حج القلوب في العشر من ذي الحجة .. أ.شريف عبدالعزيز-عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
دائماً ما كنت أتساءل: ما سر تفضيل الله عز وجل للعشر الأوائل من ذي الحجة على غيرها من أيام العام -بما في ذلك أيام رمضان المباركة-؟!
وما هي الخصوصية الكبرى لتلك الأيام الفاضلة التي جعلتها تتربع على عرش مواسم الخيرات وأزمنة البركات التي رزق المولى -جلّ وعلا- الأمة المحمدية بها؟!
ولأن حكمة التشريع سر من أسرار العليم الحكيم؛ فتارة تراها ظاهرة ماثلة للعيان، وتارة تراها خفية لا يدركها إلا أهل العلم، وتارة تكون مجهولة تماماً حتى للراسخين في العلم؛ فإن أهل العلم قد تكلموا في حكمة تفضيل العشر الأوائل من ذي الحجة، وذهبوا فيها مذاهباً شتى، ولكنها في مجملها ترجع إلى حكمة كلية رئيسية مستقاة من قوله -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ)[القصص:68]؛ فالاصطفاء والاختيار والتفضيل من أعلى خصوصيات الخالق. وهذا الكلام إنما يقودنا إلى إعادة طرح السؤال نفسه: بما تفوقت أيام العشر ونالت المكانة السامقة في الفضل والخير؟!
وحتى نحوط الحديث عن الأيام العشر من جميع جوانبه لابد أن نبحر في عباب التاريخ منذ آثار النبوة الأولى، وبناء خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- الكعبة المشرفة، وأمر الله -عز وجل- له بالتأذين في الناس بالحج، وبداية شعيرة الحج السنوية في شهر معين، ولكرم وعظم الفريضة فيه أطلق عليه العرب شهر اسم "ذي الحجة"، ومنذ أن تشرفت تلك الأيام بركن الإسلام الأعظم؛ الحج، صارت منبع الخيرات وموئل البركات وموسم النفحات، وفضلت عن سواها بأمور لا يجتمعن إلا فيها، ومنها:
1- أنها أفضل أيام العام على الإطلاق؛ فقد روى أبوداود عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
2- أنها الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره: قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الحج:28]. وقال تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[البقرة: 203]. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:" وذكر ابن عباس: أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج هي أيام العشر، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة هي أيام التشريق ".
3- أنها الأيام المتممات: قال تعالى: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف: 142]. قال المفسرون: أمر الله -عز وجل- موسى بصيام ثلاثين يوماً من شهر ذي القعدة، ثم أمره بإتمام الأربعين بالعشر الأوائل من شهر ذي الحجة. وقال الشوكاني: "هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا كَرَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَرَّفَهُ. وَالثَلَاثِينَ: هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، ضَرَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَوْعِدًا لِمُنَاجَاةِ مُوسَى وَمُكَالَمَتِهِ، قِيلَ: وَكَانَ التَّكْلِيمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْفَائِدَةُ فِي فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الثَلَاثِينَ وَالْعَشْرَ أَرْبَعُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَتْمَمْنَا الثَلَاثِينَ بِعَشْرٍ منها، فبين أن العشر غير الثلاثين، وأربعون لَيْلَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَتَمَّ حَالُ كَوْنِهِ بَالِغًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ".
4- أن الله تعالى أقسم بها: وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم، قال تعالى (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1، 2]. قال ابن كثير: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف".
من فاته المكان لم يفته الزمان
وفي مثل هذه الأيام المباركات من كل عام تتحرك قوافل الحجيج من كل حدب وصوب، ميممة وجوهها شطر البيت الحرام لأداء مناسك فريضة الحج، معلنة خضوعها لرب البرية، ملبية للنداء الخالد الذي أطلقه أبو الأنبياء الخليل ابراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج:27].
ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين فإن أفئدتهم تهوى وتخفق نحو هذه البقاع، وتشرئب أنظارها إليها، تحقيقاً لدعوة الخليل الخالدة -عليه السلام- (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[ابراهيم:37]، والتي تتحقق منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا، فنراها في الرغبة العارمة في حج بيت الله الحرام من قبل الصغار قبل الكبار.
ومن عظمة الإسلام في تشريعاته: أنه يفتح لعباده من العبادات والخير ما يعوضهم عن بعض ما يفوتهم من الخير والعبادات، والتي تتطلب قدراً من الاستطاعة المادية أو البدنية. والنصوص الشرعية في المسألة كثيرة؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: "أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ".
فمن فاته الحج في هذا العام فدونه العمل الصالح في هذه الأيام، قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيعِ الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين؛ فمن عجز عن الحج في عام، قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".
