حديث أم زرع وخبر النسوة الإحدى عشرة
عبدالله اليابس
1437/06/17 - 2016/03/26 02:16AM
حديث أم زرع وخبر النسوة الإحدى عشرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع زوجه عائشة رضي الله عنها, وكان لدى عائشة رضي الله عنها قصة سمعتها وأرادت أن تقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, واسمحوا لي أن أنتقل بحضراتكم إلى ذلك المجلس المبارك, وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ينظر إلى الصديقة بنت الصديق, تحدثه حديثًا طويلاً سمعته .. وهو يصغي لها .. وقد ترك مشاغله .. قالت رضي الله عنها في الحديث المتفق على صحته: جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهن شيئاً: قالت الأولى: زوجي لحمُ جملٍ غث (أي مهزول), على رأس جبلٍ وعر، لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٍ فينتقى أو فينتقل.
وغرض المرأة من هذا الوصف هو وصف زوجها بقلة الخير مع قلة ذات اليد، وشبهته باللحم الغث الذي لا فائدة منه، أو الذي لا ينتقله الناس إلى بيوتهم، لزهدهم فيه، ومع ذلك هو على رأس جبل صعب, لا يوصل إليه إلا بتعب.
وهذا دليل على سوء خلقه، مع التكبر على عشيرته وأهله.
وفي هذا من الفوائد ذم من كانت هذه صفته, من التقتير على الأهل, والتكبر عليهم, فهذه الصفات مذمومة مكروهة, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبِهِ مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ).
ثم نعود إلى نص الحديث وخبر النسوة الأحد العشر, قالت الثانية: زوجي لا أبثُّ خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عُجره وبُجره.
وقولها: (إن أذكره أذكر عجره وبجره) العُجَر: جمع عُجْرة، وهي العَقْدُ في الأعصاب والعروق المجتمع تحت الجلد.
والبُجَر: جمع بُجْرة، وهي انتفاخ يحصل في البطن والصرة.
وغرضها من قولها: أني لا أنشر خبره كيلا يفتضح.
وفي هذا القول من الفوائد أن الإنسان ينبغي أن لا يُشيع ما يعلمه من سوء لدى الآخرين, بل الستر مطلوب, فقد جاء في الحديث: (من ستر مسلمًا في الدنيا ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ).وجاء في رواية: (من ستر على مؤمنٍ عورةً فكأنما أحيا موءودةً).
فمن كان يحب أن يستره الله في الدنيا والآخرة فليستر على الناس, ولا يتتبع أخبارهم أو يفضحهم, ويزداد الأمر سوءً عند إشاعة الفضائح دون التأكد منها, خصوصًا مع وجود التقنيات الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس, فينتقل الخبر بسرعة البرق في فضح مسلم مسكين, قد يكون مظلومًا, أو مذنباً رغب الله تعالى بالستر عليه, وتذكر عندما تأتيك مثل هذه الرسائل .. تذكر : أن هذا الخبر ينبغي أن يموت في جوالك .. فلا تكن جسرًا يعبر به الشيطان للوقيعة بين الناس.
وعودًا على خبر النسوة في حديث عائشة رضي الله عنها: قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق، إن أَنطِق أُطَلَّق، وإن أسكُت أُعلَّق.
قولها (العشنق): تريد به الطويل وقيل الطويل العنق, تريد أن له طولا بلا نفع, ومنظرًا بلا مخبر, فإن نطقت بما فيه طلقها, وإن سكتت تركها معلقة.
وجاء في رواية: (وأنا معه على حد السنان المُذَلَّق)، أي: تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم، ولا لتسكت، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها، لكن هي تحبه، أو أنها تريد أن تعيش معه لتستر على نفسها.
وكم في البيوت اليوم كهذا العشنَّق .. إذا دخل البيت فلا يحدث أحدًا .. ولا يبتسم .. ولا يريد أن يسمع شيئًا .. فليتقي الله هؤلاء, فإن للأهل حاجة إلى طيب الكلام, وحسن التعامل, أعظم من حاجتهم للطعام والشراب, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا).
قالت الرابعة: زوجي كَلَيلِ تهامة، لا حر ولا قَر، ولا مخافة ولا سآمة.
فهذه المرأة أثنت على زوجها, فهو وسط بين الرجال في أخلاقه, وخير الأمور الوسط.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسأَلُ عما عَهِد.
فهذه المرأة شبهت زوجها داخل البيت بالفهد, وخارجه بالأسد, والفهد لين المس، كثير السكون، محب للنوم والتغافل, والمعنى: أنه يتغافل عن أحوال البيت، وإن وجد فيها خللا استحق اللوم به أغضى.
أما إن خرج من البيت فهو كالأسد, مقدام شجاع, يأخذ حقه ولا يغلب.
قال الإمام أحمد: (تسعة أعشار الخُلُق بالتغافل).
ليس الغبي بسيدٍ في قومه *** لكنَّ سيد قومه المتغابي
قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قولها: (إن أكل لفَّ): تعني به أنه يضم ويخلط صنوف الطعام بعضها ببعض، إكثارا من الأكل.
(وإن شرب اشتف): أي شرب كل ما في الكأس ولم يترك فيه شيئًا.
وقولها: (وإن اضطجع التف): أي نام في ناحية ملتفا بثوبه، لا يضاجعها ولا يتحدث معها.
أما قولها: (ولا يولج الكف ليعلم البث) فقيل أن المراد به أنه لا يسألها عن أمورها ليعلم ما تشتكي فيعينها عليه.
وفي قول هذه المرأة من الفوائد أهمية أن يتفقد الإنسان أهله, وأن يكون لمَّاحًا يعرف ما يشغلهم وما يعانونه من مشاكل, ليعينهم في حلها أو حتى ليواسيهم.
قالت السابعة: زوجي عياياء - أو غياياء - طباقاء، كل داءٍ له داء، شَجَّكِ أو فَلَّكِ، أو جمع كلاً لكِ.
قولها: (عياياء) من العِي وهو الجهل أو التعب, و(غياياء): من الغَي وهو الضلال, (طباقاء): هو المعجم الذي انطبق عليه الكلام, (كل داء له داء): أي فيه كل أدواء الدنيا, (شَجَّكِ): أي يجرح وجهها، (أو فَلَّكِ): أي يكسر عظمها، (أو جمع كلاً لك): أي جمع بين جرح الوجه وكسر العظم.
وكل هذه الألفاظ تعني بها أن زوجها غليظ عنيف, ضرَّاب للنساء.
وضرب الزوجات وإن كان جائزاً إلا أن جوازه في حدود ضيقة, بعد استنفاذ الوسائل الشرعية, من النصح والوعظ والهجر في المضجع, كما قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن}, وأيضًا فإن هذا الضرب لا يكون مبرحًا, وإنما يكون ضربًا لطيفًا للتأديب, بالسواك أو راحة اليد, لتصلها رسالة بأن الزوج غير راضٍ عنها, كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: (واضربوهن ضرباً غير مبرح).
أما خبر المرأة الثامنة فنستمع إليه بعد جلسة الاستراحة بإذن الله.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ: فنكمل ما بدأنا به من ذكر حديث النسوة الأحد عشر الذين قصت قصتهم عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرنبٍ.
فأثنت على زوجها بحسن خلقه وطيب ريحه, وحسن ذكره بين الناس, والزرنب نبات طيب الرائحة.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، عظيم الرماد، طويل النَجَاد، قريب البيت من الناد.
(العِماد): عود الخيمة، كَنّتْ بارتفاعه عن شرفه وارتفاع نسبه.
وقولها: عظيم الرماد، كناية عن كثرة ضيافته، وطبخه الطعام للضيوف.
و(طويل النِجاد): أي طويل حِمَالةِ السيف، وهو ما يتقلد به, كَنَّتْ به عن امتداد قامته، وحسن منظره, وشجاعته.
