حَدِيثُ الْغَاشِيَة 12 رَجَب 1444هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1444/07/10 - 2023/02/01 18:54PM

إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَرَغْبَةً فِي أَنْ نَنْتَفِعَ بِمَعَانِيهِ الْجَلِيلَةِ، فَإِنَّ مَعَنَا هَذَا الْيَوْمَ سَورَةً جَلِيلَةً تَتَكَرَّرُ قِرَاءَتُنَا لَهَا فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدِ، وَتتَضَمَّنُ مَعَانِيَ نَافِعَةً فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ، وَلا شَكَّ أَنْ هَذَا نَافِعٌ لَنَا فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، إِنَّهَا سُورَةُ الْغَاشِيَةِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ, وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، اسْتِفْهَامٌ، يُرَادُ بِهِ: التَّشْوِيقُ وَالتَّهْوِيلُ، وَالْمَعْنَى: هَلْ جَاءَكَ وَبَلَغَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَأَيُّهَا السَّامِعُ خَبْرُ الْغَاشِيَةِ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ التِي تَغْشَى النَّاسَ جَمِيعًا وَتَعَمُّهُمْ، بَلْ تَعُمُّ الْكَونَ أَجْمَعَ، فَتَتَغَيَّرُ مَعَالِمُهُ وَتَتَبَدَّلُ هَيئَاتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.

ثُمَّ قَسَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الأوَّلِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} هَؤُلاءِ هُمُ الْكَافِرُونَ بِأَنْوَاعِهِمْ، يَظْهَرُ عَلَى وُجُوهِهِمْ الذُّلُّ وَالْخَيْبَةُ، وَقَولُهُ عزَّ وجلَّ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّ الْكَافِرِينَ وَهُمْ فِي النَّارِ يُكلَّفُونَ بِأَعْمَالٍ يَعْمَلُونَهَا تَزِيدُ فِي عَذَابِهِمْ وتَعَبِهِمْ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أيْ: أنَّهمْ يُعَذَّبُونَ فِي نَارٍ شَدِيدَةِ الْحَرَارَةِ تَصْلَاهُمْ وَتُحْرِقُهُمْ. وَقَولُهُ عزَّ وجلَّ {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}؛ أيْ: هَذِهِ الوُجُوهُ تُسْقَى فِي النَّارِ مِنْ عَينٍ بَلَغَتِ النِّهايَةَ فِي الحَرَارَةِ، إذَا شَربُوا مِنْهَا قَطَّعَتْ أَمْعَاءَهُمْ، وَهَذَا بَيَانٌ لِشَرَابِهِمْ، وَأَمَّا طَعَامُهُمْ: فَقَدْ قَالَ اللهُ تعالَى فِيهِ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}؛ أيْ: لَا يَأْكُلُونَ فِي النَّارِ إلَّا هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ: الضَّريعُ، وَهُوَ شَجَرٌ كَبِيرٌ خَبِيثٌ، يُسَمَّى عِنْدَ النَّاسِ بِالشِّبْرِقِ، لَا تأكُلُهُ البَهَائِمُ إِلَّا الإبلُ تَأْكُلُ الْأَخْضَرَ مِنْهُ دُونَ اليَابِسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}؛ أَيْ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ لَا خَيرَ فِيهِ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، فَلا يَنْفَعُ ظَاهِرَ أَبْدَانِهِمْ بِالسِّمَنِ، وَلَا يَنْفَعُ بَاطِنَهَا بِسَدِّ الْجَوْعَةِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}, فَهَذَا هُوَ القِسْمُ الثَّانِي مِنْ أقْسَامِ النَّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ، وهُمْ أهْلُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، مِنْ أيِّ أمَّةٍ كَانُوا، وَصَفَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَى وُجُوهُهِمُ النُّعُومَةُ وَالْبَهَاءُ وَالنُّضْرَةُ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أَيْ: رَضِيَتْ تِلْكَ الْوُجُوهُ عَنْ عَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا بشَرْعِ اللهِ؛ لِأَنَّهَا اسْتَفَادَتْ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ الفَوزَ فِي الآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}؛ أيْ: يَكُونُونَ فِي جنَّةٍ مرتَفِعَةٍ فَوقَ السَّمَاوَاتِ، لَيْسَ فَوْقَهُمْ إلَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}؛ أيْ: هَذِهِ الوُجُوهُ لَا تَسْمَعُ فِي الْجَنَّةِ لَغْوًا، وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَيْسَ فِي الْجنَّةِ كَلَامٌ غَيرُ مُفِيدٍ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَلَامٌ مُحَرَّمٌ، بَلْ كَلَامُهُمْ كُلُّهُ طَيِّبٌ.

وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}، أَيْ فِي الْجَنَّةِ عَيْنٌ سَّارِحَةٌ جَارِيَةُ بِالْمَاءِ، فَلَا يَحْتَاجُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى اجْتِلَابِ هَذِهِ الْعُيُونِ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَقَوْلُهُ جلَّ وعلا: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}أيْ: فِي الْجَنَّةِ أَسِرَّةٌ عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ. وَمَعَ ارتِفَاعِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الجنَّةِ أنْ يَعْلُوا هَذِهِ السُّرُرَ فَإِنَّهَا تَنْزِلُ لَهُمْ؛ لِيَصْعَدُوا عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}؛ أيْ: كُؤُوسٌ مُعَدَّةٌ ومرَتَّبةٌ ومهيَّأَةٌ لِيَشْرَبَ بِهَا عِبَادُ اللهِ، وَقَوْلُهُ {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أَيْ: وِسَادَةُ مُرَتَّبَةٌ مُنَظَّمَةٌ، فَلَا يَتْعَبُ أَهْلُهَا فِي إِعْدَادِهَا، بَلْ يَتَكِّؤُونَ عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَقَوْلُهُ {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}؛ أيْ: فِي الْجَنَّةِ بُسُطٌ مفرُوشَةٌ، يَجِدُونَهَا فِي كلِّ مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُون: وَأَمَّا قَوْلُ اللهِ عزَّ وجلَّ {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}, فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّعجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ, والتَّوبِيخُ لَهُمْ، يعْنِي: هَلْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قدرَةِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ وَمَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ، فَعَبَدُوا غَيْرَهُ، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ؟ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ التِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِتْقَانِ خَلْقِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ الْعَرَبُ، وَيَكُونُونَ مَعَهُ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالسَّمَاءُ وَالْجِبَالُ وَالأرْضُ.

فَأَمَّا الْإِبِلُ فَهِيَ تِلْكَ الْحَيَوانَاتِ الْكِبَارِ، التِي خَلَقَهَا عزَّ وجلَّ, وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعَ، فَيَشْرَبُونَ حَلِيبَهَا وَيَأْكُلُونَ لُحُومَهَا، وَيَسْتَخْدِمُونَ وَبَرَهَا بُيُوتًا، وَجُلُودَهَا أَوَانِيَ، وَتَحْمِلُهُمْ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَهُمْ إِلَى بُلْدَانٍ بَعِيدَةٍ.

وَأَمَّا السَّمَاءُ فَلْيَتَأَمَّلُوا فِي خَلْقِهَا وَارْتِفَاعِهَا الْعَظِيمِ، وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِلَا عَمَدٍ، ثمَّ يتأمَّلُ مَا فِيهَا مِنَ النُّجُومِ وَالْكَواكِبِ؛ جَعَلَهَا اللهُ زِينَةً لِهَذِهِ السَّمَاءِ، وعَلَامَاتٍ يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ فِي البَرِّ والبَحْرِ، ورُجُومًا لِلشَّياطِينِ.

وَأَمَّا الْجِبَالُ، فَلْيَنْظُرُوا إِلَيْهَا أَمَامَهُم كَيْفَ نَصَبَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ، وَجَعَلَهَا أَوْتَادًا لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ وَتَضْطَرِبَ، وَأَوْدَعَ اللهُ فِي هَذِهِ الْجِبَالِ مِنَ الْمَعَادِنِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، ثمَّ كَذَلِكَ فِي أنْوَاعِ الجبَالِ وفِي أَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، فَمَنْ نَظَرَ فِيهَا اعْتَبَرَ وعَرَفَ قدرَةَ الخالِقِ العَظِيمِ.

وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي يَمْشُونَ عَلَيْهَا فَلْيَتَأَمَّلْ هَؤُلَاءِ فِيها، كَيْفَ جَعَلَهَا اللهُ مُنْبَسِطَةً مُسْتَوِيَةً يَمْشُونَ عَلَيْهَا، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا ويَرْعُونَ فِيهَا بَهَائِمَهُمْ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهَا بُيُوتَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ مِمَّا تُنْبِتُ لَهُمُ، فَلْيَنْظُروا إِلَى كُلِّ هَذَا لِيَعْلَمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ الذِي خَلَقَ ذَلِكَ مُسْتِحِقٌ لِلْعِبَادَةِ وَلَنْ يَعْجَزَ عَنْ إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} خِطَابٌ موجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإِلَى أمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَيِ: اذْكُرْ لِلنَّاسِ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ مِنَ الأَمْرِ بالتَّوحِيدِ والنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وأَنْذِرْهُمْ مِنَ النَّارِ وَبَشْرْهُمْ بالجَنَّةِ، وأَنْتَ مُذَكِّرٌ لَهُمْ وَمُبَلِّغٌ لِلرِّسَالَةِ، وَ{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وَلَا مُجْبِرًا لِلنَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، فَلَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ حتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَاللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}, لَيْسَ المعْنَى: لَسْتَ عَلَيهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلَّا الكُفَّارَ فَأَنْتَ مُسَيْطرٌ عَلَيهِمْ. هَذَا الفَهْمُ غَيرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ {إِلَّا} هُنَا: أَدَاةُ حَصْرٍ بِمَعْنَى: لَكِنْ، والمعْنَى: لَكِنْ مَنْ تَوَلَّى وكَفَرَ فَسيُعَذِّبُهُ اللهُ. وَمَعْنَى {تَوَلَّى}؛ أَيْ: أَعْرَضَ وَأَدْبَرَ عَنِ العَمَلِ بِالشَّرْعِ، وَمَعْنَى {وَكَفَرَ}؛ أَيْ: جَحَدَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ}؛ وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ فِي النَّارِ، وَيُقَابِلُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ : الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَإِنَّ الكفَّارَ قَدْ يُعذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا؛ إِمَّا بِالْأَمْرَاضِ، أَوْ بِالْفَقْرِ، أَوْ بِالْجُوعِ، أَوْ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ أَوْ بِالعَذَابِ النَّفْسِيِّ وَضِيقِ الصَّدْرِ، فَإِنَّهُمْ قَطْعًا يُعَذَّبُونَ فِي الدُّنيا؛ لِأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ فإنَّ لَهُ معيشةً ضَنْكًا، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}؛ أيْ: هؤلاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَكَفَرُوا، لَنْ يَفِرُّوا وَلَنْ يُفْلِتُوا مِنَّا؛ لِأَنَّ مَرَدَّهُمْ إِلَى اللهِ وَسَوْفَ يُجَازِيهِم عَلَى مَا عَملُوا بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ.

هَذِهِ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضُ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَ كِتَابِهِ وَالاعْتِبَارِ بِآيَاتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَشِفَاءَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا وَهُمُومِنَا، الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ، الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

المرفقات

1675266848_حَدِيثُ الْغَاشِيَة 12 رجب 1444هـ.doc

المشاهدات 1548 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا