حرارة الصيف وشدة الحر

خالد الباتلي
1436/10/14 - 2015/07/30 04:05AM
إن الحمد لله .. اتقوا الله .. أما بعد
عباد الله .. إن من سنن الله تعالى أن يقلب الليلَ والنهار، ويصرف الأعوام والشهور، وما يتبع ذلك من اختلاف الفصول، وتبدل المواسم. وإننا في هذه الأيام نعيش حرا لاهبا، وصيفا لافحا، فانزعج الناس، وصاروا يبحثون عن الظل الظليل، والهواء العليل، وتتابع الناس مشرقين ومغربين، فارين من هذا الحر الشديد.
ومن طبع ابن آدم أنه ملول جهول، فإذا جاء الصيف تضجَّر منه، وإذا حلَّ الشتاء تضجَّر منه، وفي ذلك يقول القائل:
يتمنَّى المرءُ في الصيف الشِّتَا *** فإذا جاء الشِّتَا أَنْكَرهُ
فهْوَ لا يرضَى بحالٍ واحدٍ *** قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرهُ!

أيها الإخوة .. إن توالي هذه الأزمنةِ، وتكرارَ هذه الفصولِ عبرةٌ وتذكرة، فصول تتوالى، وشهور تتعاقب، وهي مراحلُ يقطعها المرء في سفره، حتى يصلَ إلى نهاية مدتِهِ وعمره.
قال الحسنُ البصري رحمه الله: "ما من يوم ينشق فجره وتشرق شمسه إلا ينادي منادٍ: يا ابن آدمَ أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيدٌ، فتزود مني، فإني لا أعودُ إلى يوم القيامة".
إنّ في تعاقب الحرِّ بعد البرد دليلاً من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقلّب الأيامَ والشهور، ويطوي الأعوامَ والدهور، وهو سبحانه المهيمنُ المدبرُ، بيده تصريفُ الأمور، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ).
أيها الأحبة .. نعيشُ هذه الأيام مع واعظِ الصيف، فهل أصغتْ قلوبُنا لموعظتِه؟.
هذا الحر اللاهب؛ من أين يأتي؟
الجواب في حقيقة شرعية ربما تخفى على كثير من المسلمين، نعم .. حقيقةٌ أخبر بها الصادقُ المصدوقُ ، وهي أن هذا الحرَّ الذي نجده في الصيف إنما هو من فيح جهنم، عن أبي هريرة عن رسول الله  قال: (قالت النار: رب أكل بعضي بعضا، فاذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين؛ نفسٍ في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نَفَسِ جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) متفق عليه
نعم .. الصيف وحره ولهيبه يذكرنا بحر النار ولهيبها، كان عمر  يقول: أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد. رواه الترمذي وصححه الألباني
وهجُ الشمس الذي يصلانا هذه الأيامَ مع بعدها عن الأرض، كيف يكون حينما تدنو قدر ميل، عن المقداد بن الأسود  قال: سمعت رسول الله  يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله  بيده إلى فيه" رواه مسلم، قال سليم بن عامر: والله ما أدري ما يعني بالميل مسافةُ الأرض، أو الميل التي تكحل به العين.
ومن أراد الظل الظليل، في ذلك اليوم الطويل، فليكثر من الصدقة، عن عقبة بن عامر  أن النبي  قال: (إنّ الصّدقة لَتطفئُ عن أهْلِها حرَّ القُبورِ، وإنّما يستظلُ المؤمنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صَدَقَتِه) رواه الطبراني وصححه الألباني
قال عمر  لكعب الأحبار: يا كعب، خوفنا بالنار!! فقال يا أمير المؤمنين: لو فُتح من جهنم قَدْرُ مِنْخَرِ ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلا دماغه، حتى يسيل على الأرض، فغشي على عمر .
إن أعظم تذكرةٍ من هذا الحر الشديد أن يذكرنا بحر جهنم أعاذنا الله منها.
تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا *** وترحمَه ونَفْسَك ما رحمتا

النارُ موحشةٌ، أهوالُها عظيمةٌ، وأخطارُها جسيمةٌ، وعذابها أبداً في مزيد، لا يُفَتَّرُ عنهم وهم فيه مبلسون، كلما خَبتْ زادها الله سعيراً.
رأى عمر بن عبد العزيز قوما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى ثم أنشد:
من كان حين تصيبُ الشمسُ جبهتَه ... أو الغبارُ يخاف الشينَ والشعثا
ويألفُ الظلَّ كي تبقى بشــاشتُه ... فسوف يسكنُ يوماً راغماً جدثا
في ظل مقفرةٍ غبراءَ مظلمـــةٍ ... يطيلُ تحت الثرى في غمِّها اللبثا
تجهزي بجهـــــازٍ تبلغين به ... يا نفسُ قبل الردى لم تُخلقي عبثا

