الصهاينة اليهود يقومون بأعمال حفريات داخل البئر وقد وصلوا له من الأسفل.
لقد أصبح أسفل المسجد الأقصى منطقة فارغة مختلة القواعد، نتج عنها انهيارات وتشققات في أرضيته بشكل مستمر، فماذا لو تم العبث بأساسات المسجد من الذين يقومون بالحفريات وافتعلوا انفجارًا أو هزة ما؟! كما يخطط الصهاينة لبناء جسر لحمل شاحنات تدخل من باب المغاربة إلى باحة المسجد، فما الذي ستحمله تلك الشاحنات التي يخطط لإدخالها للأقصى؟!
لقد تم بالأمس القريب ـ عباد الله ـ إحباط مخطط لتغيير أقفال ومفاتيح أحد أبواب المسجد الأقصى من قبل مجموعة من الصهاينة الذين يعملون على اقتحام المسجد بشكل مستمر، إنهم يسعون ـ عباد الله ـ لتقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، توطئة لتخصيص موقع لهيكلهم المزعوم، وقد تم الإعلان عن تدريبات للقوات الخاصة الصهيونية لتسلّق جدران المسجد الأقصى واقتحامه، كما أنهم وضعوا مؤخرا مجسما لهيكلهم المزعوم في باحات المسجد الأقصى في تحدّ للعرب وللمسلمين جميعًا، وتأكيدًا على مخططهم لهدمه وبناء الهيكل، كل هذا الكيد والمكر يشير إلى أن المسجد الأقصى على أبواب خطر كبير، خطر داهم، يهدد كيانه وبنيانه، فما الذي أعده المسلمون لمواجهة هذا المكر الصهيوني تجاه قبلتهم الأولى مسرى رسول الله ؟!
نسأل الله جل وعلا أن يحمي بيته ويحفظ دينه، وأن يعين الأمة على أداء واجبها والقيام بدورها لحماية الأقصى وتحريره من دنس اليهود.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأكرمنا بالإيمان وشرفنا بالقرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: معاشر المؤمنين، إننا حين نجدد الذكريات فإننا ننشد تمييز طريق الهدى عن سبل الضلالات، وحين نتذكر الآلام فإننا نجدد العزم والآمال، فقد كانت النكبات لأمتنا تنبيها عن الغفلات وتجديدا للعزمات واستدراكا للضعف والتراجعات، والواجب على كلّ مسلم اليوم أن ينتصر للأقصى بما يطيق ويستطيع ولو بالكلمة والدعاء؛ لأن اعتقاد القلب بوجوب النصرة والتبرؤ من الخذلان أمر لازم لتبرأ الذمة يوم الوقوف بين يدي الواحد الديان.
الجهاد والدفع واجب لتحرير الأقصى بل وفلسطين جميعها عباد الله، هذا هو حكم الإسلام، فلا تحرير للأقصى ولا استرجاع للحقوق المغتصبة إلا بالجهاد في سبيل الله، لا نقول ذلك دغدغة للعواطف وتجاهلا للواقع، بل عن عقيدة وإيمان واستجابة لحكم العزيز المنان، واستمعوا لقول ربكم ـ أيها المسلمون ـ لتدركوا الطريق المستقيم وتسلكوه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
هؤلاء هم الموعودون بالنصر، وليسوا أولياء اليهود وأتباع الشيطان الذين باعوا دينهم ووطنهم ومقدساتهم بثمن بخس، فهؤلاء ليسوا أهلا بتنزل النصر عليهم.
عباد الله، نصرة الأقصى واجبة بالدعاء والمساندة المادية التي تثبت رباط المقدسيين، فهناك مشروع شد الرحال للأقصى بتسيير قوافل المصلين إليه؛ ليكون عامرا بأهله، ومشاريع الترميم والعمارة ومشاريع التعليم وغيرها من المشاريع الخيرية التي يترجم المسلم خلالها نصرته للأقصى عمليّا، كما أن الوقوف أمام مخططات التطبيع مع العدو الصهيوني واجبة في ظل الضغوط والمؤامرات التي تمارسها قوى الاستكبار والعداء للإسلام، والأوهام التي يجري وراءها عملاء الاستسلام ووكلاء الخيانة الذين لا زالوا يلهثون وراء السراب ويتذللون للصهاينة لاستجدائهم، ثم هم يشهرون السلاح في وجه المقاومة الباسلة حماية للصهاينة وإمعانا في مهاوي الخيانة والعمالة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
فاتقوا الله عباد الله، وانتصروا لدينكم ومقدساتكم، وأنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
أما نحن فالأندلس ضيعناها، والقدس بعناها؛ وذلك لأنا تركنا ما كان عليه سلفنا من التمسك بالدين، وذهبنا وراء الشهوات والنزوات، وكانت العاقبة أن ضيعنا أرضنا، وليس لنا سبيل إلى تحرير القدس إلا التمسك بديننا الإسلامي، وإن اليهود يحاربوننا عن دين فلا بد أن نحاربهم عن دين، لا عن قومية أو وطنية أو علمانية.
أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوا الله ربكم حق تقاته، واحذروا بطشه ومقته فهو معكم أينما كنتم.
أيها المسلمون: إن التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أكثر العبر وأقل الاعتبار!
إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من ماضيها، ولا تستفيد من ماضيها لحاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة بتة، فالماضي والتاريخ ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو أساسٌ من أسس إعادة صيغة الحاضر وبناء المستقبل، وكتاب ربنا قد بسط لنا في أحوال الماضين، وقص علينا من قصص الغابرين؛ لأخذ الدروس واستلهام العبر.. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[يوسف:111] .. ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون[يونس:14].
أيها الإخوة: إن سجل التاريخ هو المنار المرشد الذي يهدي -بإذن الله- ربان السفينة فيجنبه الصخور المدمرة في قاع البحار، ويقيه الأمواج العاتية فوق سطح المياه.
