حديث الإجازة

د. منصور الصقعوب
1433/07/17 - 2012/06/07 11:26AM
الخطبة الأولى
يتعاقب الزمان ويقلب الله الليل والنهار, وتمر الأيام سراعاً والسنين تباعاً, يكبر المرء وتتخطى به السنين وهو ما زال في الأماني غارق وفي الأمل واقع.
سلوا ابن الأربعين كيف رأى سرعة المرور, سلوا ابن الستين والسبعين كيف كان يُمنِّي نفسه بطول الأمل فطال العمر ولم يُحقِّق ما أمّل.
عُمرٌ يمضي ولذاتٌ تنقضي, وشمسٌ تشرق وتغرب, تُقرِّبُنا من الآخرة وتباعدُنا من الدنيا,كذا الدنيا سريعة الزوال لا تَبقى فيها لذةٌ, ولا تدومُ فيها سعادة.
ونحن أيها الكرام نستقبل الإجازة, وتحلُّ علينا أيامها المفعمة بأوقات الفراغ والراحة, لا سيما لفئة الشباب من الطالبات والطلاب, وهنا فيجمُل بنا أن نُذكِّر ببعض القضايا ونقفَ بعض الوقفات, بين يدي إجازة تمتد لتسعين يوماً أو تزيد.
الوقفة الأولى: مما يؤكد عليه أن المسلم ينبغي أن يعيش بين حقيقتين, ويسيرَ وهو مستذكر آيتين, آية لدنياه وآية لأخراه, وبدون استذكارهما تخرب الدنيا ويخسر الدين, ويفوت عليه خير كثير, هما قول الله ( ولا تنس نصيبك من الدنيا) والآية الثانية( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)
فأما الأولى فهي تشعرنا أن النفوس ينبغي أن تأخذ حقها من الراحة والإجمام, فلا يواصل عليها بالجد, ولا تؤخذ بالحزم على الدوام, بل يروح عنها وتؤخذ باللين, وكذا كان سيد المرسلين وصحبه الغر الميامين, فبرغم جدهم وجهادهم فإن لهم أزماناً يُجِمُّون النفْس فيها وعنها يروحون, لكن هذا الإجمام لا يتجاوز المباح ولا يصل للحرام.
ولذا فلا إشكال أن يُروِّحَ المرءُ عن نفسه في سفرٍ مباح, أو نزهة لا معصية فيها, ولا لوم على المرء أن يجم النفس ويريح البدن والذهن من الكدِّ والجُهد.
وأما الآية الثانية فهي تُشعرنا أن المؤمن ليس في حياته إجازة مطلقة, فهو قد يأخذ إجازةً عن دراسته, وعمله, ولكنه لا يمكن أن يأخذ إجازة عن ميادين الخير, ودروب الطاعة, فالمؤمن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين, بل هو ما أُتي به للدنيا إلا ليعمرها بطاعة المولى, وفي سبيل ذلك فالإجازة كغيرها حقبة من العمر ينبغي أن تكون مركباً يوصل للجنة, وموسماً للطاعة, والأبواب مُشْرعة والسبل مفتوحة ومتنوعة, وفي أيامها فرصة أن يُحوِّلَ المرءُ إجازة الدراسة خطوة للمعالي والرفعة.
فأيامٌ تبلغ التسعين حفظ في مثلها أقوام القرآن ونهلوا في مثلها العلم الشرعي عبر دروسه المتكاثرة في الإجازات, تسعون يوماً أو تزيد فرصة أن تكتسب مهارة أو تتقن صنعة.
وثاني الوقفات معاشر الكرام: هي مع الشباب الذين هم نشءُ الخير وعدّة الحاضِر وبسمة المستقبَل, يا معشر الشباب ها هي الإجازة قد فتحت صفحتها لكم لتكتبوا فيها وتُسطِّروا, وعند ربكم تجدون ما سطرتم وما دُّوِنَ في صحائفكم فماذا أنتم فاعلون ؟.
يا معشر الشباب إن كنتم اليوم تملكون القوة فقوتكم إلى ضعف, أو صحةً فهي إلى سقم, والمغرور من غرّته قوته وفُتوته وشبابه وصحته, فألهى عن الخير نفسه فأغفل الله قلبه.
يا أيها الشباب: ترِدُ الإجازة على فئام منكم فيُحولونها مرتعاً لكل خير, ولآخرين فيقضونها بالشر, فمن أي الفريقين أنتم, غبن وربي أن تمضي الجموع وأنتم قاعدون, تالله ما خلقنا للهو واللعب والسهر والطرب, بل خلقنا لهدف سامٍ ومقصد عالٍ.
يا أيها الشباب: أعيذكم بالله أن تكونوا من قومٍ يُضايقون الناس في متنزهاتهم, ويزعجون الناس في طرقاتهم, ويعترضون العفيفات في مكناتهن, وأين يغيب هؤلاء عن دعوات المؤذَين, وعن نظر رب العالمين.
يا أيها الشباب: إن المنتظر منكم أن تعمُروا حلقاتِ العلم, والنوادي الصيفية المرعية, لتخرجوا من موسم الإجازة بعلم دين أو دنيا, وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا معاً.
وثالث الوقفات معشر الأعزاء هي مع الآباء والأولياء الذين حمّلهم الرب الأمانة, أمانة الأبناء والبنات, ورعاية القيم وصيانة الفلذات, يا أيها الآباء الإجازة لأولادكم هي مفترق طرق, وهي حقبة حساسة قد يرتفع بها الشاب في المعالي أو ينحدر في دروب التقصير, ولكم دور يُنتظرُ تجاههم.
أيها الأولياء: نرى أبناء في عمر الزهور يبقون في الطرقات إلى هزيع الليل الآخر, والأب عنهم غافل وإن علم فعن ردعهم متخاذل, ولم نعهد الطرقات تُخرِّجُ خُلقاً فاضلاً أو شباباً واعياً, وليس بخافٍ على شريف علمكم أن الليل مظنة الشرّ أكثر من النهار, ولذا أمر الله رسوله بالاستعاذة من الشرور عامة والشرور في الليل خاصة فقال ( ومن شر غاسق إذا وقب) والغاسق إذا وقب هو الليل.
يا أيها الأولياء: غبن عليكم وظلم لأولادكم أن تدعوهم في موسم الإجازة عرضة لسبل الشر من قنوات وغيرها, كونوا على قرب منهم, شجعوهم على الخير وحفزوهم له, فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن تأطروهم عن الشر

الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
ورابع الوقفات: والأمتعة تشد والركائب للسفر تُعد؛ جميل أن يستشعر المرء أنه قد يجعل سفره عبادة حين ينوي به إدخال السرور على أهله, والتفكر في عظيم خلق ربه, ولكن العبادة لا تكون حين يكون السفر بذاته معصية وذنباً, والسفر يكون ذنباً وعصياناً بأحد أمور ثلاثة: إما أن يسافر بقصد البحث عن المعصية وطلبها, فذاك ذنب ولو لم يتهيأ له المحرم, وإما أن يفعل في سفره الحرام فذاك ذنب ولو لم ينو في سفره الآثام, وإما أن يسافر لبلاد الكفر, وتلك محالٌ أفتى العلماء بحرمة السفر لها, إلا لحاجة دين كدعوة أو حاجة دنيا كعلاج وتجارة, مع الأمن على الدين والقلب, وليست السياحة بمسوغ ومجيز لذلك, لا سيما حين يصحب الأولاد من الجنسين لجهاتٍ ربت على الكفر فصارت مشاهد المعصية هي الأصل, مع ما يترتب على ذلك من التسمح والتساهل في النظر المحرم والسماع المحرم الذي يصك الآذان في كل مكان, وفي أصقاع بلادنا غنية وكفاية, ولو لم تصل لغيرها في الطبيعة فإن سلامة الدين أولى من مشهدٍ تراه فتنتهي لذته بمجرد أن تتعداه.
وآخر الوقفات هي مع الدعاة وطلبة العلم، الذين عقدت الأمة عليهم آمالها، ورنت إليهم بأبصارها، وهوت إليهم بأفئدتها، إن المسؤولية التي أنيطت بكم وألقيت على كاهلكم في توجيه الناس وتربيتهم ودعوتهم وتبصيرهم كبيرة، لا سيما في زمانٍ كثر فيه الباطل والفساد، ونَفَقَت فيه سِلَعُ أهلِ الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، والمؤمل فيكم والمنتظر العمل بجد واجتهاد, في كل سبيل وناد, سافِروا إلى القرى والأمصار، وعلِّموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودُلُّوا الحائر، مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حذِّروا الناس من الفساد والعصيان, قاوموا وسائل التدمير والإفساد بوسائل البناء والإرشاد، واستغلوا وقت الإجازة بدعوة القريب والبعيد, فالناس في كل مكان ينتظرون أهل الإسلام ليدلُّوهم ويرشدوهم, فكونوا أدلاء خير, دعاة خير وبر, وأخلصوا في ذلك كله لله تعالى، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب ، ولا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا, قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وأختم الحديث أيها الأحبة بكلمة ابن الجوزي لابنه, حيث كتب له مناصحاً وقائلاً: اعلم ـ يا بُني ـ أن الأيام تُبْسَطُ ساعات، والساعاتَ تبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفَس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودّعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوِّدها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه" اهـ
المشاهدات 3158 | التعليقات 2

خطبة موفقة ،،، جزى الله كاتبها خير الجزاء وأوفره ...


جزاك الله خيرا