حرمة دم المسلم

في السنةِ السابعةِ من الهجرةِ في شهرِ رمضانَ أرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمحملاتِه لتأديب الأعرابِ المناوئينَ للدعوةِ المحمدية ، فبعثَ سريةً إلى الحُرَقة من جُهَيْنةَ ، فلما كانَ من الفجرِ انقضَّ عليهم المسلمونَ في هجومٍ فجريٍّ خاطفٍ مُباغتٍ، فارتبك الأعرابُ واضطربوا ، إلا أنهم قاوموا المسلمينَ وثبتوا .
وكانَ في الأعراب مِرْدَاسُ بنُ نَهِيكٍ أحدُ أبطالِهم الشُّجْعانِ، يَحْمِيهم إذا تَراجعوا، ويَسْبِقُهم إذا تَقدَّموا، بل كان من فَرْطِ شَجاعته إذا شاءَ أنْ يتقدمَ إلى رجلٍ من المسلمينَ قَصَدَهُ فَقَتَلَهُ، حتى قتلَ مِنْ أعيانِ الصحابةِ ما قَتَلَ.
وبعدَ ساعةٍ من القتالِ انْهَزَمَ المشركونَ وفرَّ منهم مَنْ فرَّ ، وكانَ ممنْ هَرَبَ مرداسُ هذا، فلحِقَه أسامةُ بنُ زيدٍ وهو ابنُ السادسةَ عَشَرة عاماً ، ومعه رجلٌ من الأنصارِ، فلما أدركوهُ وأحاطوا به، ورأى السيفَ قال : لا إله إلا الله ، فأشاح عنه الأنصاريُ، وأما أسامةُ فرأى أنها صرخةُ التعوذِ من السيفِ ، فقتله أسامة، ومات مرداس ، لكن لم يَمُتْ خبرُه وقضيتُه.
رجعتْ تلك السرية إلى المدينةِ تَزُفُّ البشرى للنبي صلى الله عليه وسلم ، فتهللَ وجهُهُ عليه الصلاة والسلام فرحاً بهذا النصر، إلا أنَّ الفرحَ لم يَدُمْ طويلاً حينما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبرُ أسامةَ مع مرداس، فبَلغَ منه هذا الخبرُ مبلغاً عظيماً، فتغيرَ وجهُه، وحَنَقَ على حِبِّه وابنِ حِبِّه أسامةِ بنِ زيد، وأستعظمَ قتله للرجل ، ثم استدعاه، وهنا بدأت المساءلة: لم قتلته يا أسامة ؟ أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا إله إلا الله؟.
فقال أسامة: إنما قالها خوفاً من القتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا شَقَقْتَ عن قلبِه حتى تعلمَ أقالَها من أجل ذلك أم لا !!
فقال أسامة : يا رسول الله أوجعَ في المسلمينَ ، فقتلَ فلاناً وفلاناً، وسمَّى له بعض الصحابة الذين يَعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ هذا التبرير لم يؤثر في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له معنِّفاً: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فلما رأى أسامة أنَّ تأوُّلَه لم يقبل، وأنَّه أخطأَ في قتلِه ، قال : استغفر لي يا رسول الله.
وانتظر أسامة أن يقول له حبيبه صلى الله عليه وسلم غفر الله لك، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاد عليه عتابه : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يكرِّر عليه هذا العبارة حتى كُرِبَ أسامةُ كرباً شديداً ، بل تمنى أنه لم يَكُنْ أسلمَ قبلَ ذلك اليوم.
وبقي هذا الندمُ يَتَلَجْلَجُ في صدر أسامةَ سنينَ طويلة، فكان أسامةُ بنُ زيدٍ من أبعدِ الناسِ عن الدماءِ ، وعن الشبهاتِ فيها، حتى إذا حدثتْ الفتنةُ بين الصحابةِ رضوان الله عليهم والاقتتالِ في الجملِ وصفين ، كان أسامةُ بنُ زيد ممن أعتزلها ولم يتلطَّخْ بشيءٍ منها ، رُغْمَ ما كان من حُبِّه ومَيْلِه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إلا أنَّ حرمة الدماء كانت أكبرُ في قلبِه من هذه المحبة .
