حج عام 1441 هـ بعدد محدود ..
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُبَيِّنُ الْمَوْلَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حَقًّا للهِ وَفَرْضًا عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ حَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ » [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ] .
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ: أَنْ جَعَلَ هَذَا الْحَجَّ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكَلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَيْضًا عَلَى عِبَادِهِ: أَنْ جَعَلَهَا لِلْمُسْتَطِيعِ مِنْهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ فِي الْحَجِّ تَكُونُ فِي الْقَادِرِ بِبَدَنِه وَمَالِهِ: فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا بِمَالِهِ عَاجِزًا بِبَدَنِهِ عَجْزًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالإِنَابَةِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» [مُتَّفَقُ عَلَيْهِ].
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ تَنَازُلُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ حَقِّهِ فِي الْحَجِّ رَحْمَةً بِمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ لِلْحَجِّ سَبِيلاً، وَقَدْ عَوَّضَهُ مِمَّا حُرِمَ مِنْهُ بِعَمَلٍ يَسْتَطِيعُهُ مِنَّةً وَفَضْلاً وَكَرَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَمَ عَبْدَهُ قَدْرًا مِنْ عِبَادَةٍ عَوَّضَهُ –شَرْعًا- بِعِبَادَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، هَذَا الْعَبْدُ يَأْخُذُ بِهَا ثَوَابَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا، بَلْ وَزِيَادَةً؛ كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَمَا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ تَخَلَّفَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لِعُذْرٍ؛ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَمِمَّا عَوَّضَهُ اللهُ تَعَالَى لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ لِلْحَجِّ مِنَ الأَعْمَالِ: أَنْ جَعَلَ مَوْسِمَ الْعَشْرِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّائِرِينَ وَالْقَاعِدِينَ؛ فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ فِي عَامٍ قَدَرَ فِي الْعَشْرِ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي بَيْتِهِ، يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلى اللَّهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ» يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ، وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ منْ ذَلِكَ بِشَيءٍ» [رَوَاهُ البخاريُّ].
وَمِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي عَوَّضَ اللهُ بِهَا مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ» فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ».
فَاتَّقُوا اللهُ -عِبَادَ اللهِ-، وَسَارِعُوا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهَذِهِ نَفَحَاتُ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا وُلُوجَ بَابٍ؛ فَقَدْ فَتَحَ اللهُ لَكُمْ أَبْوَابًا، وَعَوَّضَكُمْ بِالْخَيْرِ أَصْنَافًا.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا...
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَسْتَقْبِلُ الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ حَجَّ هَذَا الْعَامِ وَهِيَ تَعِيشُ فِي أَزْمَةِ تَفَشِّي هَذَا الْوَبَاءِ الْمُنْتَشِرِ فِي الْعَالَمِ، وَالَّذِي تَعَذَّرَ احْتِوَاءَهُ كُلِّيًّا، مِمَّا جَعَلَ هَذِهِ الدَّوْلَةَ الْمُبَارَكَةَ تُقَرِّرُ بِأَنْ يَكُونَ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِعَدَدٍ مَحْدُودٍ جِدًّا مِنْ دَاخِلِ الْمَمْلَكَةِ؛ حِفَاظًا عَلَى صِحَّةِ الْحُجَّاجِ وَسَلاَمَتِهِمْ، وَمُحَافَظَةً عَلَى هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَتَحْقِيقًا لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فِي حِفْظِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ وَقَدْ أَيَّدَ هَذَا الْقَرَارَ هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْمَمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ.
فَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِحَجِّ هَذَا الْعَامِ، فَعَلَيْهِ الْحِرْصُ التَّامُّ وَالاِلْتِزَامُ بِجَمِيعِ الاِحْتِرَازَاتِ الْوِقَائِيَّةِ، وَمَنْ لَمْ يُوَفِّقْهُ لِلْحَجِّ فَقَدْ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا بِصِدْقِ نِيَّتِهِ وَإِخْلاَصِهِ لِرَبِّهِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.
المرفقات
حج-عام-1441هـ-،-بعدد-محدود
حج-عام-1441هـ-،-بعدد-محدود
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق