حَرُ الصَيْفِ نَفَسُ جَهَنَّم 1443/12/23هـ
عبد الله بن علي الطريف
حَرُ الصَيْفِ نَفَسُ جَهَنَّم 1443/12/23هـ
أمّا بعد: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا....
أيّها الإخوة: في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمانِ مُدَّكر، في تلوُّن الزمانِ مِنْ شتاءٍ وصَيفٍ، وتقلُّبِه مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ، وتحوُّلِهِ مِن حال إلى حالٍ ما يُبهرُ المتعقّلين ويُنبِّهُ المتذكّرين ويُرشِدُ أفئدةَ الصّادقين إلى الدّلالات الواضِحَة والبراهين البَيِّنَة على عَظَمَة الخالقِ، وبديعِ خَلقِه وعلى وحدانيَّتِه وقُدرتِه سبحانه؛ فقد قال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190،191].
أحبتي: في هذه الدنيا خلق اللهُ تعالى ناراً وجعلَها نعمة من النعم.. بل هي ضرورة من الضروريات التي لا غنى للخلق عنها، وجعلها تذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وتخويفاً يسوقُ به عباده إلى دار النعيم فقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ). [الواقعة:71 - 73] وَفي مثلِ هذه الأيام أيامَ شِدَّةِ الحَرِّ يُذكِرُ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ بحَرِّ نارِ جهنم غيرِ المتَناهي أبَدَ الآبدين، ودَهرَ الدّاهرين، وبين أنه من حرِ جهنم فَقَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَقَالَ: «وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» فإذا علم العبدُ أَنَّ شِدَّةَ هذا الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ أَقْبَلَ حينئذٍ بكلِّيتِه على العزيز الغفَّار، وفَرَّ من سَخَط الجبَّار.. وَهذا النفسُ هو الذي قَتَلَ العشرات هذه الأيام بشِدَّةِ حَرِّهِ في أوربا..
بل أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ r بأعظمَ منه نِكايةً وأشدِ حراً فقال: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفي رواية عندَ أحمد وصححه الألباني عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» وفي رواية للبيهقي صححها الألباني في صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب قَالَ ﷺ: «أَتَحْسَبُونَ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ مِثْلُ نَارِكُمْ هَذِهِ؟، هِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنَ الْقَارِ هِيَ جُزْءٌ مِنْ بَضْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْهَا».. وَهَذَا الْجُزْءَ مِنْ النَّارِ فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا لِمَا فِي تِلْكَ الدَّارِ من العذاب الأليم.
ولذلك تجد المؤمِنينَ الموقِنين بوَعدِ الله ووعيدِه خَائفين وَجِلين من عذابِ السَّموم، عامِلين مسارِعين بما يقرِّبهم للربِّ الرحيم، عاملين بطاعته تارِكين لمعصيَتَه، قال الله عنهم: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-28].
أيها الإخوة: يقول بعض المحقِّقين: "دارُ الآخرة إمّا دار نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دار عذابٍ مَحضٍ لا يشوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يُذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار لمن أشرك بالله جلّ وعلا وكفَر، ولمن عصَى رُسُلَه وتجبَّر"..
وقال ابنُ رجب رحمه الله: "واختلافُ أحوالِ الدّنيا من حرٍّ وبَرد وليلٍ ونهار وغَيرِ ذَلك يَدلّ على انقِضائِها وزَوالها" انتهى. فالسَّعيدُ من اغتَنَمها فيما يُقرِّبه مِن خالِقِه ويباعِدُه مِن سَخَط إلهِهِ وربِّه..
وكان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: "أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد".
وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان:24].
أيها الإخوة: ومِن مَواقفِ العِبرِ في زَمنِ الحرِّ، وشدةِ حرارةِ الشَّمس، أنها تذكُّر في الموقِفِ العظيم يوم القيامة، فإنَّ الشمسَ تَدنو من رؤوسِ العِباد يومَ القيامَةِ ويُزاد في حَرِّها، فعن الْمِقْدَادُ بْنَ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ» قَالَ سُلَيْمٌ الراوي عن المقداد: "لَا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ؟" وأيا كان الميل فالشمس قريبة من الرؤوس، ثُمَ قَالَ ﷺ: «فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ومنهم من يأخذه إلى حقويه وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا» قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إلى فيه يقول: «يُلْجِمُهم إِلْجَامًا» رواه ابن حبان وصححه الألباني..
والمعنى: أنَّ الشَمْسَ الحارةَ الهائلةَ العظيمةَ الحرارة تدنو في يوم القيامة، التي تصل درجة حرارة سطحها حسب توقع علماء الفلك إلى نحو 5600 درجة مئوية.. وحرارة باطنها تزيد على 15 مليون درجة مئوية.! ودرجات الحرارة هذه تبخر أي شيء على وجه الارض في لحظات.
ومن حكمة الله تعالى وفضله على البشرية، أنه جعلَ بُعْدَ الشمسِ عن الأرض كبيراً جداً، فهي تبعد أكثر من 150 مليون كيلومتر، لذلك لا يصلُ إلى الأرضِ من حرارتها إلّا ما يناسبُ الحياةِ، ولو تحرّكت الشمس قَليلاً باتجاه الأرض، لانقرضت الحياة ولاحترقت الأرض، ولكن اللهَ تعالى الذي خلقَ كُل شيءٍ بميزانٍ وتقدير قال: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
وقد تفضل الله تعالى على طائفة من عباده فأظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله،
قَالَ ﷺ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.. الحديث
جعلني الله وإياكم ووالدينا منهم إنه جواد كريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: نشهد في هذه الأيام حراً شديداً، تسبب في حرائق ووفيات في أوربا، والذي ينبغي التفطن له: أن نعلم أن الله تعالى بيده مقاليد الكون يصرفه كيف يشاء وهو أحكم الحاكمين، وأن ما يكون من تغير في هذا الكون إنما هو بعلمه وتقديره، وقد أمر عباده بالاعتبار بها فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]. وأن نوجه أسرنا ومن تحت أيدينا، للاعتبار بها والاتعاظ كما أراد الله.
أحبتي: ربما تأوه بعضنا من شدة الحر وتفوه بكلام لا يليق وأظهر الضجر بالكلام والفعل المنافي للصبر، وكل هذا لا يحسن بالمسلم.. وعلينا أن نعلم أن هذا من الابتلاء ومن اللواء التي يجب أن نصبر عليها؛ حتى نؤجر..
وعلينا أن نذكي في نفوسنا استشعار نعم الله علينا التي نتقلب بها صباح مساء ظل بارد وماء برد ومأكل ومشرب لم يتمتع به أسلافنا؛ حتى أضحت جزءا مما نألفه في حياتنا بفضل الله، وربما غفلنا عنها فلم نحمد الله عليها، ورَسُولُنا ﷺ يحثنا على ذلك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا». رواه مسلم... ولنا في فعله ﷺ قدوة فَعَنْ أَبِي عَسِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلًا، فَمَرَّ بِي، فَدَعَانِي إِلَيْهِ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: أَطْعِمْنَا بُسْرًا، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ، رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: «لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رواه أحمد وحسنه الألباني. وفي رواية مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ».
وبعد أحبتي: في كل لحظة نتقلب بأنواع من مثل هذا النعيم وأكثر منه.. فحري بنا أن نحمد الله على النعم عموما، وعند تجددها خصوصاً.. فعندما ندخل من حر إلى برد نحمد الله على فضله ونتذكر ضده... ونتصور حالنا لو انقطع الكهرباء في هذا الحر الشديد...