حرب المخدرات

د. منصور الصقعوب
1444/10/14 - 2023/05/04 18:20PM

 

معشر الكرام: بالعقل كرم الله بني آدم, وبه اختلفوا عن غيرهم من المخلوقات, وبه يتمايزُ الناس ويتفاضلون, وبِفقده يُصبح المرءُ كالبهائم والجمادات, بل وينحطُّ عن ذلك, ولذا فأيُ أمرٍ يؤثِّرُ على العقلِ فإنّ الشريعة تُحرِّمُه, إذ العقلُ من الضروراتِ الخمسِ التي جاءت الشريعةُ بِحفظِها.

ومِن أجل ذلك حُرِّمت الخمور وكلُّ أنواع المسكرات, لمِا تطمس من أنوار العقول, وتهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الغزالي: حرّم الشرعُ شُربَ الخمرِ لأنه يُزيل العقلَ، وبقاءُ العقلِ مقصودٌ في الشرع لأنه آلة الفهمِ وحَملِ الأمانة ومحلُ خطابِ التكليف, فالعقلُ مِلاك أمور الدينِ والدنيا. ا.هـ

ولعمرُ الحقّ إنّ غيابَ العقل لمفسدةٌ أيُ مفسدة, وما قيمةُ الإنسانِ إذا غاب عقلُه وانطفأت بصيرَتُه وتخلى عن إنسانيتِه, وأهلُ الجاهلية برغم جاهليتهم كان منهم رجالٌ حرّموا الخمر على أنفسهم لمَّا رأوا ما تفعلُه بالرجلِ العاقلِ الرشيد .

ولذا قال عثمان t (فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر)

عباد الله: ومع تطوُّرِ الحضارةِ, تَطوَّر ما يَهدِمُ الحضارةَ كذلك, فتطورت صناعةُ المسكرات, حتى ظهرت المخدرات والتي هي أشدُها على الأفراد والأمم.

وعندما نتحدث عن المخدِّرات فإننا لا نتحدث عن أمرٍ هامشي, بل الحديثُ هو عن حربٍ, نعم عن حربٍ بالمعنى الحقيقي على هذه البلاد لتدمير الإنسان فيها.

ولئن كان دافع قادة هذه الحربِ الربح المالي, فإن الهدف منها حين توجه لهذه البلاد أكبر من المال, إذ الهدف إفساد عقول وطاقات شباب هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة, ليتيهوا في ظلماتها, ويغرقوا في أوحالها ويغيبوا عن نصرة أمتهم, وبناء مجتمعاتهم

ومن مدة وهذه البلادُ المباركة هدفٌ لأعداءِ الدين وأرباب هذا البلاء من المخدرات, كي يوبقوا شبابها في هذه الشرور, وهي أمورٌ لم تَعُدْ خافيةً, بل في العلن, تظهر في الكميات المضبوطة وأعداد المروجين وحجمِ التجارة في العام الواحد, والأساليبِ المختلفة للتهريب والترويج, نسأل الله أن يرد كيدهم.

وليس بنا اليوم سردُ الإحصائيات المهولة التي تُضبط قبل دخولها لهذه البلاد, فتلك أرقامٌ صارت في متناول علم الجميع, يقرأونها, ويسمعونها على الدوام, ويحمدون الله على كشف ستر مروجيها, ويدعون معها لكل من سعى في حفظ شباب المسلمين من هذه الشرور, من ولاة أمر ورجال أمن.

وليس بنا اليومَ أن نذكر أضرارَ المخدراتِ, الدينيةِ منها والنفسيةِ والبدنيةِ والاجتماعيةِ, فتلك أكثرُ من أن يُحاطَ بها في خطبة, وإنما حسبُنا أن نقول يا كرام:

مِشوارُ الإدمان غالباً ما يبدأه الشاب بدافع التخلص مِن الهمومِ والمشاكلِ المحيطة, ثم ما يلبثُ أن يَسقُطَ في وَحلِ الإدمان فيدمّر نفسه ويزدادُ غرقًا في همومه.

يؤزه للمخدرات ضعفُ الإيمان, وخواءُ الروحِ من تعظيم الرحمن, ويبقى رفقةُ السوءِ, وحُبُّ الاستطلاعِ, مرتعاً خصباً للوقوع في هذه السموم.

ولا زالت السموم تتجدد, فلا يأتي نوع من أنواع المخدرات ويستجد إلا ويكون أكثر أثراً مما قبله, وأشد فتكاً وأعظم ضرراً.

ولا تسل بعد التعاطي عن الآثار والمخاطر, أمراضٌ نفسية, وتفككاتٌ أسرية, وانفصام للشخصية, وشكٌ في أهله وأقرب الناس إليه, ونتيجة لهذا لَكم هزّت المجتمعَ قضايا مثل قتل أبٍ أولاده, أو زوجٍ زوجته أو شخصٍ نفسه, وهكذا, سببها الوحيدُ هو المخدرات, عبثت بالعقل, فحدث ما لا يُقدِم عليه سويٌ, والله المستعان.