وقولها: (قريب البيت من الناد): النادي: مجلس القوم ومجتمعهم، والكريم يحرص على قرب بيته من النادي ليَظهَر ويُعرَفَ فيُغشى.
قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك، مالكُ خير من ذلك، (أي خير مما ذكرت صويحباتها النساء), له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المِزهَر أيقنَّ أنهنَّ هوالك.
فإبل هذا الرجل قليلاً ما يسرح الراعي بها؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف في أية لحظة فتُذبَحَ له, وهذه الإبل إذا سمعت صوت الشخص الذي يوقِد النار علمت أنها المقصودة بذلك لتطبخ للضيوف.
وكل هذه الأوصاف كناية عن الكرم, وهو من أخلاق الجاهلية التي حث عليها الإسلام وأقر أهلها عليها, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس, ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع! أَناسَ من حُلِيٍ أُذنَي، (أي حرك الأذنين بما كساهما من حلي) وملأ من شحمٍ عضُدي، وبجَّحني فبجِحَت إليَّ نفسي (أي أكرمني وعظَّمني فعَظُمتُ عند نفسي)، ووجدني في أهل غُنيمةٍ بشَق، فجعلني في أهل صهيلٍ، وأطيطٍ، ودائسٍ، ومُنَقٍ، (أي أنها كانت عند أهلها الذين يسكنون في مكان ضيق ولديهم غُنيمات يسيرة, فنقلها إلى قومٍ أهلِ خيل وإبل وزرع وسعة من العيش), قالت: فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتَصَبَّح، وأشرب فأتَقَمَح.
أي أنها تقول ما تريد ولا يرد قولها أويقال لها: قبحكِ الله, وتنام حتى تشبع, وتشرب من الماء أو اللبن حتى تشبع.
قالت: أم أبي زرعٍ وما أم أبي زرع عُكُومُها رَداَح, وبيتها فَيَّاح.
(عكومها رداح): أي أن الأكياس التي تحفظ فيها الطعام واسعة كبيرة, وهي كناية عن سعة العيش والكرم, (وبيتها فياح): أي واسع.
قالت: ابن أبي زرع وما ابن أبي زرعٍ! مضجعه كمَسَلِّ شَطْبةٍ، ويُشبِعُه ذراع الجَفرة.
كأن الابن هذا من زوجة أخرى والله أعلم, وقولها: (مضجعه كمسل شطبة): أي أن مكان نومه كمساحة مسل الشطبة, وهو ما ينزع من القضبان الدقاق من جريد النخل, كَنَّت بذلك عن خفته ونحالة جسمه مع عضلات مفتولة, وقولها: (ويشبعه ذراع الجَفرة): أي أنه يشبع من الأكل القليل كذراع أنثى الماعز الصغيرة.
قالت: بنت أبي زرعٍ، وما بنت أبي زرعٍ! طَوع أبيها وطوع أمها، ومِلء كسائها، وغيظ جارتها.
فوصفتها بأنها مطيعة لوالديها, ممتلئة اللحم حتى تملأ ثيابها, ومحببة إلى زوجها فتغتاظ منها زوجاته الأخريات.
قالت: جارية أبي زرعٍ، وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تُنَقِّثُ مِيرتنا تَنقِيثَاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.
فوصفتها بأنها أمينة, تكتم ما يحدث في البيت فلا تنشره بين الناس, وهي جارية مدبرة للطعام لا تبذر فيه, وحريصة على نظافة البيت فلا يشبه عش الطير.
قالت: خرج أبو زرعٍ، والأوطاب تَمخص، (أي في وقت كثرة اللبن, والأوطاب سقاء اللبن), فلقي امرأة معها ولدان كالفَهِدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحتُ بعده رجلاً سَرِيَّاً، (أي شريفًا), ركب شَرِيَّاً (أي فرساً سريعًا)، وأخذ خَطِيَّاً (هو الرمح)، وأراح علي نَعَماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحةٍ زوجاً! (أي أعطاها مالاً وفيراً), وقال: كلي أم زرعٍ وميِري أهلك (أي أطعميهم).
قالت: فلو جمعتُ كل شيءٍ أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
فكأن هذه المرأة لا تنقم على زوجها الثاني شيئاً, إلا أن محبة الزوج الأول قد تمكنت من قلبها, فأين حالها من حال كثير من المطلقات التي لا تبقي مجلساً إلا وتنال فيه من طليقها.
قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ) وجاء في بعض الروايات: (إلا أن أبا زرع طَلَّق، وأنا لا أُطلِق).
فتأمل هذا الأدب النبوي من نبي الله صلى الله عليه وسلم, وحسن استماعه, وتفاعله مع القصة الطويلة, وأدبه الجم, صلى الله عليه وسلم.
فاللهم اجمعنا معه في دار كرامتك, وألحقنا به يا رب العالمين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع زوجه عائشة رضي الله عنها, وكان لدى عائشة رضي الله عنها قصة سمعتها وأرادت أن تقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, واسمحوا لي أن أنتقل بحضراتكم إلى ذلك المجلس المبارك, وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ينظر إلى الصديقة بنت الصديق, تحدثه حديثًا طويلاً سمعته .. وهو يصغي لها .. وقد ترك مشاغله .. قالت رضي الله عنها في الحديث المتفق على صحته: جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهن شيئاً: قالت الأولى: زوجي لحمُ جملٍ غث (أي مهزول), على رأس جبلٍ وعر، لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٍ فينتقى أو فينتقل.
وغرض المرأة من هذا الوصف هو وصف زوجها بقلة الخير مع قلة ذات اليد، وشبهته باللحم الغث الذي لا فائدة منه، أو الذي لا ينتقله الناس إلى بيوتهم، لزهدهم فيه، ومع ذلك هو على رأس جبل صعب, لا يوصل إليه إلا بتعب.
وهذا دليل على سوء خلقه، مع التكبر على عشيرته وأهله.
وفي هذا من الفوائد ذم من كانت هذه صفته, من التقتير على الأهل, والتكبر عليهم, فهذه الصفات مذمومة مكروهة, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبِهِ مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ).
ثم نعود إلى نص الحديث وخبر النسوة الأحد العشر, قالت الثانية: زوجي لا أبثُّ خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عُجره وبُجره.
وقولها: (إن أذكره أذكر عجره وبجره) العُجَر: جمع عُجْرة، وهي العَقْدُ في الأعصاب والعروق المجتمع تحت الجلد.
والبُجَر: جمع بُجْرة، وهي انتفاخ يحصل في البطن والصرة.
وغرضها من قولها: أني لا أنشر خبره كيلا يفتضح.
وفي هذا القول من الفوائد أن الإنسان ينبغي أن لا يُشيع ما يعلمه من سوء لدى الآخرين, بل الستر مطلوب, فقد جاء في الحديث: (من ستر مسلمًا في الدنيا ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ).وجاء في رواية: (من ستر على مؤمنٍ عورةً فكأنما أحيا موءودةً).
فمن كان يحب أن يستره الله في الدنيا والآخرة فليستر على الناس, ولا يتتبع أخبارهم أو يفضحهم, ويزداد الأمر سوءً عند إشاعة الفضائح دون التأكد منها, خصوصًا مع وجود التقنيات الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس, فينتقل الخبر بسرعة البرق في فضح مسلم مسكين, قد يكون مظلومًا, أو مذنباً رغب الله تعالى بالستر عليه, وتذكر عندما تأتيك مثل هذه الرسائل .. تذكر : أن هذا الخبر ينبغي أن يموت في جوالك .. فلا تكن جسرًا يعبر به الشيطان للوقيعة بين الناس.
وعودًا على خبر النسوة في حديث عائشة رضي الله عنها: قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق، إن أَنطِق أُطَلَّق، وإن أسكُت أُعلَّق.
قولها (العشنق): تريد به الطويل وقيل الطويل العنق, تريد أن له طولا بلا نفع, ومنظرًا بلا مخبر, فإن نطقت بما فيه طلقها, وإن سكتت تركها معلقة.
