حبُ النبي صلى الله عليه وسلم (تصلح بمناسبة الاحتفال بالمولد)
أحمد بن عبدالله الحزيمي
1438/03/08 - 2016/12/07 04:24AM
خطبةُ محبةِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.( تصلح للمولد)
الحمدُ للهِ الذي خصنَا بخيرِ رسلهِ، وأنزلَ علينَا أكرمَ كتبهِ، وشرعَ لنَا أكملَ شرائعهِ، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، لا أحصي ثناءً عليهِ، أكملَ لنَا الدينَ، وأتمَّ علينَا النعمةَ، فقالَ جلَّ منْ قائلٍ كريمٍ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا }[المائدة:3]، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ- صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ.
أما بعدُ فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى. فالتقوى هيَ وصيةُ اللهِ لجميعِ خلقهِ. ووصيةُ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لأمتهِ، قال تعالى: } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا }[النساء:131].
عبادَ اللهِ: كانَ ثوبانُ مولى رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- شديدَ الحبِّ لهُ، قليلَ الصبرِ عنهُ، فأتاهُ ذاتَ يومٍ وقدْ تغيرَ لونهُ، ونحلَ جسمهُ، يُعرفُ في وجههِ الحزنُ، فقالَ لهُ النبيُّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: مَا غيرَ لونكَ؟! قالَ: يا رسولَ اللهِ، ما بي ضرٌّ ولا وجعٌ غيرَ أني إذا لمْ أركَ اشتقتُ إليكَ واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاكَ، ثمَّ ذكرتُ الآخرةَ وأخافُ أنْ لا أراكَ هناكَ، لأني عرفتُ أنكَ ترفعُ معَ النبيينَ، وأني إنْ دخلتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ هيَ أدنى منْ منزلتكَ، وإنْ لمْ أدخلْ لا أراكَ أبدًا، فأنزلَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- قولهُ:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا }[النساء:69]
عبادَ اللهِ: منْ رحمةِ اللهِ بنا أنْ بعثَ فينا محمدًا- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وأمرنا بالإيمانِ بهِ وتصديقهِ، واتباعهِ، والاقتداءِ بهِ، والانتصارِ لهُ، ومحبتهِ، وتقديمهِ على النفسِ والمالِ والولدِ؛ فعلى يديهِ كملَ الدينُ، وبهِ ختمتِ الرسالاتُ، وأرسلَ إليهِ أفضلَ الشرائعِ، وأنزلَ إليهِ أفضلَ الكتبِ, فهوَ خليلُ اللهِ، وهوَ كليمُ اللهِ، وهوَ صفيهُ، وهوَ رسولهُ، وهوَ حبيبهُ.
وقدِ امتنَّ اللهُ بهِ على الثقلينِ؛ الإنسِ والجنِّ، وأرسلهُ إليهما معًا، ففتحَ اللهُ بهِ أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وأخرجَ بهِ الناسَ منَ الضلالةِ إلى الهدى.
إنهُ محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بلغَ الرسالةَ أحسنَ بلاغٍ، وأدى الأمانةَ أحسنَ أداءٍ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ.
محمدٌ بنُ عبدِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: أعزُّ الناسِ نسبًا، وأشرفهمْ مكانةً، أظهرَ اللهُ على يديهِ منَ المعجزاتِ ما أبهرَ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمتِ الحيواناتُ بحضرتهِ، وسبحَ الطعامُ وتكاثرَ بينَ يديهِ، وسلمَ عليهِ الحجرُ والشجرُ، وأخبرَ بالمغيباتِ، فما زالتْ تتحققُ في حياتهِ وبعدَ وفاتهِ.
إنهُ محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي اختصهُ اللهُ منْ بينِ إخوانهِ المرسلينَ بخصائصَ تفوقُ العدَّ، فلهُ الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ ولواءُ الحمدِ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أولُ منْ تنشقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ، وأولُ منْ يفتحُ لهُ بابُ الجنةِ، وهوَ أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ، وهوَ سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي زكاهُ ربهُ تزكيةً ما عُرفتْ لأحدٍ غيرهُ منَ المخلوقينَ، فلقدْ زكى اللهُ عقلهُ فقالَ: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }[النجم:2]، وزكى لسانهُ فقالَ: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }[النجم:3]، وزكى شرعهُ فقالَ: { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[النجم:4]، وزكى قلبهُ فقالَ: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [النجم:11]، وزكى بصرهُ فقالَ: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }[النجم:17]، وزكى أصحابهُ فقالَ: { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }[الفتح:29].