إن واقع الأمة اليوم في كثير من بقاعها وأصقاعها وأحوالها وأوضاعها يستدعي النظر والاعتبار، والتفكر والادكار، ولو أن المسلمين استوعبوا دروس الماضي لما أخطئوا في كثيرٍ مما أخطئوا فيه، والذي ينظر في تغيرات الأمم في مللها وأخلاقها، ويتأمل في تقلبات الدول في سياساتها واقتصادها هو أقدر على تفهم الحوادث الماضية، والتي هي صورة مشابهة لكثيرٍ من الوقائع المعاصرة.......
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وتوشك أن تشبه الليلة البارحة، إنهم أسلافنا وأجدادنا في بلاد الأندلس .. دخلوها بالإسلام فاتحين، وبالعقيدة مستمسكين، ومن عالي الأخلاق متمكنين .. لأوامر ربهم متبعين، وعن مناهيه ومساخطه متباعدين .. كيف دخلوا؟ يقول أحد النصارى في رسالة بعث بها إلى ملكه يصف فيها جيش المسلمين الذين عبروا إلى بر الأندلس بقيادة طارق بن زياد : لقد نزل بأرضنا قومٌ لا ندري أهبطوا من السماء، أم نبعوا من الأرض؟
إنهم القادة والملوك: موسى بن نصير ، وطارق بن زياد ، والسمح بن مالك ، وعبد الرحمن بن حكم ، وعبد الرحمن الغافقي .. في كوكبة من القادة والسادة.
فهاهو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، ينزل من البحر فتهدى إليه جارية بارعة الجمال، فينظر إليها ويقول: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وأنا إن لهوت عنها بهمتي وبمهمتي ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت همتي ومهمتي، ثم قال: والله لا حاجة لي بها.
لقد سار المسلمون في الأندلس في عزة وقوة ومنعة ووحدة وتماسك على هذا النهج.
يذكر ابن تغري بردي : أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته، وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفذ كل وقته، حتى أنه كان لا ينام إلا سويعات متفرقات، فقيل له: لقد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى نومٍ أكثر من هذا. فأجاب: إن الراعي لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان في بيوت هذا البلد العظيم عينٌ نائمة.
هذه هي صورة القوة، وحسن الرعاية، وصدق الحماية، وحفظ البلاد، ولقد بقوا على ذلك قروناً طوالاً محافظين على دينهم، معتزين بإسلامهم، متوحدين في كلمتهم، يجسد ذلك قول بعض المؤرخين من المسلمين: بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس منا لما أضعنا دين الله.
إن كل تقدم حضاري، وسموٍ فكري، وثقل سياسي، وارتفاع معنوي، وعز سلطاني، إنما مرده إلى التمسك بدين الله، وهو مرهون بمقدار الالتزام بشرع الله والبعد عن الحياة اللاهية والمجون السافر والحقوق المهدرة .. يقول ابن خلدون : إذا تأذن الله بانقراض الملك في أمة حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل، وهذا ما حدث في الأندلس وأدَّى إلى ضياعها.
بل قد أدرك ذلك كاتبٌ من الخصوم يدون لذلك العصر فهو يقول: العرب هووا وسقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، أصبحوا على قلبٍ متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.
ألا ما أكثر العبر وأقل الاعتبار! وماذا عملت كثيرٌ من وسائل الإعلام الإسلامية اليوم؟ وكتاب ربكم يقول: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً[الإسراء:16].
أيها الإخوة: إن سنن الله في الأمم لا تتخلف، بل لقد ذكر ابن حزم شيئاً خطيراً في بيان الحال التي وصل إليها حكام دويلات الأندلس في سبيل مصالحهم الذاتية، وما يقدمونه للأعداء من تنازلات خطيرة، حتى قال: والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون الأعداء فيمكنوهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها الإخوة: إن التاريخ دروس وعبر، لقد انحرف هؤلاء الأسلاف عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وقعدوا عن الدفاع عن حرمات المسلمين، وابتعدوا عن أسباب التآلف والاتحاد، وحلت الأثرة محل الإيثار؛ ثم من بعد ذلك تكالبت عليهم القوى المعادية، فتمكنت منهم ومزقتهم شر ممزق.
يا قومنا! لقد ابتغى طوائف من قومنا العزة والنصر والوحدة بغير دين الله؛ ابتغوها في القوميات والوطنيات، وفي البائد الفاسد من الأحزاب والانتماءات، فماذا كانت النتيجة؟ إنها الذل -ولا أبلغ من كلمة الذل- وواقع الذل في كثير من الأنحاء والجنبات.
إن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا ومواقع أخرى اختزنت الذل في ظل نداءات غير إسلامية، وما واقع هذه القضايا إلا شاهدٌ عليه .. أبواقٌ كانت تنفخ كاذبة، وتتاجر بهذه القضايا خاطئة .. ترعد وتزبد، وتحذر وتخبر بالوعود الوهمية حينما كانوا يقولون ويتنادون: تحرير كل شبر من الأرض، وتحرير كل حبة من الرمل، والنضال حتى آخر قطرة من الدم .. في نداءات وادعاءات صرخوا بها ونفخوا فما رأيت إلا هباءً ورماداً.
إن العرب والمسلمين حين ينبذون الإسلام وراءهم ظهرياً؛ فإنهم -والله الذي لا إله غيره- لينتحرون انتحاراً، ويطرحون سعدهم ومجدهم وطاقتهم وقوتهم.
ومن أجل استيعاب الدرس والوقفة الصادقة من أجل انطلاقة مثمرة فلنتأمل: إن كثيراً من الكتاب والمفكرين والمحللين والإخباريين الذين يتحدثون عن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا وكل حقوقنا ومغتصباتنا .. هل سمعتم أحداً منهم يتحدث عن الله وعن رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟!
