حتى يُصدرَ الرعاءُ

علي بن عقيل السهيمي
1438/07/08 - 2017/04/05 21:42PM
حتى يُصدرَ الرعاءُ
الحمد لله الذي خلق فسوى ، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، خلق الخلق فأكمل، وقضى الأمر فأحكم، فمن أذعن كان من النار أسلم، ومن طغى وبغى فلنفسه كان أظلم، أحمد ربي وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأستعينه على نيل الرضا، وأستمد لطفه فيما قضى، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النسـاء
خُلِقت مبرئـاً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
أما بعد:
أتاه يركضُ ليُخبِرَهُ بنبأٍ قد عمّ، وبخبرٍ قد طمّ، الملأُ قد اجتمعوا، فتمالؤوا واتفقوا، على إباحةِ دمِهِ، وإطاحةِ رأسِهِ، أتاهُ ساعيًا، بقدميه راكضًا، وإليه راجيًا، يا موسى إني لك ناصحٌ، وإليك بائحٌ، أن تخرجَ من هذه الأرضَ، وتنجوَ من ذلك الفضَّ.
فخرج موسى فزعًا، خائفًا مترقبًا، قالَ اللهُ تعالى في حالِهِ وشأنِهِ، ((فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) سورة القصص.
توجَّهَ موسى عليهِ السلامُ، من مصرَ إلى مدين، فارًّا من فرعونَ ومَلَإِه، وقد كان يتلفَّتُ في ذهابه خوفًا من القوم، فوصلَ إلى مدينَ، ووجد ماءً أمامَه، واستوقفه منظرٌ عَجِبَ منه، رعاءَ الشاءِ متزاحمين على بئرٍ أمامهم، يسقون أغنامَهُم، وعلى ناحِيَةٍ أخرى، امرأتين تذودان أغنامهما، بعُسرٍ ومشقةٍ، غنمةٌ تخرجُ من هنا، وأخرى من هناك، فيُمسِكان بها لئلّا تُزاحم الرجال، تذودان تُكفكفان، تمنعان أغنامهما عن ورود الماءِ، كُلُّ ذلك حتى لا تختلطَ أغنامُهُما بأغنامِ الرجال، فيزاحمان الرجال، العفّةُ والحياءُ قد كملا في تلكَ المرأتين، عَجِبَ موسى عليه السلامُ من ذلكَ الموقفِ، فما ملكَ نفسَهُ، ذهب إليهما، فسألهما قائلًا: ما خطبُكُما، قالتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لا نَسقي أغنامنا، حتى يفرغَ القومُ، وإن كُنّا في حاجةٍ لذلك، فمُحالٌ أن نختلطَ بالرجالِ، ومُحالٌ أن نخرمَ حياءنا، ومُحالٌ أن نُزاحمَهم، فما كان من موسى عليه السلام، إلّا أنْ ساندَهما، فسقى لهما، ثم ذهبَ موسى عليه السلام لظِلِّ شجرةٍ، فدعا ربه ((ربِّ إنّي لما أنزلت إليَّ من خَيرٍ فقير))، ربِّ نعمُك عليّ كثيرة، وفضلُك واسعٌ عميم، إلّا أنّني فقيرٌ إليك، محتاجٌ إليك، فأكرمني بمزيدِ فضلك، وكرمِ عطائك، فإنما أنا عبدٌ من عبيدك، أستمطرُ رحمتَك وفضلَك ورزقَك.
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيـع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فمكثَ موسى عليهِ السلامُ، تحتَ ظلّ الشجرةِ يناجي ربه، إذ أتته إحدى المرأتين، قال الله تعالى عنها، واصفًا حالها، ((فجاءته إحداهما تمشي على استحياء..)) تمشي والحياءُ يخالطُها، يصاحبُها، ليست صخّابةً جريئةً، بل من رآها علمَ عفّتها، وعلمَ حياءها، مِن مِشيتِها، لم تُخرجْ زينتَها، ولم تضربْ برجلِها، ولم تُقارعِ الرجلَ في قِوَامتِه، ولم تنازعِ الرجلَ مكانتَه، فخاطبتْ موسى عليه السلام، خطابًا واضحًا جليًا، خطابًا لا رعونةَ فيه، ولا لين قولٍ وتزلفٍ، قالت (إن أبي يدعوك) ، الذي جعلني آتيك، هو دعوةُ أبي لك، فلستُ أنا من دعاك، ولا من طلبَ خطابَك، ثم ذكرتْ سببَ الدعوةِ، فقالت (ليجزيك أجرَ ما سقيتَ لنا)، إنه خطابٌ واضحٌ، حتى لا يميل القلبُ أيّ ميلٍ خاطئ، إنّها تُخاطب أطهر رجلٍ، ولكنّ باب الفتنةِ إذا كُسر، لا يعرف الأطهر من الأبعد، فلذلك كان الحرصُ واجبًا.
فقام موسى عليه السلام، ليقولَ للمرأةِ، سأتقدَّمُكِ، وكوني من ورائي، فإن كان الطريق في الميمنة أو المشأمة، فاقذفي بحجرٍ تجاه الطريق الصحيح، فتقدم موسى عليه السلام، وتأخرتِ المرأةُ خلفه، لتقذفَ بالحجرِ تجاه الطريقِ الصحيحِ، وهكذا وصلَ موسى عليه السلام عند أبي المرأتين.
وصلَ موسى عليه السلام لبُغيتِه، وأكمل مسيرتَه، وبلَّغَ رسالةَ ربِّه، إلّا أنّ اللهَ تعالى، خلّدَ ذكْرَ المرأتين في كتابِه، لكمالِ عِفَّتِهِما، ولكمالِ حيائهما، فذكر اللهُ امتناعَهُما عن مُخالطَةِ الرجالِ، وحياءَ المرأةِ المُرسَلةِ في مِشيتِها، وعفةَ المرأةِ في السؤال، وطُهرَ موسى عليه السلامُ في التعاملِ مع النساءِ، لتكونَ القصةُ منهاجًا لنا، ولنسائنا، في العفةِ والطُهرِ والحياءِ.
لا تعجبَنَّ أخي المبارك، من أنّ الطاهرَ والطاهرةَ قدْ يُطردون، ومن مكانِهِم يُهَجّرون، وبالعارِ يوصمون، فيصبحُ الطهرُ تُهمةً يُقذف بها العفيفُ والعفيفةُ، لا تعجَبَنَّ من ذلك، فلقد طُردَ لوطٌ عليه السلامُ وبناتُه من القرية، وهجِّروا، وأوذوا، وقال كبيرهم (أخرجوهم، أخرجوهم من قريتكم) ما العلّة ( إنّهم أُناسٌ يتطهرون) ، وذلك حينما تنتكسُ الفطرَ، وتنقلبُ الموازين.
قال الله تعالى ((ولما ورد ماء مدين....)).