وزكى أخلاقهُ فقالَ: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم:4]، وزكى دعوتهُ فقالَ: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[يوسف:108] ..
نعتهُ بالرسالةِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، وناداهُ بالنبوةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وشرفهُ بالعبوديةِ فقالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، وشهدَ لهُ بالقيامِ بها فقالَ: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا }[الجن:19]
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي لا تحصَى فضائلهُ، ولا تعدُّ مزاياهُ، فما منْ صفةِ كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا خصلةِ خيرٍ إلا وتحلى بها. جمعَ اللهُ له أجلَّ المقاماتِ، وأسمى المراتبِ، وأكملَ المناقبِ، إذا ذُكرَ العبادُ فهوَ إمامهمْ، وإذا أشيرَ إلى العلماءِ فهوَ معلمهمْ، وإذا أشيدَ بالشجعانِ فهوَ قائدهمْ، وإذا مُدحَ الدعاةُ فهوَ قدوتهمْ، بلغَ في الدنيا يومَ المعراجِ مبلغًا ما بلغهُ مخلوقٌ غيرهُ، وخصّهُ اللهُ بالمقامِ المحمودِ يومَ القيامةِ الذي تحمدهُ عليهِ كلُّ الخلائقِ، وأعطاهُ الوسيلةَ في الجنةِ، وهيَ منزلةٌ لا تنبغي إلا لهُ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أرسلهُ اللهُ شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنهِ وسراجًا منيرًا، شرحَ اللهُ لهُ صدرهُ، ووضعَ عنهُ وزرهَ، ورفعَ لهُ ذكرهُ وأعلى في العالمينَ قدرهُ، ما رآهُ أحدٌ إلا هابهُ، ولا عاشرهُ أحدٌ إلا أحبّهُ حبًّا جمًّا، صاحبُ الوجهِ الوضاءِ، والطهرِ والصفاءِ، دائمُ الابتسامةِ، مليحُ الوجهِ، أكحلُ العينينِ، كالقمرِ ليلةَ البدرِ استنارةً وضِياءً، أشدُّ حياءً منَ العذراءِ.
يقولُ أنسٌ- رضيَ اللهُ عنهُ-: «مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري.
كانَ يُعرفُ بريحِ الطيبِ إذا أقبلَ، أحسنُ الناسِ خَلقًا وخُلقًا، وأتقاهمْ للهِ وأخشاهمْ وأكرمُهمْ، أعظمُ الناسِ تواضعًا، يُخالطُ الفقيرَ والمسكينَ، ويمشي معهمْ، وينطلقُ معَ الجاريةِ الصغيرةِ تأخذُ بيدهِ حيثُ شاءتْ، ولا يتميزُ عنْ أصحابهِ بمظهرٍ، يزورُ كبيرهمْ ويسلّمُ على صبيانهمْ، يأتي ضعفاءهمْ ويعودُ مرضاهمْ، ويشهدُ جنائزهمْ، يجلسُ على الأرضِ ويأكلُ عليها، يعقِلُ الشاةَ ويحلبهَا، يخصفُ نعلهُ ويخيطُ ثوبهُ ويخدمُ أهلهُ.
يبيتُ اللياليَ طاويًا بلا عشاءٍ، يعصبُ الحجرَ والحجرينِ على بطنهِ منْ شدةِ الجوعِ، يقبلُ الهديةَ ولا يأخذُ الصدقةَ، أشجعُ الناسِ، وأرحمُ الناسِ، وصدقَ اللهُ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]
وأجملُ منكَ لمْ ترَ قطُّ عيني وأفضلُ منكَ لمْ تلدِ النساءُ
خُلِقتَ مبرّأً منْ كلِّ عيبٍ كأنّكَ قدْ خُلِقتَ كما تَشاءُ
فَمَا أعظمهُ منْ رجلٍ! وما أجلهُ منْ نبيٍّ! وما أعزَّهُ منْ رسولٍ! صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
حُقَّ لنا معشرَ المسلمينَ الفخرُ بهذا النبيِّ الكريمِ ومباهاةُ الأممِ بهِ.
عبادَ اللهِ: لنْ يَكْتملَ الإيمانُ الحقيقيُّ في قلوبنا، ولنْ نذوقَ حلاوتهُ، ونُحسُّ بالراحةِ النفسيةِ الحقيقيةِ والطمأنينةِ؛ حتى نحبَّ النبيَّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- حبًّا أكثرَ منْ أنفسنا وأهلِينا وأموالنا وكلِّ الدنيا، فعنْ أبي هريرةَ- رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ رسولَ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رزاه البخاري
فهذا الحديثُ منْ أوضحِ الأدلةِ على وجوبِ محبةِ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-؛ لأنَّ المؤمنَ لا يستحقُّ اسمَ الإيمانِ الكاملِ، ولا يدخلُ في عدادِ الناجينَ؛ حتى يكونَ الرسولُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أحبَّ إليهِ منْ والدهِ وولدهِ والناسِ أجمعينَ.
ومنْ لوازمهِ أنْ تكونَ أوامرُ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ونواهيهِ مقدمةً على كلِّ الأوامرِ والنواهي في جميعِ ما جاءَ بهِ منَ المكارمِ والمحاسنِ والفضائلِ، في العسرِ واليسرِ، ووقتِ الضرِّ والشكرِ، وعلى صعوبةِ الأمرِ وسهولتهِ، ومحنتهِ ونعمتهِ، وعلى جوعنا وشبعنا، وبلائنا ورخائنا، ومنشطنا ومكرهنا، وحالِ سعتنا وضيقنا، أوْ حالِ غضبنا ورضانا، أوْ حالِ حزننا وفرحنا، يجبُ أنْ نقدمَ محبةَ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- في جميعِ هذهِ المواقفِ.
أحبهُ أصحابهُ- رضيَ اللهُ عنهمْ- حبًّا ما سمعَ التاريخُ بمثلهِ. سئلَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ- رضيَ اللهُ عنهُ- كيفَ كانَ حبكمْ لرسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فقالَ: (كانَ واللهِ أحبَّ إلينا منْ أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومنَ الماءِ الباردِ على الظمإِ).
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- رحمهُ اللهُ-: وأما السببُ في وجوبِ محبتهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيمهِ أكثرَ منْ أيِّ شخصٍ؛ فلأنَّ أعظمَ الخيرِ في الدنيا والآخرة لا يحصلُ لنا إلا على يدِ النبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإيمانِ بهِ واتباعهِ، وذلكَ أنهُ لا نجاةَ لأحدٍ منْ عذابِ اللهِ، ولا وصولَ لهُ إلى رحمةِ اللهِ إلا بواسطةِ الرسولِ؛ بالإيمانِ بهِ ومحبتهِ وموالاتهِ واتباعهِ.) اهـ
وإنَّ منْ مقتضياتِ هذا الحبِّ- أيضًا- أنْ يكثرَ المسلمُ منْ ذكرهِ والصلاةِ والسلامِ عليهِ، وأنْ يتمنى رؤيتهُ، والشوقَ إلى لقائهِ، وسؤالَ اللهِ اللحاقَ بهِ على الإيمانِ، وأنْ يجمعَ بينهُ وبينَ حبيبهِ في مستقرِّ رحمتهِ، وقدْ أخبرَ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بأنهُ سيوجدُ في هذهِ الأمةِ منْ يودُّ رؤيتهُ بكلِّ ما يملكونَ، فأخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عنْ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ »
أسألُ اللهَ- سبحانهُ وتعالى- أنْ يعظمَ محبةَ رسولهِ في قلوبنا، وأنْ يجعلَ محبةَ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أعظمَ عندنا منْ محبةِ أنفسنا وأهلنا، وآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وبناتنا، وأنْ يجعلَ محبةَ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- طمأنينةَ قلوبنا، وانشراحَ صدورنا، وأنْ يجعلَ محبتهُ عونًا لنا على طاعةِ اللهِ- عزَّ وجلَّ- وحُسنِ الصلةِ بهِ؛ إنهُ- سبحانهُ وتعالى- ولِيُّ ذلكَ والقادرُ عليهِ.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ محبتهُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- منَ الإيمانِ، وجعلَ سُنتهِ طريقًا لدخولِ الجنانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أمرَ بمحبةِ النبيِّ العدنانِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ خيرَ مَنْ صلى وصامَ- صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الكرامِ.