عباد الله: من الوقفات والمواعظ في هذا الموسم، ونحن نصالي الهجير والرمضاء أن نتذكر نعم الله علينا، وعظيم فضله بما يسر من وسائل نتقي بها حر الصيف، ولهيب الشمس، من ملابسَ وظلالٍ وارفة، وأجهزةِ تبريدٍ وتكييفٍ قلبت الصيف شتاء، فبَرَدَ الهواءُ والماء في شدة الحر، وصار الجو الباردُ مع المرء في البيت وفي السيارة وفي المسجد وفي العمل وفي السوق، فالحمد لله على نعمه. قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81]
هل تذكرنا أيها الإخوة فئاما من الناس يسكنون بيوت الصفيح والخيام والعشش والصنادق؟، وهل حمدنا الله حينما ننظر إلى العاملين تحت سياط الشمس المحرقة في شدة الهجير، من عمال البناء والتشييد، وعمال النظافة الذين يجوبون الشوارع في هذه الأجواء؟.
إنها دعوةٌ إلى تذكر نعم الله وحمدِهِ وشكره عليها، ثم الالتفاتُ بعين الرحمة والمعونة على أولئك بالصدقة على الفقير، والتخفيفِ على العامل، ولو أن تواسيَه بشربة ماء بارد.

أيها الإخوة .. ومن الوقفات والمواعظ في حر الصيف؛ أن ينتصر المؤمن على نفسه، ويخالف هواه وراحته، في سبيل طاعة ربه. فلا يجوز للمسلم أن يخل بواجب، أو يقارف حراما بسبب شدة الحر.
خرج النبي  في السنة التاسعة إلى غزوة تبوك، وكانت في حَرٍ شديدٍ، وسَفَرٍ بعيد، وكانت امتحانا لتمييز المؤمن من المنافق، فتخلف المنافقون عن النفير مع النبي  بسبب شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال في المدينة، فجاء الوعيد في القرآن المجيد: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81]
يتكاسل بعض الناس في الخروج إلى صلاة الظهر أو العصر لشدة الحر، وسَموم الجو، لكن المؤمن يقوده إيمانُه لأمر ربه ومولاه.
وأما باب الفضائل والسنن فباب عظيم، يوفق إليه الصادقون من عباده، الموقنون بوعده.
عن أبي الدرداء  قال: خرجنا مع النبي  في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي  وابنِ رواحة. متفق عليه
إن الموفق من عباده من يستحضر أن الصيام جنةٌ من العذاب، وأن النبي  قال: (من صام يومًا في سبيل الله باعَدَ الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا) متفق عليه
روي أنّ أبا بكرٍ كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء. ووَصّى عمرُ  ابنَه عبدَ الله فقال: "عليك بخصال الإيمان"، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ.
ولما مرض معاذ بن جبل  مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي مات فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجَرْيِ الأنهار، ولا لغرس الأشجار؛ ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.
ظمأ الهواجر: الصيام في أيام الحر الشديد!، وهكذا فلتكن الهمم.
خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديدِ حَرُّه، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وأنت صائم! فقال: أبادر أيامي هذه الخالية.
نعم .. إن هذا قد عرف حقيقة هذه الأيام، وتطلع أن يقال له: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]
وقال أبو الدرداء  موصياً أصحابه: صوموا يوماً شديداً حرُّه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
بارك الله ..

الخطبة الثانية:
عباد الله .. من السنن في شدة الحر: الإبراد بصلاة الظهر، ومعناه أنه يستحب تأخيرها إلى أن ينكسر الحر، لحديث أبي هريرة  مرفوعًا: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". متفق عليه
ومعنى أبردوا: أي أخروها إلى أن يبرد الوقت، والأمر فيه للاستحباب. ومعنى فيح جهنم: شدة حرها وغليانها وانتشار لهبها ووهجها، نعوذ بالله منها. ومفهوم الحديث أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد.
وهذه السنةُ عامةٌ لأن النبي  قال: (شدة الحر من فيح جهنم)، وهذا يحصل لمن يصلي جماعة، ولمن يصلي وحده، ويدخل في ذلك النساء، فإنه يسن لهن الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر.

كما نُذكِّر في هذه الأيام الذين يسهرون الليل لقصره في الصيف أن يغتنموا آخره، فإنه وقت شريفٌ مبارك، فالثلثُ الأخير من الليل وقتُ نزولِ الرحمات، واستجابة الدعوات، ذلك لأنه وقتٌ ينزل اللهُ العلي نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وذلك كلَّ ليلة، فينادي عباده وهو الغني عنهم: هل من مستغفر فأغفرَ له، هل من تائب فأتوبَ عليه، هل من سائل فأعطيه سؤله. فينبغي أن يتذكر الساهر في الليل ويتنبه إلى فضيلة هذا الوقت المبارك، ولا يحرم نفسه من بركة هذا الوقت.
اللهم ..
المشاهدات 4260 | التعليقات 3

نفع الله بها وبك ... خطبة واعظة...


نفع الله بك شيخ خالد الباتلي على خطبتك النافعة وأحسن الله إليك وشكرنا لفضيلتكم على هذا الحضور المشرف والتواجد الكريم.


الأخوان الكريمان: مشاري وزياد
شكرا لمروركما الكريم وتقبل الله دعواتكم الطيبة