حسن الظن بالله
صالح العوفي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها المسلمون:
وإنّ مِن أعظمِ مقاماتِ الإيمانِ، وأرقى درجاتِ الإحسانِ، أن يُحسنَ الظنَّ بربه، ويملأَ قلبَه بحمدِه وتعظيمِه ومحبّتِه، وخشيةِ عقابِه والطَّمَعِ في فضلِه، فحُسنُ الظنِّ باللهِ شأنُ المؤمنينَ العارفين، وسوءُ الظنِّ بالله حالُ الكافرينَ المنافقين، كما قال -تعالى-: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
ومَن أحسَنَ ظنَّه باللهِ -تعالى- كانَ اللهُ له كما ظنّ، والعكسُ بالعكس؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -تعالى-: “أنا عِندَ ظنِّ عَبدِي بِـي”.
فمَن ظنَّ باللهِ -تعالى- خيراً وجد خيرا، ومن ظن بالله سوءاً وجد خذلانا، جزاءاً وفتقا، ومَن ظنّ باللهِ أنّه يَشكرُ لهُ عملَه إذا أحسنَ عبادتَه، شَكَرَ اللهُ لهُ عملَه الحسَن ولا بُدّ.
وَإِنِّي لَأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّنِي *** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
واعبد ربك وظن قبولا، وتب وظن خيرا
ولذلك فإنّ حُسنَ الظنِّ باللهِ -تعالى- بابٌ للخيرِ العظيمِ، والفضلِ الجزيلِ، وبِقَدْرِ ما يُعطَى العبدُ مِن حُسنِ الظنِّ باللهِ، يُعطَى مِن رحمةِ اللهِ وإحسانِه، يقول عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-: “وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنَّهُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ”.
ولذلك كان حُسنُ الظنِّ باللهِ مِن خيرِ ما يُختَمُ به للعبدِ قَبلَ أنْ يصيرَ إلى ربِّه، كما روى مسلمٌ عن جابرٍ -رضي الله عنه-، قال: سمعت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبلَ وفاتِه بثلاثٍ يقول: “لا يَـمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ باللهِ الظنّ”.
وأعظمُ الخلقِ عبوديةً لله وحسنَ ظنٍّ به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- آذاه قومُه فبقي واثقًا بوعد الله ونصره لدينه، قال له ملك الجبال: "إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (متفق عليه). وفي أشد الضيق وأحلكه لا يفارق نبينا -صلى الله عليه وسلم- حسن الظن بربه، أخرج من مكة وفي الطريق أوى إلى غار، فلحقه الكفار وإذا بهم حوله فيقول لصاحبه مثبتا إياه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التَّوْبَةِ: 40]، قال أبو بكر: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (متفق عليه).
إخوةَ الإسلام: إنّ حُسنَ الظنِّ باللهِ مَبنيٌّ على أمرين: صحّةِ الاعتقادِ في الله، وإحسانِ العملِ في طاعتِه.
فأما صحّةُ الاعتقادِ، فإنّ مَن عَرَفَ اللهَ بأسمائِه وصفاتِه، وفضلِه وإنعامِه، ومُلكِه وتدبيرِه، وعبده حق عبادته، حَسُنَ ظنُّه بِالله -تعالى-.
واسمَعْ ما روى الترمذيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تبارك وتعالى: “يا ابنَ آدمَ! إنّك ما دعوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كان فِيكَ ولا أُبَالِـي، يا ابنَ آدم! لو بَلَغَت ذنوبُكَ عَنَانَ السماءِ ثمّ استغفرتَني غفرتُ لك، ولا أُبَالِـي، يا ابنَ آدمَ! إنّك لو أتيتَني بِقُرَابِ الأرضِ خطايا ثمّ لقيتَني لا تُشرِكْ بي شيئًا لأتيتُك بِقُرَابِـهَا مغفرة”.
وأمّا إحسانُ العملِ في الطاعةِ، فإنّ مَن عرَف اللهَ حق المعرفةَ أقبلَتْ نفسُه على الطّاعةِ، واجتهدَتْ في العبادةِ، طمَعًا في فضلِ اللهِ العظيمِ، وهربًا مِن عقابِه الأليم، كما قال الحسَنُ الـبَصري رحمه الله: “إنَّ المؤمنَ أحسَنَ الظنَّ باللهِ فأحسَنَ العَمَل، وإنَّ الفاجرَ أساءَ الظنَّ باللهِ فأساءَ العَمَل”.
فليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه مَن عانَدَه في حُكمِه، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من عَصَاهُ في أمرِه، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من أعرضَ عن أسبابِ رحمتِه، بل هو مُغترٌّ بالأماني الكاذبةِ، والأوهامِ الخادعةِ، عافاني اللهُ وإيّاكم.
وتنبيه لك أخي الإسلام لا تكن ممن يتوقع السوء دائما كحال القانطين، بل كن دائما حسن الظن بربك وردد ما رأينا من الله إلا كل خير .
ومن شريف حُسْن الظن به -سبحانه-: أن يظنَّ العبدُ بربِّه أنه ما أذاقَه مرارةَ الكسر، إلا ليذيقَه حلاوةَ الجَبْر، فما كَسَرَ عبدَه المؤمنَ إلا ليجبره، وما منَعَه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماتَه إلا لِيُحيِيَه، ولا نغَّص عليه الدنيا إلا ليُرَغِّبه في الآخرة، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليَرُدَّه إليه، ويستخلِصَه لنفسه، ويصطفيه لأُنْسِه.
وحقيقة حسن الظن بالله ومعناه: أن يتوقع العبد كل أمر حسن من الله -تعالى-؛ و روى الإمام أحمد -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ العِبَادَةِ".
قلته، فاستغفروه. فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، وبعد:
عباد الله: إنّ الشيطانَ حريصٌ وجاهدٌ على أن يُسِيءَ العبدُ ظنَّه بالله، ويمتلئ قلبُه بالشكِّ في قدرةِ اللهِ أو في رحمتِه أو في حكمتِه، على صُوَرٍ شَتّى.
فمِن سوءِ الظنّ باللهِ أن يعتقدَ العبدُ أنّه لا يَصِلُ إلى اللهِ إلا عن طريقِ مَلَكٍ أو نبيٍّ أو وليٍّ صالحٍ يَشفَعُ له عندَ الله، فيجعلَ بينه وبين اللهَ وسائطَ وشُفَعَاءَ، عبد الله لا أحد يحول بينك وبين الله.
ومِن سُوءِ الظنِّ باللهِ نِسبةُ الولدِ إليه، وهُو خالقُ كلِّ شيءٍ، ولم يتّخِذْ صَاحِبةً ولا ولدًا.
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، القَدحُ في شَرعِه وحًكمِه، والظنُّ بأنّ شريعتَه تَصلُحُ لزمانٍ دونَ زمان، و هذا كفر بالرحمن فالشريعة صالحُة لكل زمانٍ ومكان.
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، الشكُّ في حِكمتِه وإنفاذِ وعدِه، والظنُّ بأنّه لا يَنصُرُ عبادَه المؤمنين، وأنّ الكافرينَ يُعجِزُونَه بِدُوَلِـهم ومُقَدّراتِـهم وطاقاتِـهم، فهذا ظنٌّ باطل، وحُسبانٌ فاسد: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)، (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
والله ناصر دينه، ومتم أمره ، ولو كره الكافرون .
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ -تعالى- الظنُّ بأنّه -سبحانه- يومَ القيامةِ قد يُسَوِّي الكافرَ بالمؤمن، فيجعلُ المسلمَ مع النصرانيِّ واليهوديِّ والمشركِ في مَصِيرٍ واحدٍ، وهو القائل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). فأحسنُوا الظنَّ باللهِ ربِّكم مع إحسانِ العمل، واحذروا سُوءَ الظنِّ باللهِ العزيزِ الرّحيم.
ثم صلُّوا وسلِّموا على السراج المنير، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما عَلِمنَا منه وما لم نَعلَم، ونعوذ بك من الشرِّ كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمنَا منه وما لم نَعلَم، ونسألك الجنةَ وما يقرّبُنا إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النارِ وما يقرّبُنا إليها من قولٍ وعمل. اللهم وفّق وليَّ أمرِنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.