حب الخير للغير

عبدالله حمود الحبيشي
1441/03/16 - 2019/11/13 18:26PM

حب الخير للغير

الخطبة الأولى ..

أما بعد .. عباد الله .. حَدِيْثٌ من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم، دلنا فيه على خلق عظيم ، وصفة كريمة جليلة ، برهان على كمال الإيمان وحقيقته ، تحلى بها الأنبياء والصالحون ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبلغُ العبدُ حَقِيقَةَ الإيمانِ حتى يُحِبَّ لِلنَّاسِ ما يحبُّ لِنفسِهِ) .

إنه دين الإسلام ، إنه دينٌ شرعه الله عز وجل .. إنها الشريعة المحمدية التي جاءت للناس كافة .. ربطُ كمال الإيمان وحقيقته بحب الخير للناس كافة .. ليس لأهلك ، ولا لأقاربك ، ولا للمسلمين بل للناس كُلِ الناس .

أي شريعة أو تشريع يحث على مثل هذا الخلق العظيم ، ويأمر بهذا الأدب في التعامل مع الناس .. فما أعظمه من أدب ، وأجله من خلق حيث يتعامل المسلم مع الناس وكأنهم نَفْسُهُ .

إن من أعظم دلالات هذا الحديث أن الإيمان والإسلام ليس دعوة يدعيها من شاء ، وليس بالزي والمظهر ، ولكنه تطبيق عملي ، لا يقتصر على صلاة وزكاة وصيام وحج ، وليس في المسجد فقط ، ولكنه في معاملة الآخرين ، فلا يُقبل في الإسلام أن يُشاهد الرجل متهجدًا في محرابه ، وهو غاشٌّ في محراب الحياة ، إنما الواجب عليه أن يكون مطبقًا لهذا كله في كل تعاملاته ، ولذلك رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم النجاة من النار ، ودخول الجنة على هذه الخصلة العظيمة ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال “مَنْ أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنة فلتدركه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ، ويأتي إلى الناسِ الذي يحبُّ أنْ يُؤْتَى إليه“ .. إنَّ مِن جملة خِصال الإيمانِ الواجبةِ ، أنْ يُحِبَّ المرءُ للناس ما يحبُّ لنفسه ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه ، وهذا يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ ؛ فإنَّ الحسدَ يقتضي أنْ يكره الحاسدُ أنْ يَفوقَه أحدٌ في خير ، أو يُساوَيه فيه ؛ لأنَّه يُحبُّ أنْ يمتازَ على الناسِ ، وينفرِدَ عنهم ، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك.

فحقيقة الإيمان وكماله يكون بحب العبد أن يُساق الخير لكل الناس.. يفرح لفرحهم ، ويحزن لما يحزنهم .. يحب الخير لهم كما يحبه لنفسه ، ويكره أن يقع عليهم الضرر كما يكرهه لنفسه .. ولا يكون هذا إلا عند أصحاب الأنفس الكريمة الشريفة العزيزة .
يقول عليه الصلاة والسلام (وأحبَّ للناسِ ما تحبُّ لنفسِك تكن مؤمنًا) ، فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً من دين أو دنيا ، أحب أنْ يكون لغيره نظيرها من غير أن تزول عنه ؛ قال الله سبحانه وتعالى عن الأنصار وحبهم للخير لغيرهم بل وإيثارهم عليهم (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما : إني لأمرُّ على الآية من كِتاب الله ، فأودُّ أنَّ النَّاسَ كُلَّهم يعلمُون منها ما أعلم . وقال الشافعيُّ : وددتُ أنَّ النَّاسَ تعلَّموا هذا العلمَ ، ولم يُنْسَبْ إليَّ منه شيء .

ولا عجب فهكذا كان نبيهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم يحب للناس ما يحب لنفسه ، ويحرص على إيصال الخير لهم أشد الحرص ، حتى كاد أن يهلك نفسه حزنا وهما ، فقال الله له مسليا ومواسٍ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) .
عباد الله : حب الذات والأثرة شيء فطري في النفس ، وتهذيبه وترويض النفس لمحبة الخير للغير تحتاج إلى تدريب ومجاهدة ، خصوصا في أمور الدنيا .

كان محمَّد بنُ واسعٍ يبيع حماراً له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّه لا يرضى لأخيه إلاَّ ما يرضى لنفسه ، وهذا كلُّه من جملة النصيحة لِعامة المسلمين التي هي مِنْ جملة الدين .

وفي حديث الرجل الذي أزال غصن شوك من الطريق ، فهو يتقلب في الجنة ونعيمها ، لم ينل ما نال بصورة العمل ، وهو إماطة غصن الشوك عن الطريق ، ولكن ما كان في قلبه من حب الخير للناس ، وكف الأذى عنهم .. إنه الإحساس بالآخرين ، وهذا جاء صريحا في بعض روايات الحديث (رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس) وفي روية (فقال والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم) .

ومن محبة الخير للناس النصح لهم ، ودلالتهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، وكذلك الدعاء لهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (مَنِ استغفَرَ للمؤمنينَ وللمؤمناتِ ، كتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مؤمِنٍ ومؤمنةٍ حسنةً) .

ومن مقتضيات حب الخير للناس كفُّ الأذى والمكروه عنهم ، يقول الأحنف بن قيس : كنتُ إذا كرِهت شيئًا من غيري ، لم أفعلْ بأحدٍ مثله .
إن إعِّمال هذا الأصل وهذه القاعدة ، واستحضارها في تعاملاتنا ، يحقق خيرا كثيرا ، ويكف شرا كبيرا ، ويدفع شرورا تئنُّ منها المجتمعات ، ولذلك لما تمثل السلف رحمهم الله دلالة هذا الحديث ، كان أحدهم يطمئن إلى الآخر في بيعه وشرائه ، وفي تعاملاته كلها، فلا يحصل منهم لغيرهم إلا ما يَرْضَونَه لأنفسهم في البيع والشراء والإنجاز والبناء .

نسأل الله أن يجعلنا ممن يحب الخير للغير ويكره لهم ما يكره لنفسه.. وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله…


الخطبة الثانية ..

عباد الله .. (لا يبلغُ العبدُ حَقِيقَةَ الإيمانِ حتى يُحِبَّ لِلنَّاسِ ما يحبُّ لِنفسِهِ) .. إنَّ تطبيقات هذا الأصل العظيم واسعةٌ متعددة ، وعلى سبيل المثال إذا أراد هذا الذي يسير في الطريق أن يرمي شيئًا في طريق الناس ، هل يرضى أن يُرمى هذا الشيء أمام باب داره ، أو في فناء بيته؟ أو هل يرضى أن يرمي أحدٌ أمامه شيئًا وهو من ورائه فيتضرر بذلك؟ إذا وضع هذا الميزان فإنه لن يفعل .

هل يرضى أحدٌ وهو في طريقه وقد أضاءت إشارة المرور الخضراء أن يأتي شخص مستهتر متهور ، فيقطع الإشارة أمامه ، فيعرضه وأهله أو غيرهم للهلاك والموت .

حينما يريد أن يبيع أو يشتري ، أو يريد أن يخطب من الناس ، أو غير ذلك من التعاملات ، هل يرضى أن يعامل بالإخلال ؟ لا يرضى بذلك ، فهو كذلك أيضًا لا يقبل من نفسه بمقتضى إيمانه أن يَخِلَ بحق أحدٍ من الناس .
الذي يكره أن يغلق عليه أحد الطريق أو يضيق عليه بسيارته يكره للناس ذلك .
الذي يحب أن يقدر ويحترم ويعامل بالحسنى وتحفظ حقوقه يحب للناس ذلك ويعاملهم به .
يا أيها الموظف أو المسؤول في دائرة خدمية لو كانت لك معامله وتريد إنجازها فهل تحب أن تؤخر أو تعطل لتعنت موظف أو عدم تواجده .. فما تكرهه لنفسك لا ترضاه لغيرك وما تحبه لنفسك أحرص على بذله للناس وأحب لهم ما تحب لنفسك .

عباد الله .. ومحبة الخير للناس كافة يدخل فيهم حتى الكفار .. فإحسان معاملتهم ، وعدم ظلمهم ، مما يحبه الله قال تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، ومحبة الخير للكفار في أن يسلموا ويؤمنوا كما في قوله صلى الله عليه وسلم (فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا ، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ) ففيه حث على دعوة المشركين إلى دين الله ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .

حب الخير للناس كافة .. تشمل محبة الخير للعصاة بالهداية ، وللمبتدعة باتباع السنة ، وللمترددين بالثبات ، وللزائغين بالاستقامة.
نسأل الله عز وجل ان يجعلنا ممن يحب الغير للناس كافة كما نحبه لأنفسنا ونكره لهم ما نكره لأنفسنا .

المشاهدات 10841 | التعليقات 0