أما بعدُ:
أيها المسلمونَ:
إنَّ البرهانَ الصادقَ لمحـبةِ النبيِّ- صلى اللهُ عليهِ وسـلمَ- هوَ تعظـيمهُ وإجـلالهُ وطاعتهُ، وكذا تعظيمُ ما جـاءَ بهِ منَ الشـريعةِ الحـنيفيةِ السمحةِ منْ غيرِ غلوٍ ولا جفاءٍ، كما فهمها سلفُ هذهِ الأمةِ وطبقوها في واقعِ حـياتهمْ.
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[آل عمران:31]
أيها المسلمونَ، بعضُ الناسِ يدعي محبةَ النبيِّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وإذا نظرتَ في أقوالهِ وأعمالهِ رأيتهُ مخالفًا لشريعتهِ وهديهِ، والمسلمُ حقًا صلتُهُ بمحمدٍ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-صلةٌ على الدوامِ وفي كلِّ الأحوالِ، فهوَ في وضوئهِ وصلاتهِ وفي صومهِ وحجهِ وزكاتهِ وكلِّ معاملاتهِ، في أكلهِ وشربهِ ونومهِ ويقظتهِ، وفي كلِّ أخلاقهِ وسلوكهِ وتصرفاتهِ، مقتدٍ بالحبيبِ-صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
إنَّ محبةَ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ليستْ مجردَ كلماتٍ ومدائحَ تُلقى منْ فترةٍ لأخرى، أوْ في إحياءِ ليلةٍ من الليالي منْ كلِّ عامٍ، تقرأُ فيها الأورادُ، وتنشدُ فيها المدائحُ النـبـويــةُ والأورادُ الصوفيةُ، وتقامُ فيها الحفلاتُ والرقصاتُ.
بلْ هيَ عملٌ واستقامةٌ واقتداءٌ، وبذلٌ وتضحيةٌ لهذا الدينِ؛ وهيَ- كذلكَ- محبةٌ وشوقٌ وحنينٌ، وحبٌّ لهذا الرسولِ الكريمِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وتقتضي هذهِ المحبةُ طاعتهُ وتعظـيمهُ، والتحـاكمُ إلى شريعتهِ، وإتباعِ هديهِ وسـنتهِ، وتوقـيرهِ، والدفاعِ عنه، ونصرتهِ حـيًا وميتًا، والثـناءِ عليهِ بما هوَ أهلهُ.
إنَّ محمدًا- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لا يريدُ بنا أنْ نحتفلَ بمولدهِ بلْ يريدنا أنْ نتبعَ سنتهُ.
إنَّ محبتهُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- تعني طاعتهُ وليسَ كما يظنهُ البعضُ بالاحتفالِ بمولدهِ.
يا صاحبَ الحوضِ كمْ للناسِ منْ أملٍ
في وردهِ يومَ تَسقي منهُ كلَّ ظمِي
لواءكَ الحمدُ يومَ الدينِ ترفعهُ
يمناكَ يا سعدَ منْ تلقاهُ بالدعمِ
أنتَ الشفيعُ لنا في يومِ شدتنا
تقومُ وحدكَ كلُّ الرسْلٍ لمْ تقمِ
يقولُ كلُّ نبيِّ منْ تهيبهِ نفسي
فتسجدُ للرحمنِ منْ أمَمِ
تقولُ أنتَ لها يدعوكَ خالقنا اشفعْ
تشفعْ هنا للخلقِ كلهمِ
أنتَ الشفيعُ الذي ترجى شفاعتهُ
يومَ الزحامِ منَ الأهوالِ والنقمِ
أنتَ الكريمُ الذي عمتْ مكارمهُ
كلُّ الخلائقِ منْ عربٍ ومنْ عجمِ
ثمَّ اعلموا- يا عبادَ اللهِ- أنَّ منْ علاماتِ حبهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: كثرةُ الصلاةِ والسلامِ عليهِ في كلِّ وقتٍ و إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
، ففي ذلكَ الراحةُ والطمأنينةُ والأجرُ والثوابُ، وهوَ دليلٌ على هذا الحبِّ.
فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على نبينا محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عنْ خلفائهِ الراشدينَ، وآلِ بيتهِ الطاهرينَ وعنْ الصحابةِ أجمعينَ، وعنِ التابعينَ، ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنا معهمْ بمنكَ ورحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
الحمدُ للهِ الذي خصنَا بخيرِ رسلهِ، وأنزلَ علينَا أكرمَ كتبهِ، وشرعَ لنَا أكملَ شرائعهِ، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، لا أحصي ثناءً عليهِ، أكملَ لنَا الدينَ، وأتمَّ علينَا النعمةَ، فقالَ جلَّ منْ قائلٍ كريمٍ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا }[المائدة:3]، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ- صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ.