وجاء في رواية: (وأنا معه على حد السنان المُذَلَّق)، أي: تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم، ولا لتسكت، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها، لكن هي تحبه، أو أنها تريد أن تعيش معه لتستر على نفسها.
وكم في البيوت اليوم كهذا العشنَّق .. إذا دخل البيت فلا يحدث أحدًا .. ولا يبتسم .. ولا يريد أن يسمع شيئًا .. فليتقي الله هؤلاء, فإن للأهل حاجة إلى طيب الكلام, وحسن التعامل, أعظم من حاجتهم للطعام والشراب, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا).
قالت الرابعة: زوجي كَلَيلِ تهامة، لا حر ولا قَر، ولا مخافة ولا سآمة.
فهذه المرأة أثنت على زوجها, فهو وسط بين الرجال في أخلاقه, وخير الأمور الوسط.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسأَلُ عما عَهِد.
فهذه المرأة شبهت زوجها داخل البيت بالفهد, وخارجه بالأسد, والفهد لين المس، كثير السكون، محب للنوم والتغافل, والمعنى: أنه يتغافل عن أحوال البيت، وإن وجد فيها خللا استحق اللوم به أغضى.
أما إن خرج من البيت فهو كالأسد, مقدام شجاع, يأخذ حقه ولا يغلب.
قال الإمام أحمد: (تسعة أعشار الخُلُق بالتغافل).
ليس الغبي بسيدٍ في قومه *** لكنَّ سيد قومه المتغابي
قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قولها: (إن أكل لفَّ): تعني به أنه يضم ويخلط صنوف الطعام بعضها ببعض، إكثارا من الأكل.
(وإن شرب اشتف): أي شرب كل ما في الكأس ولم يترك فيه شيئًا.
وقولها: (وإن اضطجع التف): أي نام في ناحية ملتفا بثوبه، لا يضاجعها ولا يتحدث معها.
أما قولها: (ولا يولج الكف ليعلم البث) فقيل أن المراد به أنه لا يسألها عن أمورها ليعلم ما تشتكي فيعينها عليه.
وفي قول هذه المرأة من الفوائد أهمية أن يتفقد الإنسان أهله, وأن يكون لمَّاحًا يعرف ما يشغلهم وما يعانونه من مشاكل, ليعينهم في حلها أو حتى ليواسيهم.
قالت السابعة: زوجي عياياء - أو غياياء - طباقاء، كل داءٍ له داء، شَجَّكِ أو فَلَّكِ، أو جمع كلاً لكِ.
قولها: (عياياء) من العِي وهو الجهل أو التعب, و(غياياء): من الغَي وهو الضلال, (طباقاء): هو المعجم الذي انطبق عليه الكلام, (كل داء له داء): أي فيه كل أدواء الدنيا, (شَجَّكِ): أي يجرح وجهها، (أو فَلَّكِ): أي يكسر عظمها، (أو جمع كلاً لك): أي جمع بين جرح الوجه وكسر العظم.
وكل هذه الألفاظ تعني بها أن زوجها غليظ عنيف, ضرَّاب للنساء.
وضرب الزوجات وإن كان جائزاً إلا أن جوازه في حدود ضيقة, بعد استنفاذ الوسائل الشرعية, من النصح والوعظ والهجر في المضجع, كما قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن}, وأيضًا فإن هذا الضرب لا يكون مبرحًا, وإنما يكون ضربًا لطيفًا للتأديب, بالسواك أو راحة اليد, لتصلها رسالة بأن الزوج غير راضٍ عنها, كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: (واضربوهن ضرباً غير مبرح).
أما خبر المرأة الثامنة فنستمع إليه بعد جلسة الاستراحة بإذن الله.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ: فنكمل ما بدأنا به من ذكر حديث النسوة الأحد عشر الذين قصت قصتهم عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرنبٍ.
فأثنت على زوجها بحسن خلقه وطيب ريحه, وحسن ذكره بين الناس, والزرنب نبات طيب الرائحة.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، عظيم الرماد، طويل النَجَاد، قريب البيت من الناد.
(العِماد): عود الخيمة، كَنّتْ بارتفاعه عن شرفه وارتفاع نسبه.
وقولها: عظيم الرماد، كناية عن كثرة ضيافته، وطبخه الطعام للضيوف.
و(طويل النِجاد): أي طويل حِمَالةِ السيف، وهو ما يتقلد به, كَنَّتْ به عن امتداد قامته، وحسن منظره, وشجاعته.
وقولها: (قريب البيت من الناد): النادي: مجلس القوم ومجتمعهم، والكريم يحرص على قرب بيته من النادي ليَظهَر ويُعرَفَ فيُغشى.
قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك، مالكُ خير من ذلك، (أي خير مما ذكرت صويحباتها النساء), له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المِزهَر أيقنَّ أنهنَّ هوالك.
فإبل هذا الرجل قليلاً ما يسرح الراعي بها؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف في أية لحظة فتُذبَحَ له, وهذه الإبل إذا سمعت صوت الشخص الذي يوقِد النار علمت أنها المقصودة بذلك لتطبخ للضيوف.
وكل هذه الأوصاف كناية عن الكرم, وهو من أخلاق الجاهلية التي حث عليها الإسلام وأقر أهلها عليها, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس, ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع! أَناسَ من حُلِيٍ أُذنَي، (أي حرك الأذنين بما كساهما من حلي) وملأ من شحمٍ عضُدي، وبجَّحني فبجِحَت إليَّ نفسي (أي أكرمني وعظَّمني فعَظُمتُ عند نفسي)، ووجدني في أهل غُنيمةٍ بشَق، فجعلني في أهل صهيلٍ، وأطيطٍ، ودائسٍ، ومُنَقٍ، (أي أنها كانت عند أهلها الذين يسكنون في مكان ضيق ولديهم غُنيمات يسيرة, فنقلها إلى قومٍ أهلِ خيل وإبل وزرع وسعة من العيش), قالت: فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتَصَبَّح، وأشرب فأتَقَمَح.
أي أنها تقول ما تريد ولا يرد قولها أويقال لها: قبحكِ الله, وتنام حتى تشبع, وتشرب من الماء أو اللبن حتى تشبع.
قالت: أم أبي زرعٍ وما أم أبي زرع عُكُومُها رَداَح, وبيتها فَيَّاح.
(عكومها رداح): أي أن الأكياس التي تحفظ فيها الطعام واسعة كبيرة, وهي كناية عن سعة العيش والكرم, (وبيتها فياح): أي واسع.
قالت: ابن أبي زرع وما ابن أبي زرعٍ! مضجعه كمَسَلِّ شَطْبةٍ، ويُشبِعُه ذراع الجَفرة.
كأن الابن هذا من زوجة أخرى والله أعلم, وقولها: (مضجعه كمسل شطبة): أي أن مكان نومه كمساحة مسل الشطبة, وهو ما ينزع من القضبان الدقاق من جريد النخل, كَنَّت بذلك عن خفته ونحالة جسمه مع عضلات مفتولة, وقولها: (ويشبعه ذراع الجَفرة): أي أنه يشبع من الأكل القليل كذراع أنثى الماعز الصغيرة.
قالت: بنت أبي زرعٍ، وما بنت أبي زرعٍ! طَوع أبيها وطوع أمها، ومِلء كسائها، وغيظ جارتها.
فوصفتها بأنها مطيعة لوالديها, ممتلئة اللحم حتى تملأ ثيابها, ومحببة إلى زوجها فتغتاظ منها زوجاته الأخريات.
قالت: جارية أبي زرعٍ، وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تُنَقِّثُ مِيرتنا تَنقِيثَاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.
فوصفتها بأنها أمينة, تكتم ما يحدث في البيت فلا تنشره بين الناس, وهي جارية مدبرة للطعام لا تبذر فيه, وحريصة على نظافة البيت فلا يشبه عش الطير.