هل تحدث أحدٌ منهم عن أن عمر بن الخطاب دخل بيت المقدس ، وتسلم مفتاح المدينة من النصارى وليس من اليهود؟!
ما تحدث متحدثٌ منهم عن أصلنا الديني وتاريخنا الإسلامي .. لا يتحدثون إلا عن كنعان وميراث كنعان .. ألا بعداً لـكنعان كما بعدت ثمود.
إن خصومنا هم بنو إسرائيل وأتباع التوراة! وأما بنو قومنا هؤلاء فيا ترى هم بنو من؟!
إن كثيرا ًمن بني قومنا لا يتنادون إلا باسم الأرض وحق كنعان ، وبالله الذي لا يحلف بغيره إن إدارة المعركة على هذا النحو ما هو إلا ضلال استعماري مرسوم وقع فيه من وقع، في محنة نفسية وعسكرية وسياسية، لن ينالوا -والله- من ورائها خيراً.......
نظرة إلى الواقع الأليم في كثيرٍ من أجزاء الأمة وبقاعها، وفي رءوس كثيرٍ من مفكريها ومثقفيها وساستها ومنظريها، تكشف كم بعدت الشقة بين هؤلاء وبين شريعة ربهم، ومناهج التربية تفرض عليهم من وراء حدود، ويتحكم فيها أعداء الإسلام كما يشاءون، وإعلامهم لا يهتم إلا بإثارة الغرائز، وبث الفرقة، ونقل كفاءات الغرب ومجونه .. فهل على الفيلم الخليع، والغناء الوضيع، والرقص الماجن تربى أمة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!
إنهم مفكرون ومثقفون ومنظرون لا يعتمدون على الدين في تربية، ولا يتبنونه بتشريع، ولا يوثقون به رباطاً، ولا ينطلقون منه في تضحية.......
هؤلاء هم اليهود بطبعهم وخلقهم، وهم شاهدون على أنفسهم في الماضي والحاضر، ولا يقال هذا تجنياً، ولا تزيداً ولا ادعاءً، ولا استعداءً، فلقد آذوا موسى عليه السلام من قبل، ورموا مريم البتول عليها السلام بالإفك والبهتان، وقتلوا الأنبياء، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وحاولوا قتل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتآمروا عليه، وما انفكوا طوال تاريخهم يكيدون للشعوب، فقد أحلوا الربا، وروجوا الفسوق، وأكلوا أموال الناس بالباطل، واسمعوا إلى كتاب ربكم وهو يحدثكم عنهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[النساء:155-157] إلى قوله سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[النساء:160-161].
ومن جانب آخر فإن الإنصاف يقتضي القول الجازم العاقل أنه لا يمكن أن يكون القتل العشوائي طريقاً للسلام، ولا يكون الاعتداء على غير الغاصبين المحتلين طريقاً للسلام، لكن لابد أن يعلم أن الكبت لابد أن يولد انفجاراً، وأن طمس الحقائق لابد أن يولد عنفاً .. يجب أن يعي كل عاقل أن هناك حدوداً للقهر والظلم فلا يضيعوا فرص السلام الحقيقي العادل .. وإن الأمة لتغار على دينها، وتثأر لكرامتها، ولا يمكن أن تكون القضية نهباً لعمليات الطرح والقسمة على موائد الطامعين واللئام!
إنها ليست ورقة باهتة يلقى بها على موائد المفاوضات، إنها قضية كبرى تتمرد على الوقت الذي تحصره كتابة سياسية أو تحليل آلي، إنها بقعة مباركة من أرض الله وديار المسلمين تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء، وتتصل بجذورها وضمائر أجيالها .. إنْ قصَّر مسئول أو تقاعس جيل فإن القضية أكبر من ذلك وأكبر، إنه نداء متصل من أجل إنصاف القضية وإقرار العدل على الأرض والشعب والقضية .. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران:138-141].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إن ربي قريب مجيب.
أما بعــد:
فيا أيها الإخوة! رغم مظاهر القساوة والعتاوة التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم، والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدُّس معالم الفشل في كثيرٍ من الأنحاء، وفي ظل الانحراف الفكري المنهزم .. رغم كل هذا فإن المسلم المتعلق بربه، المؤمن بوعيده ووعده، والمتبصر بالسنن ونواميس الكون، يرى من وراء ذلك كله فتحاً قريباً، وليس هذا تحدثاً من سياسة قاصرة، ولا من منطق وهمٍ زائل، ولا هو من معطيات واقع مرير، ولكنها روح الأمل الدافع، والفأل الدافق الذي تغرسه في أهل الإسلام حقائق الوحي، وهداية النبوة المحمدية الخاتمة، وشواهد التاريخ .. فلن تضيع بإذن الله قدسنا ، ولا فلسطيننا ، ولن تضيع قضايانا، ولن تضيع قضايا وراءها مسلمون مؤمنون.
إن القرآن الكريم والسنة المطهرة والتاريخ المحفوظ، يحدثوننا وينبئوننا أن أمة الإسلام أمةٌ متجددة وعودة، كالغيث لا يدرى الخير في أولِّه أو في آخره، إنها أمة غير منقطعة بل متصلة مستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى } فلا تضعف في جانب إلا وتقوى في جانب، ولا تنهزم في ناحية إلا وتنتصر في أخرى، واستقراء التاريخ يؤيد ذلك؛ من خلافة الراشدة، ثم دولة أموية وعباسية، وبعدها دول، من بعدها دول والهجوم على ديار الإسلام، ويقيض الله له من يرده على أعقابه من التتار والصليبيين، وظهر الغزنويون في الهند وأفغانستان ، واستعصت القسطنطينية على الأمويين، ولكنها فتحت للعثمانيين بعدما يزيد على سبعة قرون، فتحققت بشارة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحينما خرج المسلمون من الأندلس كان الإسلام قد توغل في أقطار أفريقيا ، وشرق أوروبا ، وفي جنوب شرق آسيا ، وفي جزر أندونيسيا .