أما بعدُ فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى. فالتقوى هيَ وصيةُ اللهِ لجميعِ خلقهِ. ووصيةُ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لأمتهِ، قال تعالى: } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا }[النساء:131].
عبادَ اللهِ: كانَ ثوبانُ مولى رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- شديدَ الحبِّ لهُ، قليلَ الصبرِ عنهُ، فأتاهُ ذاتَ يومٍ وقدْ تغيرَ لونهُ، ونحلَ جسمهُ، يُعرفُ في وجههِ الحزنُ، فقالَ لهُ النبيُّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: مَا غيرَ لونكَ؟! قالَ: يا رسولَ اللهِ، ما بي ضرٌّ ولا وجعٌ غيرَ أني إذا لمْ أركَ اشتقتُ إليكَ واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاكَ، ثمَّ ذكرتُ الآخرةَ وأخافُ أنْ لا أراكَ هناكَ، لأني عرفتُ أنكَ ترفعُ معَ النبيينَ، وأني إنْ دخلتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ هيَ أدنى منْ منزلتكَ، وإنْ لمْ أدخلْ لا أراكَ أبدًا، فأنزلَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- قولهُ:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا }[النساء:69]
عبادَ اللهِ: منْ رحمةِ اللهِ بنا أنْ بعثَ فينا محمدًا- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وأمرنا بالإيمانِ بهِ وتصديقهِ، واتباعهِ، والاقتداءِ بهِ، والانتصارِ لهُ، ومحبتهِ، وتقديمهِ على النفسِ والمالِ والولدِ؛ فعلى يديهِ كملَ الدينُ، وبهِ ختمتِ الرسالاتُ، وأرسلَ إليهِ أفضلَ الشرائعِ، وأنزلَ إليهِ أفضلَ الكتبِ, فهوَ خليلُ اللهِ، وهوَ كليمُ اللهِ، وهوَ صفيهُ، وهوَ رسولهُ، وهوَ حبيبهُ.
وقدِ امتنَّ اللهُ بهِ على الثقلينِ؛ الإنسِ والجنِّ، وأرسلهُ إليهما معًا، ففتحَ اللهُ بهِ أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وأخرجَ بهِ الناسَ منَ الضلالةِ إلى الهدى.
إنهُ محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بلغَ الرسالةَ أحسنَ بلاغٍ، وأدى الأمانةَ أحسنَ أداءٍ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ.
محمدٌ بنُ عبدِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: أعزُّ الناسِ نسبًا، وأشرفهمْ مكانةً، أظهرَ اللهُ على يديهِ منَ المعجزاتِ ما أبهرَ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمتِ الحيواناتُ بحضرتهِ، وسبحَ الطعامُ وتكاثرَ بينَ يديهِ، وسلمَ عليهِ الحجرُ والشجرُ، وأخبرَ بالمغيباتِ، فما زالتْ تتحققُ في حياتهِ وبعدَ وفاتهِ.
إنهُ محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي اختصهُ اللهُ منْ بينِ إخوانهِ المرسلينَ بخصائصَ تفوقُ العدَّ، فلهُ الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ ولواءُ الحمدِ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أولُ منْ تنشقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ، وأولُ منْ يفتحُ لهُ بابُ الجنةِ، وهوَ أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ، وهوَ سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي زكاهُ ربهُ تزكيةً ما عُرفتْ لأحدٍ غيرهُ منَ المخلوقينَ، فلقدْ زكى اللهُ عقلهُ فقالَ: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }[النجم:2]، وزكى لسانهُ فقالَ: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }[النجم:3]، وزكى شرعهُ فقالَ: { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[النجم:4]، وزكى قلبهُ فقالَ: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [النجم:11]، وزكى بصرهُ فقالَ: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }[النجم:17]، وزكى أصحابهُ فقالَ: { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }[الفتح:29].
وزكى أخلاقهُ فقالَ: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم:4]، وزكى دعوتهُ فقالَ: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[يوسف:108] ..