قالت: خرج أبو زرعٍ، والأوطاب تَمخص، (أي في وقت كثرة اللبن, والأوطاب سقاء اللبن), فلقي امرأة معها ولدان كالفَهِدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحتُ بعده رجلاً سَرِيَّاً، (أي شريفًا), ركب شَرِيَّاً (أي فرساً سريعًا)، وأخذ خَطِيَّاً (هو الرمح)، وأراح علي نَعَماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحةٍ زوجاً! (أي أعطاها مالاً وفيراً), وقال: كلي أم زرعٍ وميِري أهلك (أي أطعميهم).
قالت: فلو جمعتُ كل شيءٍ أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
فكأن هذه المرأة لا تنقم على زوجها الثاني شيئاً, إلا أن محبة الزوج الأول قد تمكنت من قلبها, فأين حالها من حال كثير من المطلقات التي لا تبقي مجلساً إلا وتنال فيه من طليقها.
قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ) وجاء في بعض الروايات: (إلا أن أبا زرع طَلَّق، وأنا لا أُطلِق).
فتأمل هذا الأدب النبوي من نبي الله صلى الله عليه وسلم, وحسن استماعه, وتفاعله مع القصة الطويلة, وأدبه الجم, صلى الله عليه وسلم.
فاللهم اجمعنا معه في دار كرامتك, وألحقنا به يا رب العالمين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
حديث أم زرع 16-6-1437.docx
حديث أم زرع 16-6-1437.docx
محمد مرسى
هذا الحديث من أعقد وأغرب الأحاديث في كتب السنة، وقد شرحه ما يقارب عشرة من العلماء، كل شرح في مجلد، وأعظم من شرحه القاضي عياض، قاضي المغرب وعالمها، وابن حجر شرحه فيما يقارب ثلاثين صفحة وهو حديث عجيب، فيه أكثر من خمس وعشرين فائدة
وهوحديث ألفاظه قوية جزلة، وقد كانت عائشة رضي الله عنها من أفصح الناس، ولها خطبة في الدفاع عن أبيها أبي بكر الصديق في غاية الروعة، شرحها أبو بكر ابن الأنباري في جزء مفرد، فـعائشة رضي الله عنها تحكي هذه الحكاية الطويلة والرسول عليه الصلاة والسلام الموصول بالله عز وجل، والذي يحمل أعباء الدين كله، جالس يسمع ويعطي أذنه لها، ثم يعقب على هذا الحديث بأن يختار أفضل رجل ضرب به المثل في هذا الحديث، فيقول لها: (كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع ) .وهذا المجلس الذي حكته عائشة مجلس نميمة، وهذا هو الغالب على مجالس النساء.الا ما رحم ربي وعصم
خبرالمرأة الأولى
بدأت القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول: (زوجي لحم جمل غث)، الغث: هو الرديء، تشبهه بأنه لحم جمل رديء، ومعلوم أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال، وهذا اللحم مع أنه لحم غير مرغوب فيه، فهو غث أيضاً، أي: لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم قعود صغير لقبلناه على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء أصلاً.
تقول: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر)، قليل من لحم جمل على قمة عالية، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم غث؟ فهي تقول: (على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى)، أي: ليس جبلاً سهل المرتقى، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه.
وهي تريد بهذا أن تقول : إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر، فأخلاقه سيئة جداً لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً.
وهناك بعض الناس هكذا، إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك، فأخلاقه وعرة كوعورة الجبل، فهي تصف زوجها بهذا.
خبرالمرأةالثانية
وقالت المرأة الثانية: (زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره).
تقول: أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره، ومع ذلك فقد تكلمت! وفي الرواية الأخرى: (زوجي لا أثير خبره، إني أخاف ألا أذره)، يقول العلماء: إن (لا) هنا زائدة، والمعنى: إني أخاف أن أذره، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره.
وأصل العجر هو: انتفاخ العروق في الرقبة، والبجر: انتفاخ السرة، فكأنها قالت: له عيوب ظاهرة وباطنة، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو انتفاخ العروق، وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة، فكأنها تصف هذا الرجل أن عيوبه الظاهرة ظاهرة وجلية ومعروفة غير مستترة، وله عيوب خفية لا تعرفها إلا المرأة، وكنت عنها بالبجر، الذي هو انتفاخ السرة.
ومنه قول علي رضي الله عنه في يوم الجمل: (إلى الله أشكو عجري وبجري)، وهذه المرأة أيضاً تذم زوجها.
ثم قالت المرأة الثالثة: (زوجي العشنق)، العشنق: هو الطويل المغفل الذي بلا منفعة، والعلماء يقولون: إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة، وفيه تباعد ما بين الدماغ والقلب، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل بلا قلب، أو قلب بلا عقل، تقول: (زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق)، فلا حيلة لها معه، وفي الرواية الأخرى: (وأنا معه على حد السنان المذلق)، أي: تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم، ولا لتسكت، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها، لكن هي تحبه، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها، فهي تسكت على سوء خلقه، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة.
ولسائل أن يسأل فيقول: إذاً ما هي الميزة في المعيشة مع هذا الرجل؟
والجواب أن نقول: إن المرأة تحسب ألف حساب لطلاقها، فلو عاشت للأكل والشرب فقط لكان هذا عندها ميزة، فالمرأة تصبر على هذه الحياة المرة لأجل أن تعيش في كنف الرجل. وقد وجدت كثيراً من المشاكل من هذا القبيل، فقد كان أن بعض النساء يرسلن رقعاً مكتوبة، ويتكلمن مشافهة عن الكرب الذي تعيش فيه في بيت أبيها، وتريد أن تتزوج بأي إنسان؛ لأنه إذا كان هناك كرب على أي محور، فكرب تأكل وتشرب معه أفضل من الكرب مع الضيق، فهي مسألة موازنة، فالمرأة لم تطلب الطلاق من زوجها بالرغم من هذا الرفض لشأن هذا الرجل؛ بسبب أنها تحتاج إليه، والله عز وجل قد فطر المرأة على الاستئناس بالرجل، ويقولون في المثل: ظل رجل ولا ظل حائط. وفي خبر هذه المرأة وصلنا إلى الحد الأدنى، وليس هناك أدنى من ذلك، فهذه المرأة تقول: إن زوجها طويل وليس فيه منفعة، ومع هذا الطول المفرط فهو سيء الخلق، لا تستطيع أن تشتكي منه، وإذا سكتت فإن النتيجة أنه يعلقها فيدعها لا هي متزوجة ولا هي مطلقة.
خبرالمرأةالرابعة
أما المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً، وهي أول امرأة تصف زوجها بخير، تقول: (زوجي كليل تهامة)، ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء .. (زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة)، أي: لطيف المعشر، وحسن العشرة، (لا حر): أخلاقه ليست شديدة، (ولا قُر): أي: ليس بارداً، (ولا مخافة ولا سآمة)، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار، فتتكلم معه ولا تسكت.
عن عائشة قالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية ، ففي يوم من الأيام أرسلت صفيةرضي الله عنها إناء فيه طعام إلى بيت عائشة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ومعه ضيوف، فأخذت عائشة الإناء وكسرته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابة: غارت أمكم، ثم أخذ إناءها وأرسله إلى صفية ، وقال: طعام بطعام وإناء بإناء)، فانتهت المشكلة، وحُلت بابتسام، وهكذا إذا عز أخوك فهُن، فإذا كانت المرأة متعصبة ومتصلبة فهُن، ولا يأخذ الرجل العناد والأنفة ويبادر بالطلاق، فيصرح به في وقت، ويكني في وقت آخر، كما لو كان الطلاق سيسحب منه، فيريد أن يستخدمه قبل أن يسحب منه.
وأردأ الرجال هو الرجل الذي لا تشعر المرأة بالأنس معه، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس لأزواجه ويستمع شكايتهن، ويحل المواقف العصيبة جداً بكل راحة واطمئنان، ولو تعلمنا من النبي عليه الصلاة والسلام صفة الزوج الصالح لانتهت مشاكل البيوت.
ألمرأة أسيرة عند زوجها
لابد أن يعلم الزوج أن المرأة أسيرة عنده، وهذا الوصف وصفها به النبي عليه الصلاة والسلام عندما أوصى بالنساء في آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، فقد قال: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم)، عوان: يعني أسيرات، فحتى لو أن المرأة فرت منك فإنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك إلا إذا أعطيتها الإفراج، وإلا فستظل في سجنك مدة طويلة، وبعض المذاهب كالأحناف يقولون: تظل في سجنك مدى الحياة، والمالكية يقولون: القاضي يطلق إذا ثبت الضرر، لكن على أي حال هي في السجن، فعندما تكون المرأة مسجونة وأنت السجان، فلابد أن تقدر هذه العلاقة، وأن المرأة في النهاية لا تستطيع أن ترغم أنفك على شيء، فكن معها حليماً، وحاول أن تحل أصعب المواقف بالابتسامة وبالكلمة الطيبة.
المرأة تحب الأمان عندزوجها
فهذه المرأة تقول: (زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر).. أي: ليس ناراً على زيت حار، كلما يتكلم يتطاير الشر من عينيه، (ولاقر) أي: بارد ليس عنده إحساس أبداً، وقلما يتحرك، فهو لا هكذا ولا هكذا.. (ولا مخافة): أي: لا تخاف أنها تقول أي شيء بحضرته؛ لأنه يعذرها دائماً، كما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يفعلن، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـعائشة: (إني لأعرف غضبك من رضاك) مع أن رضاها أو سخطها لا يضره؛ بل رضاه وسخطه هو الذي يضرها أو ينفعها يقول: ( إني لأعلم إن كنت عني راضية أو علي غضبى، فقالت: وكيف تعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم)، مع ان المعنى واحد.
ومثل هذا فعل ابن عمر، فقد كان له جارة عجوز، فكان يقول لها: (خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام)، فتبكي، مع أن خالق الكرام واللئام واحد وهو الله عز وجل.
فـعائشة رضي الله عنها تعترف وتقول: (نعم والله ما أهجر إلا اسمك)، فتعترف وهي آمنة، طالما أنها لم تأت معصية لله عز وجل، فهي آمنة، حتى لو ساء خلقها مثلاً على زوجها، والمرأة تحب هذا الطراز من الرجال الذي تعيش آمنة في كنفه.
خبرالمرأة الخامسة
وقالت الخامسة: (زوجي إذا دخل فهِد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد). اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح؟ لكن الظاهر أنه خرج مخرج المدح، فقولها: (زوجي إذا دخل فهد) يقولون: من طبع الفهد -وهو الحيوان المعروف- أنه كثير النوم، فهي تصفه بالغفلة، والرجل الذي يزيد ذكاؤه عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة، رجل متعب جداً، فلا بد من شيء من التغافل.
قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: (الفطن المتغافل). يعني: الذي يتجاهل بإرادته، وليس لازماً أن يُعرفها أنه يعرف، ولكنه يتجاهل بإرادته؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل.
من أخلاق الزوج الجيد المداراة
فلابد للرجل -وإن كان سيداً مطاعاً أو ملكاً متوجاً- أن يداري رعيته.. والمداراة من خلق المسلم الحاذق، وكم من مشاكل تحصل في البيوت بسبب أن الرجل لا يداري! مع أنه يمكن أن تمر هذه المشاكل بسلام لو أن الرجل تغافل قليلاً، وقد أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا التغافل فقال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته ظل على عوجه، فاقبلوهن على عوج).
أي: أن المرأة فيها عوج، والمطلوب من الرجل أن يميل مع هذا العوج ولا يظل مستقيماً دائماً، وهذا معناه أن الرجل ينزل من مكان الرجولة إلى مستوى المرأة، والرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من مشى على الأرض بقدميه، وأعبد من عبد لله عز وجل، ما نقص من هذه المكانة العظيمة شيئاً لما قال للصحابة يوماً: (تقدموا، ثم قال لـعائشة : تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، قالت: فتركني حتى نسيت، وحملت اللحم -أي: صارت سمينة- وفي غزوة من الغزوات قال لهم: تقدموا، ثم قال لها: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: هذه بتلك)، فهذا الفعل ما نقص من قدره صلى الله عليه وسلم؛ بل زاد فيه.
فأنت إذا أردت أن ترفع مستوى المرأة حتى تصير مثلك؛ فكأنك تريد رجلاً آخر في البيت، وهذا لا يصلح؛ لأنك لا تستطيع أن تعيش مع رجل آخر، والمرأة لو كان فيها جدية وطبيعتها مثل الرجال فلن تستطيع أن تعيش معها أبداً، فاللازم أنك تكون على مستوى المرأة، وتنزل من مكان الرجل إلى مستوى المرأة، وهذا النزول اسمه: المداراة، فمثلاً: رجل من طبع امرأته أنها لا تكاد ترضى، بل دائماً تصفه بأنه لا يفهم، ولا يعرف شيئاً، والناس كلهم يخدعونه، فذهب واشترى حذاء مثلاً، والبائع أكرمه فعلاً. فتسأله: بكم اشتريته؟ فيقول: بأربعين جنيهاً، فتقول: لقد خدعك.. لو كنت أنا الذي أشتريه لاشتريته بعشرين جنيهاً فقط، فتكدر على الرجل هذه الهدية، بدلاً من أن تقول له: الله يبارك فيك، الله يحفظك، الله يوسع عليك، ونحن دائماً نتعبك .. مع أنها لن تخسر شيئاً إذا قالت هذا الكلام.
والرجل إذا ذهب واشترى شيئاً وهو يعلم أن امرأته ستظل تقول له: لقد خدعوك، فإنه يتخلص ويقول لها: هذا هدية، وينهي الأمر بدلاً من أن يكدر حاله، فإذا كنت تعرف أن هذا الخلق موجود في المرأة، فلا داعي لأن تكدر الحياة؛ بل لا بد من المداراة؛ إذ هي خلق المسلم الحاذق، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يداري، وقد علمنا ذلك.
أما دليل المداراة: فهو حديث في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما دخل الرجل، ألا الرسول عليه الصلاة والسلام له الكلام، واستقبله استقبالاً حافلاً، وأخذ الرجل حاجته ومضى، وعائشة رضي الله عنها ترى وتسمع الموقف، فقد قال له أولاً: (بئس أخو العشيرة)، وهذا ذم له، والآن يلين له الكلام، ويفرش له العباءة، فقالت: (يا رسول الله! قلت ما قلت وفعلت ما فعلت!) فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتقى لفحشه)، أي: الذي تحترمه لأنه قليل الأدب، وتحترمه لأن لسانه شديد، فهذا شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة. فهذا الحديث أصل في المداراة، وهناك فرق واضح جداً بينها وبين النفاق.
فهذه المرأة تمدح زوجها وتقول: (إذا دخل فهد)، فوصفته بالغفلة؛ لأن الفهد موصوف بالغفلة وكثرة النوم.
ثم أردفت تقول: ولا تظنوا أنه مغفل في وسط الرجال؛ بل (إذا خرج أسد) أي: كالأسد، فوصفته بأنه يتغافل عما يكون في البيت، لكنه إذا خرج فهو رجل في وسط الرجال.
