حرمة الاتجار بالبشر بالعمل القسري والتأخر في صرف حقوق العمالة 5 صفر 1441هـ
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أما بعد: فاتقوا الله عباد الله تَقِيَّةَ من وَجِل وحَذِر، وأبصر وازدجر، فاحتَثَّ طلباً، ونجا هرباً، وكفى بالله نصيرا، وبالكتاب حجيجا، وكفى بالجنة ثوابا، وبالنار عقابا .
عباد الله.. لقد اقتضت حكمة الله أن جعل عباده بعضهم فوق بعض درجات، وسخر بعضهم لبعض فذا يبيع وذاك يشتري، وأولئك صناع وزارعون وآخرون يشترون فينتفعون، وذا يُخدم ويُعان، وذاك يتقاضى على عمله المال ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ وقال جَلَّ ذِكْرُه: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾، وقد أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يُنتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يَزرعون وأنتم تأكلون، أفلا تشكرون، وبما للعامل من الحق تؤدُّون، فإنكم إن فعلتم ذلك فإنه من صالح ما تعملون، وفي صحيح البخاري ومسلم في قصة الثلاثة الذين أُغلق عليهم باب الكهف بصخرة عظيمة، فتوجهوا إلى الله بصالح أعمالهم، فزالت الصخرة عن مكانها، ومن هؤلاء الثلاثة رجل توسَّل لربه بصالح عمله فقال: "…اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ -بعد مدة من الزمن يطالب بأجره الزهيد الذي رفضه أولا، فاضطرته الحاجة إليه- فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ، فَكُشِفَ عَنْهُمْ" .
عباد الله.. وإن الله حرم ظلم الناس في أموالهم كما حرم ظلمهم في دمائهم وأعراضهم، ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله ‘ قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ» ، وقد توعد الله الذي يطفف في الكيل والميزان ويُنقص منه فيبخس الناس اليسير من مالهم ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ثم ذكر ما هو زاجر لهم عن ذلك ورادع {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فكيف بمن هم لأموالهم آكلون، وعلى الأعمال بالقسر آخذون، فْيعلموا أن اللهَ خصمُهم كما في الخبر قد خَصَّهم، ففي صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ" وقد تنوعت طرق ظلم هؤلاء المساكين، فتارة بتكليفهم أكثر من طاقتهم، وتارة بتأخير أجرتهم أو إنقاصها دون وجه حق، وتارة بمنعهم منها حتى يقوموا بآخر من العمل هم عليه غير متعاقدين .
عباد الله.. أحسنوا إلى من تحت أيديكم وإلى من يخدمكم، كما تحبوا لو كنتم كذلك أن يُحسن إليكم، إحسانا بالقول والفعل، ففي الصحيحين قال أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فوالله ما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟" وحذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ الغِفاري رضي الله عنه من الإساءة للخادم فقال له: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" متفق عليه .
أيها المانع لحق هؤلاء المظلومين حتى وإن كانوا كافرين .. إياك والكبرَ والغرورَ فإنهما الحاملان على ذلك، ومَن تذكَّر قدرةَ اللهِ عليه حَجَبَه ذلك أن يتكبر على هؤلاء الضَّعَفَة، وعن أن يغتر بما هو فيه من القوة، في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري –رضي الله عنه- قال: (كنت أَضْرِبُ غُلَامًا لي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا من خَلْفِي:" اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ" فلم أَفْهَمْ الصَّوْتَ من الْغَضَبِ، فلما دَنَا مِنِّي إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ" فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ من يَدِي، فقال:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ على هذا الْغُلَامِ"،فقلت: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا).
عباد الله.. والكمال عزيز، والنقصُ يعتري عمل البشر، ومن أخطأ فلْيعتذر، وعلى المـُعتَذَرِ إليه أن يعفو ولو تكرر، وفي المسند والسنن من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلًا أتى رسولَ اللهِ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ إن لي خادمًا يُسيءُ ويَظلمُ أفاضرِبُه؟ قال ﷺ: "تعفو عنه كلَّ يومٍ سبعينَ مرةً" وما أحوجنا لمغفرة الله فليكن منا عفوٌ عن عباد الله {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بهدي نبينا سيد ولد عدنان، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا به وتوحيدا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
عباد الله.. التوبةُ من الذنوب مشروطة بالإقلاع عن المعصية، والندم، والعزم الصادق على عدم العود، ويزيد الذنب الذي فيه حقوقٌ للآخرين بِرَدِّ المظالم، وعفوهم عن الظالم، وإلا فهم لحقهم عند ربهم آخذون، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلب ينقلبون} في صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ"، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" فاللهَ الله برد الحقوق الى أصحابها ومحاسبة المرء نفسه قبل أن تُحاسب، قال ‘: "اتق الله فإن دعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
المرفقات
عن-الاتجار-بالبشر-بالعمل-القسري-والتأ
عن-الاتجار-بالبشر-بالعمل-القسري-والتأ-2
عن-الاتجار-بالبشر-بالعمل-القسري-والتأ-2