نعتهُ بالرسالةِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، وناداهُ بالنبوةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وشرفهُ بالعبوديةِ فقالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، وشهدَ لهُ بالقيامِ بها فقالَ: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا }[الجن:19]
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي لا تحصَى فضائلهُ، ولا تعدُّ مزاياهُ، فما منْ صفةِ كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا خصلةِ خيرٍ إلا وتحلى بها. جمعَ اللهُ له أجلَّ المقاماتِ، وأسمى المراتبِ، وأكملَ المناقبِ، إذا ذُكرَ العبادُ فهوَ إمامهمْ، وإذا أشيرَ إلى العلماءِ فهوَ معلمهمْ، وإذا أشيدَ بالشجعانِ فهوَ قائدهمْ، وإذا مُدحَ الدعاةُ فهوَ قدوتهمْ، بلغَ في الدنيا يومَ المعراجِ مبلغًا ما بلغهُ مخلوقٌ غيرهُ، وخصّهُ اللهُ بالمقامِ المحمودِ يومَ القيامةِ الذي تحمدهُ عليهِ كلُّ الخلائقِ، وأعطاهُ الوسيلةَ في الجنةِ، وهيَ منزلةٌ لا تنبغي إلا لهُ.
محمدٌ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أرسلهُ اللهُ شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنهِ وسراجًا منيرًا، شرحَ اللهُ لهُ صدرهُ، ووضعَ عنهُ وزرهَ، ورفعَ لهُ ذكرهُ وأعلى في العالمينَ قدرهُ، ما رآهُ أحدٌ إلا هابهُ، ولا عاشرهُ أحدٌ إلا أحبّهُ حبًّا جمًّا، صاحبُ الوجهِ الوضاءِ، والطهرِ والصفاءِ، دائمُ الابتسامةِ، مليحُ الوجهِ، أكحلُ العينينِ، كالقمرِ ليلةَ البدرِ استنارةً وضِياءً، أشدُّ حياءً منَ العذراءِ.
يقولُ أنسٌ- رضيَ اللهُ عنهُ-: «مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري.
كانَ يُعرفُ بريحِ الطيبِ إذا أقبلَ، أحسنُ الناسِ خَلقًا وخُلقًا، وأتقاهمْ للهِ وأخشاهمْ وأكرمُهمْ، أعظمُ الناسِ تواضعًا، يُخالطُ الفقيرَ والمسكينَ، ويمشي معهمْ، وينطلقُ معَ الجاريةِ الصغيرةِ تأخذُ بيدهِ حيثُ شاءتْ، ولا يتميزُ عنْ أصحابهِ بمظهرٍ، يزورُ كبيرهمْ ويسلّمُ على صبيانهمْ، يأتي ضعفاءهمْ ويعودُ مرضاهمْ، ويشهدُ جنائزهمْ، يجلسُ على الأرضِ ويأكلُ عليها، يعقِلُ الشاةَ ويحلبهَا، يخصفُ نعلهُ ويخيطُ ثوبهُ ويخدمُ أهلهُ.
يبيتُ اللياليَ طاويًا بلا عشاءٍ، يعصبُ الحجرَ والحجرينِ على بطنهِ منْ شدةِ الجوعِ، يقبلُ الهديةَ ولا يأخذُ الصدقةَ، أشجعُ الناسِ، وأرحمُ الناسِ، وصدقَ اللهُ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]
وأجملُ منكَ لمْ ترَ قطُّ عيني وأفضلُ منكَ لمْ تلدِ النساءُ
خُلِقتَ مبرّأً منْ كلِّ عيبٍ كأنّكَ قدْ خُلِقتَ كما تَشاءُ
فَمَا أعظمهُ منْ رجلٍ! وما أجلهُ منْ نبيٍّ! وما أعزَّهُ منْ رسولٍ! صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
حُقَّ لنا معشرَ المسلمينَ الفخرُ بهذا النبيِّ الكريمِ ومباهاةُ الأممِ بهِ.
عبادَ اللهِ: لنْ يَكْتملَ الإيمانُ الحقيقيُّ في قلوبنا، ولنْ نذوقَ حلاوتهُ، ونُحسُّ بالراحةِ النفسيةِ الحقيقيةِ والطمأنينةِ؛ حتى نحبَّ النبيَّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- حبًّا أكثرَ منْ أنفسنا وأهلِينا وأموالنا وكلِّ الدنيا، فعنْ أبي هريرةَ- رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ رسولَ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رزاه البخاري
فهذا الحديثُ منْ أوضحِ الأدلةِ على وجوبِ محبةِ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-؛ لأنَّ المؤمنَ لا يستحقُّ اسمَ الإيمانِ الكاملِ، ولا يدخلُ في عدادِ الناجينَ؛ حتى يكونَ الرسولُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أحبَّ إليهِ منْ والدهِ وولدهِ والناسِ أجمعينَ.