قالت: (ولا يسأل عما عهد)، فلا يأتي ويقول لها: أنا أعطيتك موزاً فأين ذهبتِ به؟ مثل ما يذكرون عن بعض البخلاء أنه كان كلما يحضر لحماً كان يعد اللحم، فيأتي فيلقى اللحم ناقصاً ثلاث قطع أو أربع. فيسأل: أين باقي اللحم؟ فتقول له: أكلها القط، فيأتي بميزانه إذا خرج، فيزن اللحم، ويزن القط، وبعد ذلك يذهب لعمله ثم يأتي، فيجد ثلاث قطع قد ذهبت، فيحضر القط ويزنه فلا يجد شيئاً .. وهذا لا ينبغي؛ بل كن كريماً، فربما كانت المرأة مثلاً تعطي بعض الشيء لأهلها، أو تتصدق، أو نحو ذلك، فلا تحرجها؛ بل وسع عليها، فالمرأة هذه تقول: (ولا يسأل عما عهد). وهذا من كرمه وإغضائه، إذاً: فهذه المرأة مدحت زوجها.
خبر المرأة السادسة
وقالت السادسة: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث).
(إذا أكل لف): يلف: أي: يأكل من كل الأطباق، ولا يترك صنفاً إلا ويأكل منه، (وإذا شرب اشتف)، أي: يستمر يشرب حتى لا يبقي شيئاً، فهو نهوم، أكول، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة، فما ترك شيئاً إلا أكل منه، ويشرب بنوع من النهم، وتكون النتيجة أنه عندما ينام يلتف لوحده، هذا هو الجزاء، ولا يشكر هذه المرأة التي طعامها جميل، وشرابها جميل، لدرجة أنه يإذا اضطجع التف، فهي تشتكيه.أكل بشره، بل يكافئ المرأة بأنه
اللف في الأكل مخالف للسنة
ومسألة اللف مخالفة للسنة، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام : (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك)، والبخلاء يستغلون هذا الحديث أسوأ استغلال، فيضع الجبن أمام الضيف، ويضع الديك الرومي أمامه، ويقول: كل واحد يأكل مما يليه، هكذا السنة!
ومما يحكون في قصص البخلاء: أن رجلاً دعا آخر وذبح له ديكاً رومياً، وصنع ملوخية، والضيف عادة لا يمد يده إلى اللحم في البداية، بل تجده يأكل وبطنه تمتلئ أرزاً وخبزاً وهو يقول للديك: هيت لك! لكن يمنعه حياؤه وخجله أن تقع يده أول ما تقع على الديك، فالرجل وضع الديك الرومي أمامه، والملوخية لها اسم (الشريفة) فقال له: كل من (الشريفة)، والضيف يريد أن يمد يده إلى اللحم، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فكاد الضيف أن يشبع، فمدَّ يده إلى الديك، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فقال له: اتركني مع قليل الأصل!
فينبغي ألا تحوج الضيف إلى أن يمد يده، وهذا أدب نعلمه لربات البيوت، أدب تنظيم المائدة، وتنظيم الأكل، حتى لا تحوج الضيف إلى أن يمد يده؛ بل يوضع من كل الأصناف أمام كل الضيوف، حتى لا يحتاج أحد إلى أن يمد يده، فهذا أدب من آداب وضع الطعام.
أهمية التخفيف عن المرأة بالكلمة الطيبة
هذه المرأة تقول: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث)، عإيلاج الكف: أن يولج الرجل يده على امرأته ويربت على كتفها، والمرأة تحتاج بعد عناء اليوم الطويل إلى هذه الكلمة الطيبة، فهي طوال يومها في المطبخ، وتطعم الأولاد، وتنظف البيت، فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، كأن يقول لها: لقد تعبتِ اليوم، جزاك الله خيراً، ويتكلم بهذا الكلام، واعلم أنك عندما تقول هذه الكلمات، لو أن المرأة نقلت جبلاً من مكان إلى مكان؛ فإنه يزول عنها الهم، ويزول عنها التعب. فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، وأنت كلما تدخل وتقول لها: جزاك الله خيراً، أنت تتعبين لأجلنا، وأنت أيضاً تتعب لأجلها، وهذه حقيقة معروفة، لكن أنت إذا اعترفت بجميلها اترفت بجميلك، فأنت تؤدبها، وتعينها على أن تقدم لك الشكر.
فتقول: (لا يولج الكف) على عادة الأزواج المحبين، (ليعلم البث)، البث: قد يكون الحزن، وقد يكون الحب، كأنها تقول: هو لا يولج كفه إيلاج الرجل الحنون حتى يعلم شكواي؛ بل يعلم أنني أشتكي ومع ذلك كأنه في عالم آخر، غير منتبه لأي شيء. وإذا حملنا البث على الحب، صار المعنى: أنه لا يولج الكف حتى أبثه النجوى، وحتى أحادثه.
خبر المرأة السابعة
وقالت السابعة -وهذه ما تركت شيئاً في الرجل-: (زوجي عيايا غيايا طباقا)، (عيايا): من العي، (غيايا ): من الغي، وهو الضلال البعيد، (طباقا): مقفل لا يتفاهم، (كل داء له داء): كل عيوب الدنيا فيه، كل داء تجده فيه.
(شجك) يجرح وجهها، (أو فلك) يكسر عظمها، (أو جمع كلاً لك)، أي: إما يشج رأسها فقط، وإما يكسر عظمها فقط، وإما يكسر عظمها ويشج رأسها، فهذا الرجل عنيد جداً.
الاعتدال في ضرب النساء
إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح، والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقاً في كتاب الله في قوله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضرباً شديداً وأن يكون ضرباً خفيفاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح)، أي: غير شديد، فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم؛ إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح.
وانظر إلى المثل العالي الذي ذكره الله عز وجل في كتابه المجيد عن أيوب عليه السلام .. امرأته الوفية التي ظلت ثمانية عشر عاماً تخدمه وهو في شدة البلاء، صدر منها شيء، فحلف أيوب عليه السلام أنه إذا عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة، مع أنها هذه المرأة الوفية وهي لا تستحق هذا الجلد، فقال الله عز وجل: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44]، والضغث: هو مائة عود طري، مثل عود البرسيم، فيجمع مائة ويضربها بها ضربة واحدة، فيكون كأنه ضربها مائة ضربة؛ لأن هذه المرأة الوفية لا تستحق أن تجلد مائة جلدة، لكنه عليه السلام أقسم أن يضربها، وهو لا يحنث؛ بل لا بد أن يضرب، فقال الله عز وجل: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا أي: مائة عود فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].
فالضرب المطلق في كتاب الله عز وجل قيده النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، لما قال: (واضربوهن ضرباً غير مبرح).
فهذا الزوج المذكور كان إذا ضرب يشج الرأس، أو يكسر العظم، أو يشج الرأس ويكسر العظم.. (عيايا، غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك، أو فلك، أو جمع كلاً لك).
http://mamedrcolgod.blogspot.com/
خبر المرأة الثامنة
وقالت الثامنة: (زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب). وهي تمدحه (مس أرنب) أي: ناعم البشرة، ناعم الملمس، كجلد الأرنب، رفيق رقيق، (والريح ريح زرنب)، الزرنب: نبات طيب الرائحة، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة، ومن الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع..
والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـعائشة : (بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)، فأول ما يدخل البيت يستاك، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة.
وقالت التاسعة: (زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد)، وهي أيضاً تمدحه..
(رفيع العماد) أي: طويل، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق، فهذا طويل وهذا طويل، لكن شتان بين طويل وطويل، فهذا رجل رفيع العماد، طويل، ذو هيئة حسنة، (طويل النجاد)، النجاد: هو جراب السيف، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً، وهذا أمر يمتدح به.
فضل الكرم وذم البخل
(عظيم الرماد): إشارة إلى كرمه، أي: لكثرة ما يشوي للضيوف من اللحم ويطبخ لهم صار عنده رماد كثير، فهي تمدحه بالكرم، وهذه الصفة من الصفات التي كان يحرص العرب عليها كثيراً، والسخاء يغطي كل عيب، كما أن البخل لا يظهر حسنة، فالبخيل ليس له حسنة، والكريم ليس له عيب.