عباد الله: هذا هو التاريخ، وهذه دروسه، وتلك هي سنن الله في الغابرين والحاضرين، فأبشروا وأملوا، وبدينكم فاستمسكوا، وربكم غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عزَّ قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً[الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين،
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الملة وجميع أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، يا قوي يا عزيز!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.......
أن قوات الاحتلال الاسرائيلي رفعت الحصار عن المسجد الاقصى وفتحت البوابات المؤدية الى الحرم الشريف.
وسبق رفع الحصار وقوع مواجهات بمنطقة رأس العامود في القدس المحتلة بين قوات الاحتلال وفلسطينيين يحتجون على الإجراءات الأمنية المشددة في المدينة المقدسة واستمرار حصار الأقصى.
وقد رشق الفلسطينيون جنود الاحتلال بالحجارة والزجاجات الحارقة، في حين استخدم الجيش والشرطة الإسرائيليان الرصاص المطاطي والقنابل الغازية والصوتية.
وتلبية لنداء نصرة الأقصى شارك آلاف الفلسطينيين في مسيرات منفصلة دعت إليها حركتا المقاومة الإسلامية (حماس) والتحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في قطاع غزة والضفة الغربية تنديدًا بالإجراءات الإسرائيلية في القدس ومحيط المسجد الأقصى، تخللتها انتقادات متبادلة.
المصدر:
الجزيرة + وكالات
آراء الدعاة والمفكرين عن رد الفعل الشعبي السلبي تجاه الأقصى
إيمان يس
على مدار أسبوع كامل تناقلت وسائل الإعلام أحداث تصعيد شهدها المسجد الأقصى ومدينة القدس وصلت إلى حد إغلاق المدينة واعتبارها منطقة عسكرية ، ووسط زخم الأحداث وتسارعها ... لجأ المئات من المسلمين في القدس ومن فلسطينيي الداخل إلى الاعتكاف داخل المسجد الأقصى ليدافعوا عنه بأجسادهم التي لا يملكون غيرها محتسبين أعمارهم وصحتهم وأسرهم عند الله سبحانه وتعالى فداءاً لأولى القبلتين وثاني الحرمين .... وفي المقابل وأمام تضحياتهم بما يستطيعون لم تجد هذه الأحداث في العالم الإسلامي رد فعل إيجابياً، أو حتى شيئاً من الشجب والإدانة الصوتية التي اعتدنا عليها ... بل إنها لم تجد أذنا صاغية .. ولا عينا واعية .. ولا قلبا ينبض بالحزن أو الدعاء .. ولا لساناً هاتفاً بكلمة واحدة فقط وهي .... "كفى" .
حول أسباب الظاهرة استطلعنا آراء أحد المعتكفين في المسجد وعدد من علماء الأمة ومثقفيها ...
الشيخ يوسف الباز إمام المسجد الكبير بمدينة اللد وأحد المعتكفين المرابطين داخل المسجد الأقصى المبارك ؛ عزا ضعف ردود الأفعال على المستوى الشعبي إلى قهر الشعوب العربية المغلوبة والمقموعة من قبل الحكومات العربية ، وشددّ على ضرورة أن يتصالح الحكام العرب مع شعوبهم ويرفعوا أيديهم عنهم لتتكاتف جميع الجهود وتتوحد كل القوى في العالم العربي من أجل إنقاذ الأقصى ، وأضاف : " ليس لدي أدنى شك أن الشعوب العربية لو أطلقت يديها لرأينا منهم العجب العجاب ".
ووجه الباز نداءه إلى الحكومات العربية قائلا : " من قلب الحصار ومن داخل الأرض المباركة التي نرابط فيها الآن أطالب الحكومات العربية برفع مستوى النضال من أجل تحرير المسجد الأقصى" ، وتساءل كيف يطيب لكم عيش وكيف يهنأ لكم نوم مادام الاحتلال الصهيوني جاثما على صدر المسجد الأقصى المبارك ؟؟.
ومن لندن اتفق معه الدكتور إبراهيم حمّامي الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني في أن للمنع الرسمي دوراً في ضعف ردود الأفعال، مشيراً إلى أن بعض الدول قامت باعتقال بعض الأشخاص ممن نظموا حملات تأييد للأقصى، وأكد أن هناك نوعاً من الضغط غير الطبيعي لمنع أي ردود فعل على الإطلاق ... فلا تظاهرات ... ولا وقفات احتجاجية ... ولا خطب في المساجد ... ولا حتى التعبير بشكل حر ، فبقي القدس وحيدا في مواجهة الهجمة الاستيطانية الجديدة ومحاولة انتزاع الأقصى من أصحابه الحقيقيين. ونبه إلى أهمية دور الإعلام في مثل هذه القضايا، مشيراً إلى أن الإعلام عندما يتبنى قضية ويركز عليها تأخذ مجراها ويتفاعل معها الجميع، وضرب المثال بما حدث مع تقرير جولدستون وأضاف بحسرة : "أن هذا يخضع لبعض الحسابات الخاصة بكل دولة للأسف الشديد".