ومنْ لوازمهِ أنْ تكونَ أوامرُ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ونواهيهِ مقدمةً على كلِّ الأوامرِ والنواهي في جميعِ ما جاءَ بهِ منَ المكارمِ والمحاسنِ والفضائلِ، في العسرِ واليسرِ، ووقتِ الضرِّ والشكرِ، وعلى صعوبةِ الأمرِ وسهولتهِ، ومحنتهِ ونعمتهِ، وعلى جوعنا وشبعنا، وبلائنا ورخائنا، ومنشطنا ومكرهنا، وحالِ سعتنا وضيقنا، أوْ حالِ غضبنا ورضانا، أوْ حالِ حزننا وفرحنا، يجبُ أنْ نقدمَ محبةَ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- في جميعِ هذهِ المواقفِ.
أحبهُ أصحابهُ- رضيَ اللهُ عنهمْ- حبًّا ما سمعَ التاريخُ بمثلهِ. سئلَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ- رضيَ اللهُ عنهُ- كيفَ كانَ حبكمْ لرسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فقالَ: (كانَ واللهِ أحبَّ إلينا منْ أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومنَ الماءِ الباردِ على الظمإِ).
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- رحمهُ اللهُ-: وأما السببُ في وجوبِ محبتهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيمهِ أكثرَ منْ أيِّ شخصٍ؛ فلأنَّ أعظمَ الخيرِ في الدنيا والآخرة لا يحصلُ لنا إلا على يدِ النبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإيمانِ بهِ واتباعهِ، وذلكَ أنهُ لا نجاةَ لأحدٍ منْ عذابِ اللهِ، ولا وصولَ لهُ إلى رحمةِ اللهِ إلا بواسطةِ الرسولِ؛ بالإيمانِ بهِ ومحبتهِ وموالاتهِ واتباعهِ.) اهـ
وإنَّ منْ مقتضياتِ هذا الحبِّ- أيضًا- أنْ يكثرَ المسلمُ منْ ذكرهِ والصلاةِ والسلامِ عليهِ، وأنْ يتمنى رؤيتهُ، والشوقَ إلى لقائهِ، وسؤالَ اللهِ اللحاقَ بهِ على الإيمانِ، وأنْ يجمعَ بينهُ وبينَ حبيبهِ في مستقرِّ رحمتهِ، وقدْ أخبرَ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بأنهُ سيوجدُ في هذهِ الأمةِ منْ يودُّ رؤيتهُ بكلِّ ما يملكونَ، فأخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عنْ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ »
أسألُ اللهَ- سبحانهُ وتعالى- أنْ يعظمَ محبةَ رسولهِ في قلوبنا، وأنْ يجعلَ محبةَ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أعظمَ عندنا منْ محبةِ أنفسنا وأهلنا، وآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وبناتنا، وأنْ يجعلَ محبةَ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- طمأنينةَ قلوبنا، وانشراحَ صدورنا، وأنْ يجعلَ محبتهُ عونًا لنا على طاعةِ اللهِ- عزَّ وجلَّ- وحُسنِ الصلةِ بهِ؛ إنهُ- سبحانهُ وتعالى- ولِيُّ ذلكَ والقادرُ عليهِ.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ محبتهُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- منَ الإيمانِ، وجعلَ سُنتهِ طريقًا لدخولِ الجنانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أمرَ بمحبةِ النبيِّ العدنانِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ خيرَ مَنْ صلى وصامَ- صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الكرامِ.
أما بعدُ:
أيها المسلمونَ:
إنَّ البرهانَ الصادقَ لمحـبةِ النبيِّ- صلى اللهُ عليهِ وسـلمَ- هوَ تعظـيمهُ وإجـلالهُ وطاعتهُ، وكذا تعظيمُ ما جـاءَ بهِ منَ الشـريعةِ الحـنيفيةِ السمحةِ منْ غيرِ غلوٍ ولا جفاءٍ، كما فهمها سلفُ هذهِ الأمةِ وطبقوها في واقعِ حـياتهمْ.
