حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى

حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، اصطفَى مِن عبادِهِ الموَحِّدِينَ ، وَوَعَدَهُمْ بالنَّصرِ والعِزَّةِ والتَّمْكِينِ ، فأحسنُوا به الظنَّ ، وأخلصُوا له الدِّين ، وَأشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ تَوحِيدٍ وَإخْلاصٍ وَيَقِيْنٍ ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ أفضل الأنبياء والمرسلين ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :-

فاتقوا الله عباد الله حقّ التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى .

عباد الله : إنّ مِن أعظمِ مقاماتِ الإيمانِ ، وأرقى درجاتِ الإحسانِ ، أنْ يعتقدَ العبدُ في ربِّه ما يليقُ به سبحانه مِن الكمالِ ، فيُحسنَ الظنَّ به ، فحُسنُ الظنِّ باللهِ شأنُ المؤمنينَ العارفين ، وسوءُ الظنِّ بالله قدحٌ في التوحيد ، وخلل في المعتقد ، وشعار أهل الكفر والنفاق ، كما قال تعالى : ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ . وقال تعالى : ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154] ، فأهل النفاق في غزوة أحد " أساؤوا الظن بربهم وبدينه ونبيه ، وظنوا أن الله لا يُتمُّ أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله " [تفسير السعدي] ، فجعل الله أهل النفاق وأهل الكفر في كفة واحدة ، يجمعهم سوء ظنهم بالله . فَمَن ظنَّ باللهِ أنّه سبحانه يَخذُلُ مَن توكّلَ عليه ، أو لا يَقبَلُ مَن تابَ إليه ، أو لا يَتَقَبَّلُ عَمَلَ مَن أحسَنَ عبادتَه ، فقد أساءَ الظنَّ بالله ، وكانت عاقبتُه حينئذٍ أنْ يُوقِعَ اللهُ عليهِ ما ظنَّه به جزاءً وِفَاقًا . ومَن أحسَنَ ظنَّه باللهِ تعالى كانَ اللهُ له كما ظنّ ، وإن الدعاء وحسن الظن بالله قرينان يرفع أحدهما الآخر ؛ فيستقيم السير إلى الله ، وينال العبد ما ظن بربه ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَقُولُ اللَّهُ تعالى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ". قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : " قيل : معناه بالغفران له إذا استغفرني ، والقبول إذا أناب إليَّ ، والإجابة إذا دعاني ، والكفاية إذا استكفاني ؛ لأن هذه الصفات لا تظهر من العبد إلا إذا أحسن ظنه بالله وقوي يقينه " ، والعكس بالعكس . فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ؛ إنْ ظَنَّ بي خيرًا فله ، وإن ظَنَّ شرًّا فله ) ، أخرجه ابن حبان وصححه الألباني . والمعنى : أعامله على حسب ظنه بي ، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر . حُسنُ الظنّ بالله تعالى : هو يقينُ المؤمنِ أنّ اللهَ تعالى يقبلُ توبتهُ إذا تاب ، ويغفرُ جميعَ ذنوبهِ إذا استغفر ، ويستجيبُ دعائهُ إذا دعا ، ويُثِيبهُ إذا عملَ صالحاً . فحُسنُ الظنِّ بالله : هو قوةُ اليقينِ بما وَعَدَ اللهُ تعالى عبادَهُ من سِعَةِ كرمِهِ ورحمتِهِ . حسن الظن : هو ترجيح جانب الخير على جانب الشَّر .  حُسنُ الظنّ بالله : هو أن تتوقعَ من الله تعالى كُلُّ جميل . يقول الله تعالى : ﴿ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾ . حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى : عقيدةٌ بين العبد وربه ، بل هو لازمٌ من لوازم التوحيد ، وواجبٌ من أهم واجبات الدين ، ويتأكد حسن الظن بالله عند نزول الموت تأكداً شديداً وعظيماً ، وهو مِن خيرِ ما يُختَمُ به للعبدِ قَبلَ أنْ يصيرَ إلى ربِّه ، كما روى مسلمٌ عن جابرٍ رضي الله عنه ، قال : سمعت النبيَّ ﷺ قبلَ وفاتِه بثلاثٍ يقول : « لا يَـمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ باللهِ الظنّ » . يحسن الظن بالله كما فعل الشاب الذي نزل به ما نزل ، فدخل عليه ﷺ ، وسأله عن حاله : « كيف تجدك » قال : والله يا رسول الله ، إني أرجو الله وأخاف ذنوبي - خوف ورجاء - ، فأخبر ﷺ « أنهما لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف » رواه الترمذي . قال النووي رحمه الله تعالى : " ومعنى ( يحسن الظن بالله تعالى ) : أن يظن أن الله تعالى يرحمه ، ويرجو ذلك ، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى ، وعفوه ورحمته وما وعد به أهل التوحيد وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة " .

عباد الله : إنَّ حُسنَ الظنِّ باللهِ تعالى بابٌ للخيرِ العظيمِ ، والفضلِ الجزيلِ ، وبِقَدْرِ ما يُعطَى العبدُ مِن حُسنِ الظنِّ باللهِ ، يُعطَى مِن رحمةِ اللهِ وإحسانِه ، يقول عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه : « وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنَّهُ ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ » . ولحسن الظن بالله أثر إيجابي في نفس المؤمن في حياته ، وبعد مماته ، فإذا أحسن العبد الظن بالله ، وتوكل عليه ، جعل الله له التيسير في كل أموره ، فيطمئن قلبه ، وتنشرح نفسه ، ويرضى بقضاء الله وقدره ، اللَّهُمَّ أَعنَّا عَلَى طَاعَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ ، وَوَفِّقْنَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَا رَبَّ العَالَمِينَ . قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ . وَأَسْتِغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المسلمينَ ، فَاستَغْفِرُوهُ وَتُوْبُوا إليهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ .

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمَّا بعد:-

إنّ حُسنَ الظنِّ باللهِ مَبنيٌّ على أمرين : صحّةِ الاعتقادِ في الله ، وإحسانِ العملِ في طاعتِه . فأما صحّةُ الاعتقادِ ، فإنّ مَن عَرَفَ اللهَ بأسمائِه وصفاتِه ، وفضلِه وإنعامِه ، حَسُنَ ظنُّه بِالله تعالى . ومَن اعتَقَدَ أنّ اللهَ لا يتعاظمُه شيءٌ أعطاه ، بل هو الكريمُ الجوادُ ، يَدُه مَلأَى لا يَغيضُها نفقة ، سحّاءُ اللَّيلَ والنّهار ،  حَسُنَ ظنُّه بِالله .

وأمّا إحسانُ العملِ في الطاعةِ ، فإنّ مَن عرَف اللهَ تلكَ المعرفةَ أقبلَتْ نفسُه على الطّاعةِ ، واجتهدَتْ في العبادةِ ، طمَعًا في فضلِ اللهِ العظيمِ ، وهربًا مِن عقابِه الأليم . فالمسلم لا يحسن الظن بالرب ويقيم على المعاصي ، بل يحسن ظنه بربه مع العمل الصالح ، مع التوبة ، مع الجد في الخير ، أما إحسان الظن بالله مع الإقدام على المعاصي ، والإصرار عليها ؛ فهذا غرور ،  كما قال الحسَنُ الـبَصري رحمه الله : « إنَّ المؤمنَ أحسَنَ الظنَّ باللهِ فأحسَنَ العَمَل ، وإنَّ الفاجرَ أساءَ الظنَّ باللهِ فأساءَ العَمَل » . فليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه مَن عانَدَه في حُكمِه ، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من عَصَاهُ في أمرِه ، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من أعرضَ عن أسبابِ رحمتِه ، بل هو مُغترٌّ بالأماني الكاذبةِ ، والأوهامِ الخادعةِ . كيف يكون المُضَيِّع المفرِّط محسنًا الظن بربه ، وهو عن ربه ومولاه شارد ، وعن طاعته مبتعد ، وعن أبواب رحمته ومغفرته معرض . فلا يكون حُسن الظن بالله إلا مع حسن الإقبال على الله جل وعلا .   

عبادَ اللهِ : إنّ إحسانَ الظنِّ بالله : ينفعُ صاحبَهُ متى اقترنَ بِحُسْنِ العملِ والخوف من اللهِ عزّ وجلَّ الباعثِ على تركِ المنكرِ ، وهذا هو الرجاءُ المحمودُ . وأمّا مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ ، وهو مقيمٌ على المنكراتِ ، ومُفَرِّطٌ في الواجباتِ ، فهذا قدْ أَمِنَ مَكْرَ اللهِ : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99] . قالَ الحسنُ البصريُّ : ( إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ ، وَقَالُوا : نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ ، وَكَذَبُوا ، لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ ) .

عباد الله : إنّ الشيطانَ حريصٌ على أن يُسِيءَ العبدُ ظنَّه بالله ، ويمتلئ قلبُه بالشكِّ في قدرةِ اللهِ أو في رحمتِه أو في حكمتِه . فمِن سوءِ الظنّ باللهِ ، أن يعتقدَ العبدُ أنّه لا يَصِلُ إلى اللهِ إلا عن طريقِ مَلَكٍ أو نبيٍّ أو وليٍّ صالحٍ يَشفَعُ له عندَ الله ، فأينَ سَعَةُ علمِ الله ؟ وأين كمالُ مِلكِه وسلطانِه ؟ وأين كمالُ رحمتِه وإحسانِه ؟ وأين قُربُه سبحانهُ وإجابتُه لدُعاءِ عِبادِه ؟ . فأحسنُوا الظنَّ باللهِ ربِّكم مع إحسانِ العمل ، واحذروا سُوءَ الظنِّ باللهِ العزيزِ الرّحيم . أسأل الله أن يرزقَنا حُسْنَ الإيمانِ بِهِ ، وصِدْقَ التَوَكُّلِ عليهِ ، وأن يُوَفِّقَنَا لحُسْنِ الظَّنِّ ، وحُسْنِ العمل . وصلُّوا وسلِّموا على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه ، فقال : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا " . اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين . اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ، { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ، عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم : ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .

 

( خطبة الجمعة 13/10/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

 

المرفقات

1744192239_حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى.docx

المشاهدات 585 | التعليقات 0