وهناك آيات في ذم البخل؛ كقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، وفي القراءة المتواترة الأخرى: (ويأمرون الناس بالبَخَل)، والرسول عليه الصلاة والسلام تكلم في أحاديث شتى عن ذم البخلاء، وامتلأت الكتب بالإزراء على هؤلاء البخلاء، وصارت سيرتهم على كل لسان سيئة جداً، بخلاف الكرم، فمثلاً: حاتم الطائي، يضرب به المثل في الكرم، فيقولون مثلاً: هذا كرم حاتمي، هذا حاتم الطائي، وقد رأى ابنه مرة يضرب كلبة له، فقال له: (يا بني! لا تضربها، فإن لها علي يداً، إنها تدل الضيفان عليَّ)؛ لأن الضيف إما أن يرى النار أو يسمع نباح الكلب فيأتي.
من نوادر البخلاء
وهذا بخلاف البخلاء .. يذكر أن رجلين كانا يمشيان، وكان هناك بخيل يسبح، فأشرف على الغرق، فنادى: أدركوني، فقال أحد الرجلين: هات يدك، فلم يعطها له، وكان الثاني أذكاهما، فقال له: خذ يدي، ولم يقل: هات يدك؛ لأن الإعطاء ليس مذهبه، حتى لو يؤدي به ذلك إلى الموت؛ لأنه غير معتاد على كلمة (هات) أبداً.
من أخبار الكرماء
يذكر عن رجل كريم اسمه معن بن زائدة، يضرب به المثل في الكرم، أن أحد الشعراء أراد أن يقابله، وكان معن بن زائدة في بستان، فأبى البواب على الشاعر أن يدخل، فنظر الشاعر فوجد جدول ماء يمر من تحت الجدار إلى داخل البستان، فكتب الشاعر بيت شعر ونقشه على خشبة ووضعه على الماء، فحمله الماء إلى معن بن زائدةالذي كان جالساً عند الماء، فوجد الخشبة طافية على الماء، فأخذها فقرأها، فأعجب بالبيت جداً، فطلب الرجل، فقال: أنت الذي كتبت هذا؟ قال: نعم. قال: كيف قلت؟ فأنشد له البيت، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم كان من الغد فأرسل إليه، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم أرسل إليه في اليوم الثالث فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار. وعندما أخذ الشاعر الأربعة ألف دينار الثالثة هرب، فقد ظن أن هذا الرجل مجنون، وأنه سيفيق فيأخذ المال، فهرب من البلد كلها، فأرسل إليه في اليوم الرابع، فقيل له: إنه ولى الأدبار، فقال: (والله لقد أساء الظن، أما والله لو بقي لأعطيته مالي كله مقابل هذا البيت).
فهناك أناس مطبوعون على الكرم، وعندهم سجية العطاء، لا يستريح إلا إذا أعطى، وقيمة الإنسان في العطاء وليست في الأخذ
تقول هذه المرأة: (رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد)، ومن الأدلة على كرمه: أنه (قريب البيت من الناد)، الناد: هو منتدى الجلوس، فليس بيته في آخر البلد لأجل أن يفر من الضيفان؛ بل بيته بجانب النادي، وأي أحد يقصده على مدار الوقت، ومثل هذا عندما يكون البيت أقرب بيت للمسجد، ونريد أن نشرب ماء، فأقرب بيت هو الذي نقول له: هات لنا الماء، فهو يعرض نفسه لأقرب مكان لمنتدى الناس، كأنما قيل لها: ما دليل كرمه؟ فقالت: لأنه (قريب البيت من الناد).
خبر المرأة العاشرة
وقالت العاشرة: (زوجي مالك، وما مالك!)، أي: اسمه مالك، ثم قالت: (وما مالك!) أي: هل تعرفون شيئاً عن مالك؟ (مالك خير من ذلك)، مالك خير من كل ما يخطر ببالك، وهذا مدح عالٍ، (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح)؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل؛ لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه، (له إبل كثيرات المبارك) باركة باستمرار، (قليلات المسارح) قلما يسرحها، (إذا سمعن صوت المزهر)، وهي الإبل التي في الزريبة، إذا سمعن صوت المزهر، (أيقن أنهن هوالك)، يعرفن أن إحداهن ستذبح، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل، والرجل يحيي الضيوف، ويستقبلهم بالطبل البلدي، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه سينحر؛ لأنه قد حل ضيف.
والغريب: أن بعضهم استدل على جواز العزف على الموسيقى بهذا الحديث! ونحن فعلاً في زمان العجائب! ولو أن العلماء الذين قعدوا أصول الاستنباط، نظروا إلى عصرنا؛ لماتوا بالسكتة القلبية! إذ ليس في هذا دليل؛ لأن الحكاية هذه كلها حصلت في الجاهلية ولم تحصل في الإسلام، فهؤلاء ليسوا نسوة مسلمات، بل عائشة تحكي عن إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن، فهذا كان في الجاهلية.
فليس في هذا دليل أصلاً على حل الموسيقى، إنما هذا كان من فعل هذا الرجل في الجاهلية، وهؤلاء أناس لا ندري أكانوا على التوحيد أم لا؟! وهذا الرجل كان من إكرامه لأضيافه أنه يعزف على المزهر، وهي آلة مثل العود أو نحو ذلك، فإذا سمعت الإبل صوت المزهر أيقن أنهن هوالك
خبرالمرأة الحادية عشر
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها.
قالت أم زرع: (زوجي أبو زرع فما أبو زرع!)، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع؟. وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع.
تقول: (أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي). هذا كله غزل، (أناس من حلي أذني): النوس يعني الاضطراب والحركة، ومنه الناس؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً.
ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: (دخلت على حفصة ونوساتها تنطف)، النوسات: هي الظفائر، تنطف: يعني تقطر ماء، فقد كانت مغتسلة، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها.
(أناس من حلي أذني): أي: ألبسها ذهباً في آذانها، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن.
(وملأ من شحم عضدي): بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء الأحمران: الذهب والحرير، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب، (وملأ من شحم عضدي)، تريد أن تقول: إنه كريم.. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت.
(وبجحني فبجحت إلي نفسي)، يقول لها: يا سيدة الجميع! يا جميلة! يا جوهرة! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها، (فبجحت إلى نفسي): أي: فصدقته، مع أنها قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، يعني: شق جبل، أي أنها كانت تعيش في حارة بشق، وفي بعض الروايات الأخرى (بشق): يعني كانت تعيش بشق الأنفس، فقيرة فقراً مدقعاً تقول: (وجدني في أهل غنيمة)، غنيمة: تصغير غنم، أي أن حالتهم كانت كلها كرب، حتى الغنم صار غنيمة، دلالة على حقارة المال.
قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، فنقلها نقلة عظيمة، (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق)، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى (أهل صهيل): أصحاب خيل، (وأطيط): أصحاب إبل؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة: أط أط أط، خلال مشيه، فهذا يسمى أطيطاً، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند العرب، (ودائس) أي: ما يداس، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب، فهو كناية عن أنهم أهل زرع.
(ومنق): المنق: هو المنخل، فالعرب ما كانوا يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه)، فقال عروة: (فكيف كنتم تأكلون يا خالة؟ فقالت: كنا نذريه في الهواء)، فالتبن يطير في الهواء، والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة : (مات ولم يشبع من خبز الشعير)، ليس من خبز القمح، فإن القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول: وما أكل خبزاً مرققاً).
فكلمة (منق) فيها دلالة على الترف، فعندهم من كل المال، فهم أغنياء، عندهم خيل وإبل وزرع، وعندما يأكلون عندهم منخل؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين.
(فعنده أقول فلا أقبح) تقول: مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي: قبحك الله.. فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة.
(وأرقد فأتصبح): تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام؛ إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر، وهذا كسائر نسائنا؛ لأنه بعد صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس، وتريد أن تصنع الطعام لهم، والرجل سيخرج إلى العمل، فتعمل باستمرار، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة.