وعَرَفَ الصحابةُ رضي الله عنهم هذا في أسامة، فكان بعضُهم لا يشاركُ في قتالٍ إلا إذا رأى أسامةَ فيه، لعلمِهم عن خوفِه وتحرُّزه في الدماء.
هذا الخبرُ يا أهلَ إيمان هو واللِه رسالةٌ بليغةٌ في تعظيمِ أمرِ الدماءِ، فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد عَظَّمَ دمَ محاربٍ قال: لا إله إلا الله ، والقرائن تدل على أنه قالها متعوِّذاً ، فكيف بدم امرئٍ يُتيقن في إسلامه وتوحيده .
فلا يَستخفُّ بأمرِ الدماءِ إلا من تاه في لججِ الضلالِ والآثام.
لا إنذارَ أشدُّ وأعظمُ على من له قلب، من هذا النذيرِ الإلهي( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ).
لقد عظَّم الإسلامُ أمرَ الدماءِ حتى كانت الدنيا بما فيها أهونَ عند الله من قتل رجل مسلم. رواه الترمذي وغيره. والله سبحانه أخبر أنَّه لا يحب الفساد، وأنه لا يصلح عمل المفسدين، وأنَّ أعظمَ الفسادِ استباحةُ الدماءِ المعصومة ( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا ) وفي رواية ( وَمَن خَرَجَ عَلى أُمَّتي يَضرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَها، لا يَتَحَاشى مِنْ مؤمِنها ، ولا يَفي بِعَهدِ ذِي عَهدِها ، فَلَيْسَ مِني ، وَلَسْتُ منه ) وقبل أن يُودِّع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا بأشهر أكَّدَ في حجَّة الوداعِ وقرَّر ( إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ) بل إنَّ كلَّ الذنوبِ يُرجى أنْ يغفرَها اللهُ إلا الشركَ ومظالمَ العباد، وأعظمُ الظلمِ قتلُ الأنفسِ المعصومة، ولذا كان من عدل الله سبحانه أنَّه أول ما يُقضى بين الناسِ في الدماء.
فقضيةُ حرمةِ الدماءِ محسومةٌ، والنصوصُ فيها صريحةٌ، والتأويلاتُ مهما كانت مرفوضة، ولا يزيغ عن هذا إلا هالك.
وإذا تقرَّر هذا فيبقى السؤالُ الأهم:
لماذا كان أهلُ المسالكِ الغاليةِ يَسترخصونَ أمرَ الدماءِ رغمَ ما فيها من الوعيد الشديد؟
والجواب : أنَّ الاستخفافَ بالدماءِ لا يُولَدُ فجأةً ، بل يَبْدأُ بمقدماتٍ ، فهو يبدأ بالتأويلِ المنحرفِ ، ثم التنظيرِ المُتَعَسِّفِ ، ثم التكفيرِ الناسِفِ ، ثم بعد ذلك يَهُونُ أمرُ القتلِ .
التأويلُ المنحرفُ الذي قال عنه ابنُ عمرَ في وصف الخوارج : انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين.
فأهلُ المسالكِ الغاليةِ انحرافُهم من التفسيرِ الخاطئِ للنصوص، أو في تنزيل النصوصِ على وقائع لا يَصِحُّ تنزيلها ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ.
وإذا حَصلَ التأويلُ المنحرفُ جاءَ بعدَه التنظيُر المتعسفُ ـ أي البعيد المتكلف الخاطئ ـ ، وإذا حصل الفهمُ البعيدُ حصلَ الخللُ، وبدأ الانحراف.
الفهمُ الخاطئُ للنصوصِ هو الذي جعلَ زُرْعةَ الخارجي يقولُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: أما والله يا عليّ لئن لم تدعنَّ تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه! وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) لتفسيرُ الخاطئُ للنصوص منشأُهُ الجهلُ، وضَحَالةُ العلمِ، وهذه صفةٌ غالبةٌ في الغلاة، ولذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم فرقةَ الخوارجِ الغلاةِ : (أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) ، فهم يقرؤونَ القرآنَ، وربما استشهدوا به، لكن بغير فهمٍ وإدراكٍ لمقاصد القرآن .
وإذا اجتمعَ الفهمُ الخاطئُ مع الجهلِ والتهورِ في الأحكام، انتجَ التكفيرَ، وإذا حصل التكفيرُ سَهُلَ استرخاصُ الدماءِ، ومن جرَّأ لسانَه على التكفيرِ، والتكفير باللزوميات فهو لما سواهُ من التبديعِ والتضليلِ والشتمِ والتفسيقِ أجرأ .
إنَّ من السفاهةِ الفكريةِ أن يكونَ صوتُ التكفيرِ والتخوينِ عالياً عند أرباب هذه المسالك، ولو سُئِلَ أحدُهم عن الحلالِ والحرام، والبيعِ والطلاقِ لفَغَرَ فاهُ وتَاها ، ومع ذلك يجعلُ لنفسِه حقَّ الاجتهادِ في المسائلِ الكبار ، وفي أحكام الإيمان والدماء، والمسائل الغامضة، والتي لو وقعت في عهد الفاروق لجمع لها أهل بدر.
وإذا عَشْعَشَ الجهلُ وحضرَ التكفيرَ، غابت معاني السياسةِ الشرعية، وتقديرِ المصالحِ والمفاسدِ، وفِقْهِ السننِ الكونيةِ والشرعيةِ لاستجلابِ النصر.
ومما تؤكدُه التجاربُ أنَّ الغلاةَ متى ما وجدوا في أرض، إلا كانوا سبباً في وأْدِ وتحجيمِ المشاريعِ الإسلامية ، والتخوفِ من أهلها، وجعلِهِم في موقفِ المدافع عن نفسِه، المُتَّهمِ في مَنْهجه .
فمتى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يَهدم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
معاشر المؤمنين ... لقد أساءنا ما سمعناه من قتل واعتداء على حرس الحدود في عرعر قبل أيام ماضية، سائلين المولى أن يتغمد ميتهم بواسع رحمته، ويشفي مرضهم.
لا يخفى على كل مواطن الجهود الأمنية الجبارة حول متابعة أفراد الفئة الضالة والكشف عن بعض مخططاتهم الإجرامية، وهذا كله بفضل الله جل وعلا ثم بفضل جهود رجال الأمن الكبيرة التي كانت سبباً في دفع كثير من الشرور قبل وقوعها، وقد رأينا وسمعنا جميعاً نماذج من التخطيط والترتيب الذي ينوي هؤلاء المجرمون فعله إفساداً وترويعاً كداعش وغيرهم، وهم بذلك يخدمون أعداء هذا الدين وأعداء هذه البلاد، ويجرون على أنفسهم ومجتمعهم الشر، ويسيئون لبلادهم التي أعطتهم الكثير، ويستغلون ما تقدمه هذه البلاد المباركة من تسهيلات، فإلى الله المشتكى من ضيع هؤلاء.
معاشر المؤمنين ... اعلموا أن حفظ الأمن وحفظ مكتسبات الوطن مسئولية الجميع، فلا بد من التعاون المثمر بين جميع فئات المواطنين والمقيمين وأجهزة الأمن المختلفة، لكي يتحقق لنا الخير وننعم بالأمن والأمان في هذا البلد المبارك.
فهذه البلاد محسودة من فئات كثيرة وذلك بما أنعم الله عليها من نعمة الدين ووحدة الصف وسلامة المعتقد وما خصَّها الله به من رغد العيش وتلاحم المجتمع، ولذا شرق كثير من الأعداء بهذا الأمر فراحوا يخططون لتفكيك هذه الوحدة باستخدام عناصر ممن غرروا بهم من شباب هذا البلد ومن يتعاون معهم من الفئة الضالة. وقد كشفت الإحصائيات الأخيرة التي أعلنتها وزارة الداخلية عن أمور خطيرة حفظ الله هذه البلاد منها.
فنحمد الله ونشكره ونسأله أن يزيد هذه البلاد تمسكاً بشرعه المطهر، وأن يوفق رجال الأمن للمزيد من هذه الجهود الموفقة في متابعة أوكار هذه الفئة والتصدي لها.
اللهم إن عبدك الضعيف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قد مسه الضر وأنت ارحم الراحمين، اللهم ارفع عنه السقم والبلاء، وألبسه لباس الصحة والعافية.
عباد الله ... وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المشاهدات 2141 | التعليقات 0