وأشار حمّامي إلى سبب آخر لضعف ردود الأفعال الشعبية وهو أن الشعوب العربية عاطفية ، وعندما يتكرر الحدث المأساوي يصبح عادة ، ودلل على ذلك بالرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت في الدانمارك منذ عدة أعوام وأدت إلى ضجة كبيرة جدا ، ثم يتم نشر رسوم كثيرة بعدها ، وأسوأ منها وتصدر أفلام مسيئة ولا نجد ردود فعل شعبية، ويتكرر الأمر بالنسبة للعراق وفلسطين ، وأضاف قائلاً :"ربما هو الملل .. وربما هي العاطفة التي تحرك الناس ، فهم لا يتحركون إلا إذا جاءت مأساة أكبر من التي تعودوا عليها ".
وتابع حمّامي :"إن محاولة اقتحام المسجد الأقصى أصبحت عادة بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية ، والاشتباكات في القدس أصبحت عادة ، فما لم يكن هناك حدث أكبر من ذلك بكثير لن يتحرك الشارع العربي والإسلامي مرة أخرى.
ويرى حمّامي أن الأحداث التي سبقت أحداث المسجد الأقصى طغت على الاهتمام والتركيز بشكل كبير، إلا أنه عاد وأكد أن الأقصى سيظل دائماً في قلب الجميع وفي قلب القضية الفلسطينية بشكل كبير رغم ما حدث خلال الفترة الماضية .
ومن القاهرة يرى الداعية المصري الدكتور راغب السرجانى أن تضاؤل ردود أفعال الشارع العربي تجاه ما يحدث في القدس في الآونة الأخيرة يرجع إلى عدة أسباب أولها اعتبارات الحدث نفسه .... والتي وصفها بأنها حرب تصعيد نفسي وسياسة يتبعها الصهاينة في إدارة الحرب على القدس بالإضافة إلى إجهاد الناس وخمود طاقتهم وحميتهم واستنزافها في أحداث غزة الأخيرة من دعاء ومقاطعة وتبرعات وهدأ الناس بعدما هدأت الأمور.
وأكد أن السبب الأهم كان متمثلاً في إصابة العالم الإسلامي بداء "غياب الرؤية" فأصبح المسلمون لا يلتفتون إلا إلى الكوارث وسقوط الضحايا والشهداء بالآلاف ، وأدت إصابتهم بهذا الداء إلى عجزهم عن فهم المقاييس والمعايير الحقيقية للأحداث .
وأوضح السرجانى أن العلماء المسلمين انقسموا إلى ثلاثة فرق، الأول منهم يصرخ بصوت مرتفع في حجرة مغلقة ويتحدث بجهود بسيطة في قنوات ووسائل إعلام غير منتشرة بالشكل الذي يحقق الهدف المرجو ، والفريق الثاني يقصر فهم الدين على بعض الأمور العقائدية ويظن أن القضية الفلسطينية قضية سياسية بالرغم من أنها دينية في المقام الأول فغياب هذه الرؤية عنهم ضيّع القضية!
أما بالنسبة للفريق الثالث فيتمثل في علماء السلطة والذين تصل أصواتهم بشكل أوسع انتشاراً ولكن ليس بالصورة المطلوبة، واستنكر الدكتور السرجانى عدم التفاعل الكامل من جانب القنوات في تغطيتها الإخبارية لأحداث الأقصى مضيفاً أن القنوات المعنية بالقضية في المقام الأول لا يتابعها إلا عدد محدود من المشاهدين.
وأكد أن سبب تصعيد الأحداث على الأقصى بشكل متكرر في الأيام الماضية ما هو إلا تفسير للسياسة الصهيونية المسماة "سياسة التطعيم"، وتهديدها بضرب المسجد بشكل متكرر، وكأنها تطعم الجسم السليم ببكتريا ضعيفة وميكروب قليل ليتعود جسده على الأمراض حتى إذا جاء المسلم ليقاوم الضرب يقول لنفسه وما الجديد والضرب مستمر يومياً! وهكذا تمهيداً لهدم الأقصى.
وحذر الدكتور السرجانى من سقوط الأقصى مؤكدا أنه راية المسلمين الأولى التي إذا سقطت ستسقط معها معنويات المسلمين ، وهذه هي الغاية التي يسعى إليه العدو الصهيوني.
وأبدى أسفه من عدم وضوح القضية الفلسطينية في أذهان الناس بأبعادها الحقيقية ، موضحاً أن القضية تحمل بعدا عقائديا يحتم على المسلمين ضرورة تحرير الأراضي الإسلامية بشكل كامل ، وأضاف "هذا لا ينفى وجود أولويات ... فعلينا أن نبدأ بتحرير القدس وفلسطين بأكملها وسائر البلدان الإسلامية إلا أن هذا البعد العقائدي غائب عن الأذهان للأسف الشديد" .
وطالب السرجانى باستغلال الأحداث الحالية في نشر الوعي والفكر بين الناس وعدم الركون إلى التفاعلات الوقتية اللحظية التي تخمد وتثار بمجرد الحدث ، كما ناشد المسؤولين والعلماء أن يقوموا بتصحيح هذه الصورة المغلوطة في أذهان الكثيرين ؛ مؤكداً أن الدفاع عن الأراضي الفلسطينية فرض على كل مسلم مثل الصوم والصلاة وسائر التكليفات.
وأكد أنه بدون هذا الفهم الراقي والصحيح والمتكامل للقضية لن نسترد أراضينا ولا عزتنا الإسلامية.
ومن القاهرة أيضاً أتهم الدكتور جمال عبد الهادى- أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى سابقاً - ضعف الثقافة الإسلامية عند المسلمين بأنها هي المسئول الأول عما يحدث الآن ؛ واصفاً الأمة بأنها تعاني من جهل بالتاريخ وضعف بالعقيدة .
وشدد على ضرورة التأصيل الشرعي التاريخي للقضية وتوضيح أن نصرة فلسطين جزء من العقيدة الإسلامية فلا يجوز التفريط ولو في حبة رمل واحدة من هذه الأرض المقدسة، وأضاف قائلاً :"لقد قام أبونا آدم بوضع قواعدها كما قام بوضع قواعد البيت الحرام فهل نقبل بالتفريط في البيت الحرام "؟!!
وحول التأكيد على قدسية هذه الأرض قال عبد الهادي :" تنعمت هذه الأرض بحكم المسلمين ورعايتهم لها قرون طويلة كما أنها شهدت ميلاد العديد من الأنبياء والمرسلين مثل يوسف وسليمان ويحيى وزكريا ومريم عليهم السلام وكانوا جميعاً مسلمين وكانت لهم الإمامة في المسجد الأقصى "
ونادى بضرورة تربية النشء على هذه القضية ونصرة الأراضي الفلسطينية والإسلامية بالمال والنفس والسلاح استناداً إلى فتوى علماء المسلمين الصادرة في يناير 1956، جمادى 1275.
كما أكد أنه في حالة وعى الأمة بهذه القضية ومعرفتها حقيقة دورها فإنها لن تتأخر عن نصرتها حتى لو دفعت أرواح أبنائها ثمنا لذلك .
ولفت إلى ضرورة نصرة القضية كل حسب موضعه ، فلكل منّا له دوره الذي ينبغي عليه أن يفعله وعليه ألا يستهين بهذا الدور، مشيراً إلى أن الدعاء والمقاطعة والإنكار بالقلب والتبرع يُعدّوا من المقاومة عندما يتعذر السلاح؛ وتابع :" إن قادة العالم الإسلامي فقط هم من يملكون السلاح ولا يعذر من ذلك أحد ومن يتخاذل عن دوره فمسئوليته عظيمة بين يدي ربه" .
وواصل عبد الهادي تأكيده على ضرورة التأصيل الشرعي للقضية مستندا إلى ما قاله ابن كثير في تفسير إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنبياء ليلة الإسراء ؛ بأن هذا يعد دليلا على أنه الإمام الأعظم .
وعن استراتيجية تحرير القدس، يرى عبد الهادي أنها الاستراتيجية التي وضعها المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أرسل للرومان رسولا تلو الرسول حتى بلغ عدد من قتل من الرسل آنذاك 15 !! فلم يتراجع عن عزمه بل جمع المسلمين و"فتح باب الاكتتاب" وجهز جيش العسرة الذي تجلت فيه تضحيات الصحابة رضوان الله عليهم .
وأضاف :" فهم الصحابة هذه الاستراتيجية ما دفع أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى إنفاذ جيش أسامه الذي عقد لواءه المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقى ربه ؛ رغم ما كان يعانيه المسلمون آنذاك حتى أن عائشة رضي الله عنها وصفت حالهم قائلة : كالمعزة المطيّرة في الليلة الشاتية المظلمة والسباع من حولها ، وأجاب الصديق من دعوه إلى حل اللواء مراعاة لحال المسلمين قائلا : لا أحل راية عقدها رسول الله ولو جرت الكلاب في خلاخيل أمهات المسلمين ".
وأشار إلى أن قضية الأقصى تجددت عام 48 بصرف النظر عن الخيانة التي حدثت ؛وخرجت الجيوش العربية وقتها - رغم وقوعها تحت وطأة الاحتلال - في مظاهرات متكررة ، والتي أشار أنها وسيلة جيدة للتعبير والإدانة طالما تمت بانضباط ولم تندس إليها الأيدي المخربة.
وأكد عبد الهادي أن الأمن المصري يرتبط بصورة مباشرة بالقضية الفلسطينية واصفاً اتفاقيات أوسلو ومدريد واتفاقية غزة واريحا بأنها كانت حيادا عن النهج والاستراتيجية التي وضعها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم .
من جانبها أرجعت الدكتورة داليا الشيمى المدرس المنتدب للتدريس بكلية الآداب جامعة عين شمس؛ حالة اللامبالاة التي تعامل بها الشارع العربي مع أحداث الأقصى الحالية بلا مبالاة إلى شدة الوضع الكارثي الذي يعيشه المواطن بدءًا بارتفاع الأسعار الذي وصل إلى حد صعوبة توفير لقمة العيش وانتهاءً بالخوف من الأمراض الوبائية التي تهددهم وأولادهم ، فاعتلت هذه الهموم اليومية قمة سلم أولوياتهم وتراجعت لديهم قيمة الأقصى .
كما أعربت الشيمي عن استيائها من ردود الأفعال التي جاءت لتلومها على زيارتها لغزة في فترة الحرب كطبيبة نفسية ؛ مؤكدة أن هذا الرد ما جاء إلا نتيجة لغياب المفاهيم وانعدام الثقافات الصحيحة عند المسلمين الأمر الذي يحتاج إلى مشقة لتصبح القضية الفلسطينية هي القضية الرئيسية في حياة الشعوب الإسلامية والمجتمعات الإنسانية بأكملها.
وأوضحت الدكتورة داليا الشيمى أن الشعوب الآن أصبحت تتبع سياسة الإدارة بالأزمات ، وكأن الأزمات هي التي ترسم لنا طريقنا فلا نتحرك إلا بعد تفاقم الكارثة لدرجة يستحيل معها السيطرة عليها فالتحرك دائما يأتي متأخرا على جميع الأصعدة .
وأضافت أن أحداث غزة الأخيرة وصور المجزرة الوحشية أصابت الناس بالتبلد وحققت نتائج سلبية بحيث تعودت عين المشاهد على رؤيتها وأصبح الالتفات إليها لا يحرك لهم ساكناً.
أما الدكتور صفوت العالم الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة فقد أعتبر أن التغطية الإعلامية لأحداث الأقصى تعتبر تغطية محدودة وغير متناسبة مع مستوى الحدث من جميع الجوانب من حيث قرارات المسئولين والكتابات الصحفية والحملات الإعلامية بمحتواها الشامل من تغطية مستمرة للحدث وتحليلات المتخصصين والحوارات المباشرة مع قادة الرأي وأناشيد حماسية توقظ الرأي العام وتلهب مشاعره وتدفعه للتحرك ونبذ حالة السكون والصمت التي هو عليها الآن!
