حُسن اظننا بربنا

راشد بن عبد الرحمن البداح
1446/03/02 - 2024/09/05 08:56AM

الحمدُ للهِ الذي أعطانا الإسلامَ بفضلهِ ونحنُ ما سألْناهُ، وسيُدخِلُنا الجنةَ برحمتهِ وقدْ سألناهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هوَ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمينَ، صلى اللهُ وسلمَ عليه تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فتأملْ هذا الموقفَ المؤثرَ: جِيْءَ إلى النبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بسبْيٍ من هوازنَ، وإذا مِنْ بَينهِ امرأةٌ تسعَى، وقد زاغَ بصرُها، وتحلَّبَثدياها، تبتغِي رضيعَها الذي فقدَتْهُ في السَّبْيِ، وكان منظرُ لَهْفَتِها لافِتًا للنبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابةِ. فبينا هيَ كذلك إذْ وَجَدَتْ صَبِيَّها، فأَخَذَتْهُ بحنانِها، وأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ من لبَنِها، بعد أن ذهبتْ بها ظنونُ هَلَكتِهِ كلَّ مَذهبٍ.

وإذا برسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجذِبُ أبصارَ أصحابهِ إلى هذا المشهدِ المؤثرِ قائلاً: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ لقد كادتْ أن تَفْقِدَ عقلَها لما فَقَدَتْ رضيعَها، فكيفَ تُلقِيْهِ في النارِ؟!ولذا قالَ الصحابةُ: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. عندَها سَكَبَ النبيُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المعنَى العظيمَ بعد هذهِ الاستثارةِ الذهنيةِ قائلاً: لَلَّهُ ‌أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا().

إنها رحمةُ أرحمِ الراحمينَ الواسعةَ، وإنه حُسْنُ الظنِ باللهِ مع حُسنِالعملِ.

يَقُولُ اللَّهُ –تَعَالَى- في الحديثِ القدسيِ: أَنَا ‌عِنْدَ ‌ظَنِّ عَبْدِي بِي()فَلْيَظُنَّ ‌عَبْدِي مَا شَاءَ().

وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ ‌مَا ‌قَنَطَ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدٌ().

فَأَمَّا ظَنُّ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ().

فإيانا أن نُحجِّرَ من رحمةِ اللهِ واسِعاً، فلا نَقْنَطَ أو نُقنِّطَ الناسَ من رحمةِ ربِنا.

وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي        أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ()

مَرَّ ابنُ مَسْعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى قَاصٍّ يَذْكُرُ النَّارَ فَقَالَ: يَا مُذَّكِرُ، لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ؟ لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً لَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ، ثُمَّ قَرَأَ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}[الزمر53]().

فإن قلتَ إني كثيرُ الذنوبِ، فيُقالُ لكَ ما قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ربِّهِ -تباركَ وتعالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ ‌عَنَانَ ‌السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي().

وكان السلفُ عندهم من حُسنِ الظنِ باللهِ ما يَفتحُ للأملِ أبواباً، ويَجعلُ للعبادةِ انشراحاً.

كَانَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِذَا تَلَا: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}[النحل38] قَالَ: وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِنَا لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ. أَتُرَاكَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ؟ وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا وقال: اللَّهُمَّ ارْحَمْ قَوْمًا لَمْ يَزَالُوا مُذْ خَلَقْتَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ السَّحَرَةُ يَوْمَ رَحِمْتَهُمْ().

وقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَا أُحِبُّ أَنَّ حِسَابِيَ جُعِلَ إِلَى وَالِدَيَّ؛ رَبِّي خَيْرٌ لِي مِنْ وَالِدَيَّ().

وتَلا عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران103] فقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا يُعِيدَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَكُمْ مِنْهَا().

ومَرِضَ أَعْرَابِيٌّ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَذْهَبُ؟ قَالُوا: إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: فَمَا كَرَاهَتِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى مَنْ لَا أَرَى الْخَيْرَ إِلَّا مِنْهُ().

الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المصطفَى، أما بعدُ:

فمِن جميلِ المواقفِ للسلفِ في إحسانِ الظنِ باللهِ، وقِصَصِهم في تبشيرِ النفسِ والناسِ للإقبالِ على التوبةِ، أنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ لقيَ رجلاًحصلَ منه ضعفٌ في العبادةِ والاستقامةِ فقَالَ لهُ: أَبْشِرْ؛ فَإِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، أتَدْرِي مَنْ دَعَا لَكَ؟ قَالَ: وَمَنْ دَعَا لِي؟ قَالَ: دَعَا لَكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَدَعَا لَكَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٌ، وَدَعَا لَكَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. قَالَالرجلُ: دَعَا لِي هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَدَعَا لَكَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَأَيْنَ دَعَا لِي هَؤُلَاءِ؟! قال: فِي كِتَابٍ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}[غافر7] قَالَ: فَأَيْنَ دَعَا لِي نُوحٌ؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[نوح28] قَالَ: فَأَيْنَ دَعَا لِي إِبْرَاهِيمُ؟! قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم41] قَالَ الرجلُ: فَأَيْنَ دَعَا لِي مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقَالَ سُفْيانُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد19] فَكانَالنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَرَّ بِأُمَّتِهِ مِنْ أَنْ يَأْمُرَهُ اللهُ بِشَيءٍ فَلَا يَفْعَلُهُ().

• فاللهم بفضلِك أعطيتَنا الإسلامَ ونحنُ ما سألْناكَ، فأدخِلْنا الجنةَ برحمتِكَ ونحنُ نسألكَ.
• اللَّهُمَّ أَمَرْتَنَا فَتَرَكْنَا، وَنَهَيْتَنَا فَرَكِبْنَا، وَلاَ يَسَعُنَا إِلاَّ مَغْفِرَتُكَ. اللَّهُمَّ تَوْبًا تَوْبًا، لِرَبِّنَا أَوْبًا، لاَ يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْبًا.
• اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
• اللهم واحفظْ علينا دينَنا وأمنَنا وحدودَنا وجنودَنا. واحفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا، واقتصادَنا وعتادَنا.
• اللهم وفقْ وسدِّدْ خادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَ عهدِه لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ.
• اللهم صلِ وسلمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.

المشاهدات 889 | التعليقات 0