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[آل عمران:31]
أيها المسلمونَ، بعضُ الناسِ يدعي محبةَ النبيِّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وإذا نظرتَ في أقوالهِ وأعمالهِ رأيتهُ مخالفًا لشريعتهِ وهديهِ، والمسلمُ حقًا صلتُهُ بمحمدٍ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-صلةٌ على الدوامِ وفي كلِّ الأحوالِ، فهوَ في وضوئهِ وصلاتهِ وفي صومهِ وحجهِ وزكاتهِ وكلِّ معاملاتهِ، في أكلهِ وشربهِ ونومهِ ويقظتهِ، وفي كلِّ أخلاقهِ وسلوكهِ وتصرفاتهِ، مقتدٍ بالحبيبِ-صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
إنَّ محبةَ الرسولِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ليستْ مجردَ كلماتٍ ومدائحَ تُلقى منْ فترةٍ لأخرى، أوْ في إحياءِ ليلةٍ من الليالي منْ كلِّ عامٍ، تقرأُ فيها الأورادُ، وتنشدُ فيها المدائحُ النـبـويــةُ والأورادُ الصوفيةُ، وتقامُ فيها الحفلاتُ والرقصاتُ.
بلْ هيَ عملٌ واستقامةٌ واقتداءٌ، وبذلٌ وتضحيةٌ لهذا الدينِ؛ وهيَ- كذلكَ- محبةٌ وشوقٌ وحنينٌ، وحبٌّ لهذا الرسولِ الكريمِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وتقتضي هذهِ المحبةُ طاعتهُ وتعظـيمهُ، والتحـاكمُ إلى شريعتهِ، وإتباعِ هديهِ وسـنتهِ، وتوقـيرهِ، والدفاعِ عنه، ونصرتهِ حـيًا وميتًا، والثـناءِ عليهِ بما هوَ أهلهُ.
إنَّ محمدًا- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لا يريدُ بنا أنْ نحتفلَ بمولدهِ بلْ يريدنا أنْ نتبعَ سنتهُ.
إنَّ محبتهُ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- تعني طاعتهُ وليسَ كما يظنهُ البعضُ بالاحتفالِ بمولدهِ.
يا صاحبَ الحوضِ كمْ للناسِ منْ أملٍ
في وردهِ يومَ تَسقي منهُ كلَّ ظمِي
لواءكَ الحمدُ يومَ الدينِ ترفعهُ
يمناكَ يا سعدَ منْ تلقاهُ بالدعمِ
أنتَ الشفيعُ لنا في يومِ شدتنا
تقومُ وحدكَ كلُّ الرسْلٍ لمْ تقمِ
يقولُ كلُّ نبيِّ منْ تهيبهِ نفسي
فتسجدُ للرحمنِ منْ أمَمِ
تقولُ أنتَ لها يدعوكَ خالقنا اشفعْ
تشفعْ هنا للخلقِ كلهمِ
أنتَ الشفيعُ الذي ترجى شفاعتهُ
يومَ الزحامِ منَ الأهوالِ والنقمِ
أنتَ الكريمُ الذي عمتْ مكارمهُ
كلُّ الخلائقِ منْ عربٍ ومنْ عجمِ
ثمَّ اعلموا- يا عبادَ اللهِ- أنَّ منْ علاماتِ حبهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: كثرةُ الصلاةِ والسلامِ عليهِ في كلِّ وقتٍ و إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
، ففي ذلكَ الراحةُ والطمأنينةُ والأجرُ والثوابُ، وهوَ دليلٌ على هذا الحبِّ.
فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على نبينا محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عنْ خلفائهِ الراشدينَ، وآلِ بيتهِ الطاهرينَ وعنْ الصحابةِ أجمعينَ، وعنِ التابعينَ، ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنا معهمْ بمنكَ ورحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
المشاهدات 2320 | التعليقات 6
ما شاء الله لا قوة إلا بالله
خطبة من أعظم الخطب التي قرأتها في المنتدى
زادك الله علما وفقها وبصيرة
فعلا موضوع متميز
بارك الله لك وزادك من فضله ، خطبة رائعة جزاك الله جنة المأوى .
أقِفُ إكباراً لهذهِ النّادرة !
رفع الله قدركم وأجزل مثوبتكم بدعواتكم ودعمكم...
مشاركة مميزة لو ٌوضعت في ملف
أبو اليسر
موضوع فعلاً مميز ومناسب وشامل
جزاك الله خير وبارك الله فيما كتبت ونفع بهذه الخطبة ،،
تعديل التعليق