والإدمان لا يعرف عمرًا معينًا ولا جنسًا مخصوصًا, الإدمان يأتي للصغير والكبير, للشاب والطفل, للرجل والمرأة, ولكن أكثر ضاحاياهُ هُمْ مِن فئة الشباب, فليحذر كلٌ منَّا من هذه الآفة الخطيرة, وليتعاهد من تحت يديه, بالتحصين، بالتوعية بخطورة المخدرات, وبضررها عليهم في العاجل والآجل.

المسؤوليةُ عليك أيها الأبُ ليست هيّنةً, تابِع ابنكَ وتواصل معه, وإن لاحظتَ عليه علامةً مِن علاماتِ الإدمان, فسارع بعلاجها, واحتواءِ المشكلة, وحتى لو استدعى الأمرُ الإبلاغَ عنه, فإنَّ الإبلاغَ عنه من قِبَلِكَ ليس كالقبض عليه من غيرك, وثمرته أن يتم تداركه وعلاجه, وهو اليومَ أهونُ من الإبلاغ عن مصيبةٍ يرتكبها غدًا لا قدّر الله, احتووهم, اقتربوا منهم, وقبل كل هذا ادعوا الله أن يعصمهم ومِن طُرُقِ الشرِّ يحفظهم.

أما من ابتلاه الله بهذه البلية فليعلم أنه ما جعل الله داءً إلا جعل له دواء, وأن الرجوع إلى الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل, وليعلم كذلك أن الله تعالى أمهله ومن التوبة مكّنه, فليرجع إلى الله تعالى، وليتب قبل أن يُختَم له بخاتمةِ السوء.

ليفكّرْ بنفسه وبالمستقبل الذي ينتظره, ليفكرْ في والديه, وكم هي السعادةُ التي ستدخل عليهم عند توبته, ليفكرْ في أولاده, ليفَكرْ في فرح ربِّه بتوبته, ليفكر في كل ذلك .

ثم ليتخذ الخطوات العاجلة للفكاك من هذا الداء, ليراجع المختصين في مستشفيات الأمل, وجمعياتِ وعيادات مكافحة المخدِّرات وعلاجه.

ليتركْ تلك الصحبة التي تُعينه على الشرّ.

ليتب إلى الله, وليستعن بدعائه, وليلح عليه بصدق أن يعينه على الإقلاع عن هذا الطريق الفاسد, وليحسن الظن بالله, فالله عند حسن ظن عبده به.

الخطبة الثانية :

عباد الله: سلامة المجتمع وأمنُه ليست منوطةً بالأجهزة المختصة فحسب, إنّ أمن المجتمع منوطٌ بالمجتمع نفسِه بكل أفرادِه وفِئاته وشرائِحه

وإننا في هذه البلاد بحمد الله نشهد حملة مسددة موفقة من قبل ولاة الأمر وكافة الجهات الأمنية بالحرب ضد المخدرات, بدأنا بحمد الله نشهد بوادرها وثمارها, ونسأل الله أن يبارك فيهم, وأن يحفظنا وذرياتنا وشبابنا من هذه السموم

 وإن الواجب على الجميع التعاون في الحرب ضد المخدرات, وواجب الأولياء كبير في اليقظة تجاه كل بوادر تعاطي تظهر لدى الأولاد, فالمكر كبار, والمخدرات ليست صورة واحدة اليوم بل أنواعاً متعددة بعضها أخطر من بعض, وقد توصل المتعاطي للإدمان من مرة واحدة, والضحية ليست أموالاً هالكة يُستعاضُ عنها أو منازلَ متهدمةً يُعاد بناؤها, إن الضحية جيلٌ بأكمله وأمةٌ بأكملها

وبعدُ يا كرام: فأعظمُ سلاحين في وجه المخدرات هما: حُسن التربيةِ والاعتناءُ بالبيوت وتحصينها والمحافظة عليها.

والثاني: تقويةُ رقابةِ الله في القلب, وتعظيمُ الله في النفس.

إنَّ مُعضلة الخمور في المدينة لم تحتج في عهد النبوة إلا إلى آيةٍ واحدة في النهي الصريح يقول فيها الله( فهل أنتم منتهون) لكنها وافقت قلوباً مؤمنة, لربها معظِّمة, وإذا بالخمورِ تُتلَف, وإذا بالمدمنين الذين ألفوه سنين طويلةً ينتهون, وإذا بسكك المدينة تجري فيها الخمور المُراقة, فإذا تحقق هذان, فأمتنا وشبابنا إلى خير إن شاء الله.

اللهم اعصمنا والمسلمين من الشرور ما ظهر منها وما بطن

 

 

المشاهدات 1280 | التعليقات 0