حج القلوب
الطريق إلى الله -تعالى- طريق طويل وشاق يحتاج فيه العبد لأهم من قوة البدن، وهي قوة القلب وإخلاصه ويقينه وسلامة نيته؛ فالطريق إلى الله تقطع بالقلوب لا بالأبدان، فيبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله؛ فالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في غزوة تبوك حث الصحابة على الإنفاق في سبيل الله وعلى الجهاد، فجاءه الضعفاء والفقراء من المسلمين ليحملهم معه، فاعتذر لأنه لا يجد ما يحملهم عليه؛ فماذا كان شعورهم؟ هل قالوا في أنفسهم: عملنا ما علينا، ورجعوا وهم فرحون بإعفائهم من مشقة الجهاد وكلفته، أم أن نياط قلوبهم تمزقت حزناً وألما لأنهم لا يجدون ما ينفقون؟
لقد وصف القرآن مشاعرهم بأروع الآيات والأوصاف؛ فقال عز من قائل (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)[التوبة:92]، فكان جزاء صدق نيتهم أن أشركهم في الأجر والثواب مع من غزوا وجاهدوا في سبيله؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- رجع من غزوة تبوك فدَنَا من المدينة فقال: "إنَّ بالمدينة أقوامًا ما سِرتُم مَسِيرًا ولا قطعتُم واديًا إلاَّ كانوا معكم "، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة، حبَسَهم العُذْرُ".
فمن حبسه العذر عن الذهاب إلى مكة للحج وهو صادق العزم والنية ويهفو قلبه وتشتاق نفسه للذهاب، فليعش هذا العشر المباركات كأنه أحد حجاج بيت الله، ويتمثل مشاهدهم ومشاعرهم وأخلاقهم، والأجر والثواب عند الله.
فإذا أحرم الحجيج من الميقات فليحرم قلبه عن كل ما يغضب الله -تعالى- من حقد وغل وكراهية ونفاق ورياء، وليخلع مع الحجيج ثياب المعصية والزور والبهتان، وليتزين بلباس التقوى والإيمان (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26].
وإذا طافوا حول الكعبة هناك فليعرج قلبه وروحه وهو في محراب الصلاة نحو السماوات العلا؛ لتطوف مع الملائكة الكرام حول البيت المعمور مترفعاً على الدنيا وحقارتها وسفاسف الأمور.
وإذا سعوا بين الصفا والمروة فليسع المعذور في قضاء حوائج الناس؛ فعن ابن عمر عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "أحَبُّ الناس إلى الله أنفَعُهم، وأحَبُّ الأعمال إلى الله -عزَّ وجلَّ- سرُورٌ تُدخِلُه على مُسلِم أو تَكشِف عنه كُربةً، أو تَقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُد عنه جُوعًا، ولَأَنْ أَمشِي مع أخي المُسلِم في حاجةٍ أحبُّ إلَيَّ من أنْ أعتَكِفَ في هذا المسجد شهرًا، ومَن كفَّ غضَبَه ستَرَ الله عَوْرتَه، ومَن كظَم غيظًا ولو شاءَ أنْ يُمضِيه أمضاه مَلَأَ الله قلبَه رضًا يوم القيامة، ومَن مشَى مع أخيه المسلم في حاجَتِه حتى يُثبتها له أثبَت الله -تعالى- قدَمَه يوم تزلُّ الأقدام، وإنَّ سوء الخلق ليُفسِد العملَ كما يُفسِد الخل العسل".
وإذا كانوا يُقبِّلونَ الحجر الأسود فليقَبِّل يدي أبيه وأمه وليبرهما؛ فهما باب الجنة، وإذا كانوا يشربون ويغتسلون من زمزم فليغسل وجهه وليطهر قلبه بدموع التوبة والندم على ما أسلف من الذنوب والمعاصي.
وحين يقف الحجيج بعرفات خاشعين متذللين ضاحين باكين؛ فليدخل مسجده وليرفع أكف الضراعة يناجي ربه، وليخر ساجداً لوجهه الكريم سجدة ذل وانكسار، وليعلن فاقته وفقره وضعفه وندمه بين يدي العزيز الغفور؛ طالباً فكاك رقبته في اليوم الذي يعتق فيه الله -عز وجل- أكثر مما يعتق في سائر العام.
وحين يتزاحم الحجيج لرمي الجمرات؛ فليعلن حرباً على الشيطان، وليطرد وساوسه بالاستعانة بالله والاستعاذة به، وليقطع علائق الشيطان بالتوبة وترك مواطن الشبهة والشهوة.