(وأشرب فأتقمح): وفي رواية البخاري : (فأتقنح)، بالنون، وهناك فرق بين اللفظين، أما لفظ (فأتقمح) فإنه يقال: بعير قامح، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما (أتقنح) أي: تشرب وتأكل تغصباً، فتأكل حتى تشبع، فيقال لها: كلي، فتتغصب الزيادة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب. فقولها: فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.
وصف أم أبي زرع
ثم قالت: (أم أبي زرع فما أم أبي زرع! ) وهي عمتها، فلم تذكر عنها شيئاً من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك، بل قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع .. هل تعلمون شيئاً عنها؟ هذه السيدة الفاضلة، وهذا على القاعدة: حبيب حبيبي حبيبي، فالمرأة عندما تحب زوجها، تدين لأمه بالفضل أنها أنجبته، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان.
(عكومها رداح) الرداح: هو الواسع، يردح: أي: يطيل في الكلام، ويتوسع في المقالة، والعكوم: هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة، فمثلاً: عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير، بل تخزنه في كيس قطن، فقولها: (عكومها رداح) فيه دلالة على أن البيت كله خير، وبيتها فسيح، ومن المعروف أن اتساع البيت أحد النعم.
وصف ابن أبي زرع
ثم قالت: (ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع! ) يفهم من هذا أن أبا زرع كان متزوجاً، قبل ذلك..
(ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة)، مسل الشطبة: عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها سلخة للسكين، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف، لكن عضلاته مفتولة، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب؛ لأن هذا ينفع في الكر والفر، فهذا مدح تمدح به الولد، تقول: إنه مفتول العضلات وليس بديناً، ولا صاحب كرش عظيم؛ بل سريره كمسل شطبة، فتستدل على جسمه بسريره الذي ينام عليه، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً.
(ويشبعه جراع الجفرة): الجفرة: هي أنثى الماعز الصغيرة، فلو أكل الرجل الأمامية للشاة فإنه يشبع، مع أن هذه لا تكفي الواحد، ومع ذلك فإن هذا الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال، بخلاف النساء.
وصف بنت أبي زرع
ولما جاءت تصف بنت أبي زرع قالت: (بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع!، طوع أبيها وطوع أمها)، أي: مؤدبة،( وملء كسائها) مالئة ملابسها، وهذا مستمدح في النساء بخلاف الرجال، (وغيظ جارتها): الجارة هي الضرة، فقد كان زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر (فغيظ جارتها) أي: من جمالها، وأنها ملء كسائها، وبذلك تغيظ جارتها.
تسمية الزوجة الثانية (جارة)
وهنا تعبير لطيف عن المرأة الأخرى، فلم تقل: وغيظ ضرتها، بل لفظ الجارة لفظ أجمل، وقد كان محمد بن سيرين يقول: (إنها ليست بضرة، ولا تضر ولا تنفع)، وكان يكره أن تسمى المرأة الثانية بالضُرة، إنما يقول: جارة،
وصف جارية أم زرع
قالت: (جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع!)، والمرأة من حبها للرجل تذكر كل شيء حتى الجارية، قالت: (لا تبث حديثنا تبثيثاً)، فأي شيء يحصل في البيت لا يعرف به أحد من الخارج، فهي أمينة لا تنقل الكلام، (ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً)، أي: لا تبذر في الطعام، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى على الأرض، فهي امرأة مدبرة، تخاف على المال، (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي: البيت ليس فيه زبالة، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش وقش وحطب، فتقول: بيتنا ليس كعش الطائر، إنما هو بيت نظيف.
وفي بعض الروايات خارج الصحيحين: (وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع)، فالكلام هذا كله غزل، والغزل هنا مستحب، ولا أقول: غزل عفيف، إنما هذا غزل مستحب؛ إذ هي تتغزل في زوجها، وتعدد فضائل زوجها، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام المرأة.
قالت: (فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض)، كان الوقت ربيعاً، واللبن كثير، والناس يحلبون لبنهم، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع (، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين)، معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة، (يلعبان من تحت خصرها برمانتين)، فأعجبه هذا المنظر، فقال: هذه المرأة لابد أن أضمها إلي، فضمها إليه، لكن ما الذي حصل؟ قالت: (فطلقني ونكحها)، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة، رجل يحب التوحيد!!
الزوج الثاني بعد أبي زرع
قالت: (فنكحت بعده رجلاً ثرياً)، من ثراة الناس وأشرافهم، (ركب سرياً)، السري: نوع جيد من أنواع الخيل، كان الأغنياء يركبونه؛ لأنه كان مفخرة عندهم، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت: (وأخذ خطياً)، الخطّي: هو الرمح، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل، متعجرفاً ومهيباً.
فهي تقول: (ركب سرياً) والسري: هو الخيل النفيس، (وأخذ خطياً) أي: وضع الرمح، وإنما سمي الرمح خطاً لأن هناك بلداً في البحرين كان اسمها الخط، وكانت الرماح تأتي من الهند إلى هذه البلد في البحرين وتوزع على سائر بلاد العرب، فنسب الرمح إلى هذا البلد
وفاء أم زرع لأبي زرع
تقول: (وأراح علي نعماً ثرياً)، أي: أعطاها مالاً وفيراً، (وأعطاني من كل رائحة زوجاً)، وفي رواية: (وأعطاني من كل ذابحة -أي: ما يصلح أن يذبح- زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك)، أي: وأعطي أهلك أيضاً، فهذا الرجل ليس فيه أي عيب، إلا أن المرأة تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع). فانظر إلى هذا الوفاء! مع أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر في حقها، بل قال لها: (كلي أم زرع وميري أهلك)، أنفقي على أهلك، لكنها تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع). فما هو الفرق بين هذا الرجل وبين أبي زرع؟
الفرق: هو الحنان، والحب، هذا هو الفرق، فلم تشعر المرأة مع الرجل الثاني بهذا الحنان والحب الذي شعرت به لما كانت زوجة لـأبي زرع.
لذلك فأنت لا تستطيع أن تشتري قلب المرأة بالمال أبداً، حتى لو كان عندك من الإبرة إلى الصاروخ في البيت، وكل الناس تتطلع إليك، ولا ينقصك شيء، فإن المرأة ينقصها قلبك، وهي لا تريد شيئاً غير ذلك، بل الكلمة الطيبة هي التي يعتد بها عندها، فلو أتى الرجل لأهله بكل غال ونفيس، وبطعام جيد الكل يتمناه، ودخل وهو يتكلم بقسوة، وفتح الباب، وقال: كلوا وانفجروا عسى أن ينفع هذا فيكم! فصرف خمسمائة جنيه في اللحم والفاكهة وما إلى ذلك، ثم قال هذه الكلمات، فستذهب هذه الأموال سدى دون أن يكون لها قيمة من أجل هذه الكلمات.
إنما لو دخلت بطعام متواضع، وقلت مثلاً: والله لو استطعت أن أحضر لبن العصفور لما تأخرت، وأنتم تستحقون أكثر من هذا، لكن هذا جهد المقل، والحمد لله، أنتم صابرون علي، وربنا يعوضنا الجنة .. إذا قلت هذا الكلام ودخلت خالي اليدين كان هذا كافياً؛ لأن المرأة تريد دفء الحنان والحب، وهذا هو الفرق بين الرجل الأول والرجل الثاني
أضف إلى ذلك: أن الرجل الأول كان أول رجل في حياة المرأة، وهذا له تأثير وفرق كبير عند المرأة، فلو تزوجت رجلاً لأول مرة وأحبته، فإن حبه منقوش على الصخر، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بزواج الأبكار، فقال: (تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير).
ثم قال صلي الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها كنت لكي كأبي زرع لأم زرع لولا اني لا اطلقك صلي الله عليه وسلم
- See more at: http://mamedrcolgod.blogspot.com.eg/2014/10/blog-post_24.html#sthash.rOMENeOj.dpuf
تعديل التعليق