مفسراً هذا الدور السلبي للإعلام بأنه انعكاس لسياسات الأنظمة الحاكمة على الأقل فيما يخص الإعلام الرسمي للدول، خاصة مع انعدام ردود الأفعال الحقيقية والجهود الدبلوماسية في المحافل الدولية، بهدف وقف الاعتداءات الصهيونية على الأراضي المقدسة، الأمر الذي ترك له الحبل على غاربه في التفنن في ترويع الفلسطينيين، وانتهاك حرمة المقدسات، والعمل على إزالة الطابع الإسلامي من المسجد الأقصى، محذراً من تكرار محرقة غزة بفظائعها غير الإنسانية التي استطاعت تحريك الضمير الإنساني في كل مكان.
المصدر: المسلم
أبو عبد الرحمن
إنها فلسطين أرض القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا .
إنها فلسطين الأرض المباركة بنص كتاب الله، قال سبحانه: سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأقْصَى ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَنَجَّيْنَـٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلأرْضِ ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:71]. قال ابن كثير: "هي بلاد الشام"، وقال عز من قائل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـٰهِرَةً[سبأ:18]، قال ابن عباس: (القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس).
إنها فلسطين الأرض المقدسة بنص القرآن الكريم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، قال الزجاج: "المقدسة الطاهرة، سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين".
إنها فلسطين أرض الأنبياء والمرسلين، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وغيرهم الكثير ممن لم تذكر أسماؤهم من أنبياء بني إسرائيل.
إنها فلسطين التي تبسط عليها الملائكة أجنحتها، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام))، قالوا: يا رسول الله، وبم ذلك؟! قال: ((تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام)) صححه الألباني.
إنها فلسطين أرض المحشر والمنشر، فقد روى الإمام أحمد بسنده وابن ماجه عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر)).
إنها فلسطين موئل الطائفة المنصورة الثابتة على الحق، فعن أبي أمامة عن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه أحمد.
إنها فلسطين مصرع الدجال ومقتله، حيث يلقاه عيسى عليه السلام عند باب لُد، فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيضربه فيقتله. رواه مسلم.
إنها فلسطين موطن الكثير من صحابة رسول الله ، منهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأسامة بن زيد بن حارثة وواثِلة بن الأَسْقع وفيروز الدَّيلمي ودِحْية الكلبي وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري وأوس بن الصامت ومسعود بن أوس وزِنْباع بن روح الجُذامي، وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
إنها فلسطين موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها الذين أضاؤوا في سمائها بدورًا ولمعوا فيها نجومًا، ومن هؤلاء مالك بن دينار والأوزاعي ورَوح بن زِنْباع وسفيان الثوري وابن شهاب الزُّهري والشافعي وابن قدامة المقدسي.
نعم، هذه هي فلسطين بعبقها وتاريخها، بخيراتها وبركاتها وفضائلها، بشموخها وكبريائها، هذه هي فلسطين بجمالها الساحر وحسنها الفتان.
هذه فلسطين التي من أجلها نَهَد الأبطال وانطلق الرجال. من أجل فلسطين ـ أيها الإخوة ـ شد الأبطال عزائمهم وأسرجوا خيولهم وطاروا يسابقون الريح. من أجل فلسطين أراق الشهداء دماءهم وبذلوا أرواحهم رخيصة. من أجل فلسطين تتابعت التضحيات وعظم البذل.
وكم سجل التاريخ من مواقف عظيمة لأبطال عظماء هبوا دفاعًا عن فلسطين، وما بخلوا بغالٍ ولا نفيس.
لقد سار إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على بعير، يَعْتقب عليه هو وغلام له، حتى إذا اعترضته مخاضة نزل عن بعيره فنزع مُوقَيه وخاض في الماء، ثم لما وصل إلى بيت المقدس صلى في محراب داود عليه السلام، وترنم بسورة الإسراء.
من أجل فلسطين امتنع الملك البطل نور الدين زنكي عن التبسم، وقال: أستحي من الله أن أتبسم وبيت المقدس في الأسر. ومن أجلها وقف هذا الملك الفذّ على تل حارم، وسجد لله ومرّغ وجهه في التراب، ودعا ربه: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، ثم لقي الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس، لقيهم بثلاثين ألفًا وهم أزيد من مائة وخمسين ألفًا، فكسرهم وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عشرة آلاف أو أكثر.
ومن أجل فلسطين شمخ صلاح الدين برأسه، وشحذ سيفه، وأعدّ عدته، ليخرج الصليبيين من أرض الأقصى، كان في بيت المقدس نحو من ستين ألف مقاتل صليبي، كلّهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها. لقد جهز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة التي تجاوز عددها ثلاثة وستين ألف مقاتل، والتقى الفريقان على أرض حطين، وحاصر المسلمون الصليبيين، وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح، ثم أمر صلاح الدين بالحملة الصادقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ثلاثين ألفًا، وبيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلم أسيرًا صليبيًا بنعلين، فقيل له: ما أردت بذلك؟! قال: أردت أن يكتب التاريخ هوانهم، وأن أحدهم بيع بنعلين.