الحمد لله حمدا حمدًا، والشكر له شكرا شكرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
إن أعظمَ ما قامتْ بهِ الشريعةُ، أنْ حررتِ المرأةَ من رقِّ الجاهليةِ إلى حريةِ الإسلامِ، فحررتْها من الوأدِ والعضلِ، وحررتْها من القهرِ والطردِ، وجعلتِ القوامةَ في الرجلِ ليصونَها ويقومَ على شؤونِها، فبذلك فُضّلَ لا بغيرها، فإمّا أنْ تَتَحررَ المرأةُ، لتُعبّدَ قلبَها للهِ تعالى، وتُذعنَ لشرعِهِ، وتُسلِّمَ لأمرِهِ، وإمّا أن تُعبّدَ قلبَها لشهواتِها، وهواها، فلا تسْأَلَنّ حينَها كيف يكونُ الحالُ، وما هو المآل.
قَلِّب طرفَكَ يمنةً ويسرةً، وانظرْ من حولك، وفي القرى المجاورةِ، وانظرْ لتلكَ المرأةِ التي قد خلعتْ حجابَها، وتسنَّمتْ أمرَها بنفسِها، وزاحمتِ الرجالَ في كلِّ مكان، انظُر لحالـِها، وما هو أسمى أمانِيها، لتعلمَ أنَّ اللهَ تعالى ذو الحكمةِ العظيمةِ في شرعِه وأمرِه، خلقَ الخلقَ، فعلِمَ ما يكونُ لهُم صالحًا، ولأمرِهِم نافعًا، فأمَرَهُم بذلك، وجلّى الحكمةَ في بعض أمرِه، وجَعَلَ في الأخرى الحكمةَ خافية، ليمتحنَ العبادَ بالتسليمِ، والإذعانِ.
إنّ الخسرانَ أيها الأحبةُ كُلّ الخسرانِ، من يشتري الفاني بالباقي، فيُعبّدَ قلبَه لهواهُ ولشيطانِه، ويتركَ عبادةَ ربِّه، بمسمى الحريّة، فيضيقَ صدرُه، ويضلَّ قلبُه، قال تعالى(ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء..) وإنّ الفلاحَ كُلَّ الفلاحِ، منِ اشترى الباقي بالفاني، وعبّدَ قلبَه لله، فإنّ ذلكَ هو الحرية الحقّة، قال تعالى (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه..) فجعل اللهُ ذلكَ انشراحًا للقلبِ، ونورًا للعبدِ.
اللهم اجعلنا ممن سلّم أمرهُ لك، وعبّدَ قلبَه لك، فاجعلنا لك عُبَّادًا لكَ ذُكَّارًا لَكَ خاضعين لَكَ مخبتين، لَكَ طَائِعِين مُنْقَادِين، يا أكرمَ الأكرمين.
المرفقات

حتى يُصدر الرعاء.docx

حتى يُصدر الرعاء.docx

المشاهدات 779 | التعليقات 0