وإذا قدَّموا الهدي قدّم هو الأُضحِيَة طيبة بها نفسه؛ ليعتق به نفسه وليتحلل بها من أوزاره ومعاصيه؛ طالباً القربى بتلك القربة.
أعمال العشر و أعمال الحج
وغير حج القلوب والنفوس إلى كعبة السماء وعرش الرحمان، فإن أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة بها من الخيرات والبركات والاشتراك في الأجر والمثوبة، مثل ما يقع من أعمال الحجيج في موسم الخير، نذكر منها على وجه الخصوص ثلاثة في مقدور الجميع -عدا المرضي المعذورين- أداؤها، وهي:
1- الصوم
فإذا كان الحجيج يطلبون من ربهم أن يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، فيعودوا إلى رحالهم كيوم ولدتهم أمهاتهم؛ فإن في أعمال العشر ما ينوب عن ذلك، وعلى رأس تلك الأعمال الصيام، وخاصة صوم يوم عرفة؛ فقد روى أبو قتادة عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "صِيامُ يوم عرفة أحتَسِب على الله أنْ يُكفِّر السَّنة التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه، وصيام يوم عاشوراء أحتَسِب على الله أنْ يُكفِّر السنة التي قبلَه"(رواه مسلم).
وأكثر ما يعتق من الرقاب يوم عرفة، وإلى هذا أشار النبي -صلَّى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف؛ قالت عائشة -رضِي الله عنها-: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يومٍ أكثر من أنْ يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنَّه لَيَدنُو ثم يُباهِى بهم الملائكةَ فيقول: ما أرادَ هؤلاء؟"(رواه مسلم).
فالحجيج يُكفِّر الله -عز وجل- عنهم ذنوبهم يوم عرفة، وغيرهم من الصائمين الطائعين يُكفِّر الله -عز وجل- ذنوبهم وهم في بلادهم على بعد مئات أو آلاف الأميال من مكة، وهذا من نعمة الله -عزَّ وجلَّ- على المسلمين جميعاً.
2- الدعاء:
من دأب الناس في أيام الحج سؤالهم الحجيج بالدعاء لهم على عرفة وعند الجمرات وعند الملتزم وفي أيام الموسم كلها، حتى أصبح الأمر سنة ماضية بين الناس، ولمن حبسه العذر سبيل للترقي في الدعاء، وذلك في بصورة عامة في كل ليلة، وبصورة خاصة في يوم عرفة؛ فعن أبى هُرَيرة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "يَنزِل الله إلى السَّماء الدُّنيا كلَّ ليلةٍ حين يمضى ثلث الليل الأوَّل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، مَن ذا الذي يَدعُوني فأستَجِيب له؟ مَن ذا الذي يسألني فأُعطِيَه؟ مَن ذا الذي يستَغفِرني فأغفِرَ له؟ فلا يَزال كذلك حتى يُضيء الفجرُ "، وفي روايةٍ لمسلم: "إذا مَضَى شطرُ اللَّيل أو ثُلثاه يَنزِل الله -تبارَك وتعالَى- إلى السَّماء الدُّنيا فيَقول: هل من سائلٍ يُعطَى؟ هل مِن داع يُستَجاب له؟ هل من مُستَغفِر يُغفَر له؟ حتى ينفَجِر الصبح ".
ماذا يريدُ الإنسان أكثر من ذلك؟! الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتودَّد إليك ويُرِيدك أنْ تسأَلَه حاجتَك، فهلمّ بحاجاتك كلها يا عبد الله ضعها بين يدي الكريم الذي لا يضام سائله.
كما أن يوم عرفة يوم يرجى إجابة الدعاء فيه؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " رواه الترمذي وحسنه الألباني، فعلى المسلم أن يتفرغ للذكر والدعاء والاستغفار في هذا اليوم العظيم، وليدع لنفسه ولِوالديْه ولأهله وللمسلمين أجمعين بما يحب ويرجو.
3- الذكر:
من مقاصد الحج الذكر، ويتضح ذلك من قول الله -تبارك وتعالى-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحج:28]، وقوله -عز وجل-:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[البقرة:198]، وقوله (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)[البقرة:200]، وقوله (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[البقرة:203].
وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر -رضِي الله عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "ما من أيَّامٍ أعظَم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيَّام العشر، فأكثِرُوا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد".
فهلمَّ عباد الله إلى حج القلوب وإحرام النفوس والتمتع بأعظم مواسم الخير، مشاركة الحجيج الأجر والثواب والمنزلة والمشاعر، هلمَّ إلى الحياة الربانية في هذا العشر المباركات والارتقاء في ملكوت العبودية لنيل منتهى رجاء الموحدين؛ صحبة سيد المرسلين في أعلى جنات النعيم.