ومن أجل فلسطين جرد العملاق مظفر قطز سلاحه، ووقف على عين جالوت، ليصد عن فلسطين ومصر طوفان التتار الهادر، لقد بعث له هولاكو وهو في الأشهر الأولى من مُلكه رسالة يقول له فيها: اتَّعظوا بغيركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا، أيّ أرض تؤويكم؟! وأي طريق تنجيكم؟! وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا من خلاص ومن مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، قرأ قطز هذه الرسالة العاصفة، ثم ألقى ببصره ناحية القدس، وكأني به ناجاها فقال لها:
ومن أجل فلسطين ضحى عبد الحميد بعرشه ومُلكه، وصكّ سمع هرتزل بكلماته المدويّة: لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من فلسطين؛ لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم وسوف نغطّيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها. لقد حاربت كتيبتنا في سوريا وفي فلسطين، وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر؛ لأن أحدًا منهم لم يرض بالتسليم، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنها لن تقسم إلا على جثثنا، لماذا نترك القدس؟! إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان، لا بد أن تظل القدس لنا.
ومن أجل فلسطين وقف الشيخ يوسف الجرار شيخ الجبل رحمه الله أمام حملات الفرنسيين، وتمكن وحده مع جنده القلة من تدويخ نابليون القائد الشهير الأسطوري الذي دوّخ العالم، واستطاع هذا الشيخ بمن معه أن يصدّ جيوشه عن عكا، ومن ثم عن فلسطين، وأن يبخِّر أحلامه بتأسيس إمبراطورية تمتد من مصر والشارم وصحارى الجزيرة إلى العراق وإيران والهند، وقد بلغ الغيظ بنابليون من هزيمته أمام الشيخ الجرار أن وقف بجوار سور عكّا، وقذف بخوذته إلى الأعلى، وقال: إن لم أدخل أنا فلتدخل خوذتي، وأخذ يقول لأحد ضباطه متأوِّهًا: لو فتحت عكّا لبدّلت وجه العالم، ثم أمر بقذف عكا بجميع ما يملك من مدافع مدى أربعة أيام، وقطع الماء عنها ودمر الكثير من عمارتها.
ومن أجل فلسطين قام الشيخ المجاهد عز الدين القسام ليكون شوكة في حلوق أبناء القردة والخنازير، قام بإمكاناته المتواضعة وعدده اليسيرة، ليجابه مدافع اليهود ورشاشاتهم وقنابلهم، لقد باع بيته الوحيد في حيفا، وباع أصحابه حُليّ زوجاتهم وبعض أثاث بيوتهم، ليوفروا الرصاص والبنادق، وتمكن القسام من أن يقض مضاجع اليهود سبع سنوات كاملات، إلى أن بذل روحه رضية في أحراش قرية "يعبد" بعد معركة استمرت أربع ساعات ونصف.
نعم يا فلسطين، من أجلك نهض هؤلاء.
يا جيل المصاحف، يا خمير الأرض، يا طلق الولادة.
ها أنت كالينبوع تدفق في صحارينا، وتمنحنا الوثيقة والشهادة.
أنت الذي سيبدّل الأوزان والأحزان.
يزرع في العيون نخيلَها.
فلكم تباطأ في الرحيل عن القرى عام الرَّمادَة.
أنت الذي يقتات جمر المرحلَة.
ها إن أحبار اليهود تجمعوا، ها إنهم حشدوا لنا.
فاقرأ على تلك الرؤوس الزلزلة.
اقرأ علينا ما تيسر باسم ربك يا بلال.
اقرأ علينا (المؤمنون) وشدّ قوسك، إنّ قوسك لا تطيش بها النبال.
كم ذا سألت فلم يجيبوا، كم ذا سألت فلم يجيبوا.
أنت وحدك من يجيب عن السؤال.
ومن أجل فلسطين لا بد أن نعمل نحن كذلك شيئًا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نفعل شيئًا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقدم لفلسطين شيئا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نحدّث أنفسنا بالجهاد ونسأل الشهادة ونعد العدة، ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه النسائي وابن ماجه وأبو داود، ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق)) رواه مسلم.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن ندعو، أن نستخدم هذا السلاح الهائل الذي طالما قلب الموازين وغير مجرى التاريخ، ((هل تنصرون إلا بضعفائكم))، بدعوتهم وإخلاصهم.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نحمل هم القضية، أن نتحدث بها في كل مجلس وبكل لسان، أن نجعلها شغلنا الشاغل في صباحنا ومسائنا، أن نعيش في كل خطوة من خطواتنا، أن نُعرِّف بها لنجلو الغشاوة ونحرك القلوب وندفع للعمل.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقاطع بضاعة اليهود وأعوان اليهود، نستطيع أن نترفع عن بعض شهواتنا ورغباتنا لئلا تتحول أموالنا إلى رصاصات في صدور إخواننا، نستطيع أن ندوس بأقدامنا على بعض ما نحب ونألف لئلا نخذل المجاهدين على أرض الرباط، نستطيع أن نحرم أنفسنا رغباتها، فنهز بذلك اقتصاد أولئك الذين بأموالهم وأسلحتهم يُقتل إخواننا، نستطيع أن نكون سببًا في إغلاق محلات واضطراب أخرى، وكم رأينا وسمعنا.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقتطع من أموالنا وقوتنا للتبرع لإخواننا. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نربي جيلاً جديدًا على الإيمان واليقين والجهاد وبغض القتلة المارقين، ليكون هذا الجيل بإذن الله طلائع جيل النصر المنشود، وتعقد على يديه ألوية الظفر لأمة الإسلام. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نفعل الكثير من أجل فلسطين.
المهم أيها الأخ الكريم، أن لا تنطوي صفحة هذه الأحداث وقد عشتها واصطليت بلهبها دون أن يكون لك فيها أثر، المهم أن لا يقضى الأمر وينفض السامر ولم يكتب في كتابك أنك عملت لفلسطين شيئًا، المهم أن لا تكون عالة على أمتك، المهم أن لا تخذل إخوانك هناك، أن لا تنسى النصوص القرآنية الصريحة: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
تعديل التعليق