حب الوطن انتماء و نماء .موافقة للتعميم
عبد الله بن علي الطريف
حب الوطن انتماء ونماء 1444/2/27هـ
أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى. واعلموا أن حب الوطني جبلة تغرس بالنفوس الحية ولا تنافي ديناً ولا مكانه؛ فهذا رسول الله ﷺ تروي عَنْه أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وسَاقَتْ نبأ مَبْعَثِهِ إِلى أَنْ قَالتْ: فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ؛ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (وفي روايةٍ: أُوذيَ) وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. رواه البخاري. قال في فتح الباري، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ ﷺ سَمِعَ قَوْلَ وَرَقَةَ أَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ انْزِعَاجٌ لِذَلِكَ فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْإِخْرَاجَ تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ لِحُبِّ الوَطَنِ وَإِلْفِهِ فَقَالَ «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ.؟» قَالَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَوِ التَّفَجُّعِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطَنَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَرَمُ اللَّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ الْآبَاءِ مِنْ عَهْدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. اهـ. وتحقَّقَ بهجرتِه ﷺ ما أخبرَه به وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قبلَ سِنينَ، وَهَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ مُخَاطِباً مَكَةَ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» رواه النسائي وابن حبان والترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ وصححه الألباني والأرنؤوط.
نعم أيها الإخوة: فحبُ الأوطانِ متأصلٌ في فطرةِ كل حي من البشر، بل وحتى الحيوانات تحنُّ إلى مساكنِها ويروى في ذلك من القصص ما يثير العجب.. وخُروجَ الأجسادِ من الأوطانِ، يعادلُ خُروجَ الأرواحِ من الأبدانِ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66]. في هذه الآية يساوي الحق تبارك وتعالى بين الأمر بقتل النفس والأمر بالإخراج من الديار، فالقتل خروج الروح من الجسد بقوة قسرية غير الموت الطبيعي، والإخراج من الديار هو الترحيل القسري بقوة قسرية خارج الأرض التي يعيش فيها الإنسان، إذاً فعملية القتل قرينة لعملية الإخراج من الديار فساعة قتل الإنسان مؤلمة، وساعة إخراجه من وطنه مؤلمة، وكلاهما شاق على الانسان غاية المشقة.
أيها الإخوة الوطن: هو الأرض التي يتخذها الإنسان سكناً له فينشأ لذلك في نفسه تعلقٌ وإلف لها.. وحب الأرض التي يستوطنها الإنسان، والحنين إليها والانعطاف نحوها، أمر مركوز في فطر النفوس، ومأمور به في الإسلام.. فالوطن مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف..
على أرضه يحيا الإنسان ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وبه يُعْرَف، وكرامتُه من كرامتِه، وعزتُه من عزتِه، وعنه يُدافع.. والوطن نعمة من الله، وحبه طبيعة طَبَعَ اللهُ النفوسَ عليها.
ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد ﷺ عندما ألجأته قريشٌ للخروج من مكة قال الله تعالى عن ذلك: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا) [التوبة:40]، وكما حدث لموسى عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) [القصص:29]، قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي: " قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إلَى وَطَنِهِ، فَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ. ومدحَ سُبحانَه المهاجرينَ بتضحيتِهم وتركِهم لأوطانِهم في سبيلِ اللهِ تعالى فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8] قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَهْلِينَ وَالْأَوْطَانَ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ. وقد وصفهم الله تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتُوجِبُ الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً.. ومما قال الشيخ السعدي عن هذه الآية: ذكر الله تعالى أن المهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، رغبة في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله ﷺ، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة، ومنها ترك الأوطان بالهجرة.. أ هـ ملخصا
أيها الإخوة: وجَعل للهُ أحدَ دوافع الجهاد في سبيل الله الإخراجُ من الدِّيار [وهي الأوطان] نسبها للمؤمنين الذي أُخرجوا من وطنهم لشدة ارتباطهم وتعلّقهم به حِسّاً ومعنى فقال: (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) [البقرة:246] أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعل بلادنا وبلاد المسلمين بلاد خير وطاعة وبركة إنه جواد كريم. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
أيُّها الأحبَّةُ: كيف يكون حب الوطن والانتماء إليه.؟ حب الوطن ليس كلاماً يلقى ولا شعاراً أو صوراً ترفع ولا مقالاً يدبجُ بالمديح والثناء عليه.. بل هو مرتبطٌ بسلوك الفرد المحب ارتباطًا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حِلِّهِ وترحاله، في المنزل والشارع، في مقر عمله وفي سهول الوطن وحزونه ووديانه.
حب الوطن: يكون بصدق الانتماء له قولاً وفعلاً وترسيخ هذا الانتماء بما يعزز اللحمة الوطنية..
حب الوطن: بالاستقامة على الدين الصحيح والحفاظ على القيم التي رضيها الله ورسوله وأخذ بها ولاة أمرنا وجعلوها دستوراً لهذا الوطن ومنهج حياة..
حب الوطن: بسلوك الصراط المستقيم والتحلي بالوسطية وعدم الغلو في الدين أو التفريط فيه أو المجاهرة بالمعصية..
حب الوطن: يكون بالحرص على جمع الكلمة ونبذ أسباب الفرقة والخلاف، والعصبية، والتصنيف، والمناطقية..
حب الوطن: يكون بالطاعة لولاة أمره واحترامهم وإنزالهم منازلهم والالتفاف حولهم والمحافظة على مكتسبات الوطن..
حب الوطن: يكون باحترام أنظمته والالتزام بها وعدم مخالفتها سراً وعلنا، وتقديم الاقتراحات التي من شأنها صلاح البلاد والعباد..
حب الوطن: يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسئولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، وتحقيق العدل بين الناس ونشر الخير والقيام بمصالح العباد كلٌ حسب مسئوليته وموقعه..
حب الوطن: يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، وعدم هدرها والشكر لله عليها..
حب الوطن: بحماية بيئته والحفاظ على مرافقه والاستفادة منها بالطرق السليمة، وبالمحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله..
حب الوطن: بالاجتهاد بالعمل وبذل الوسع في الأداء والاجتهاد في التعليم والتعلم..
حب الوطن: بإشاعة المحبة وبذل السلام والابتسامة والتفاؤل والإيجابية، وباحترام الغريب وإكرامه وعدم بخسه حقه، وبنشر القيم والأخلاق الفاضلة..
حب الوطن بالالتزام بأنظمة السير وحسن القيادة وترك الفوضى، وفي المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه وعدم نشر الإشاعات المغرضة..
حب الوطن: ببناء الأسرة الصالحة، وببذل المعروف وصلة الرحم، وعدم التقاطع والتباغض والتدابر ونشر الأمن والرحمة بالضعفاء من الأيتام والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم..
حب الوطن: ببذل الزكاة والصدقات وإقامة الصلاة وعدم المجاهرة بالمعصيةِ والمفَاخَرة بها أمامَ العِبادِ..
حب الوطن لو ذهبت أعدد مظاهره لطال بي المقام ولما استوعبت المرام.. لكنها إشارات عابرة؛ لأن حب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته.. ويكون بصلاح الباطن والظاهر وصدق المراقبة لله.
وبعد: إننا نعيشُ في وطنٍ قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ والنعم الوفيرة، يحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ ﷺ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ.. أمنٌ وأمانٌ، واجتماع كلمة، وتحكيمٌ للشريعةِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ بشكر الله عليها.. فاللهم لك الحمد والشكر وصلوا على نبيكم...