حبيب غاب 330 يومًا
راشد بن عبد الرحمن البداح
25 شعبان 1439هـ الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم من كيد شياطين، الجِنة، وجعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة، وفتح لهم به أبواب الجَنة، وصلى الله على عبده ورسوله محمد الداعي للهدى والسُّنَّة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فلنتق الله تقوىً تَقينا وتُنجينا، ولتستحضر في قلبك الآن أحبَّ محبوب إليك، وقد انتظرتَه ثلاثمئة وثلاثين يومًا. أي أحد عشر شهراً، وهب أنك بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل؛ كيف تكون فرحتك بقدومه، واستبشارك عند لقائه؟! ألا إنك بعد خمسة أيام ستلقى حبيبًا طال انتظارك له، إنه:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
إن أول أول العلامات الدالة على شوقك الحقيقي لرمضان أن تتأهب لقدومه كما تتأهب لقدوم حبيب غائب من سفره، إذ أن هذا التأهب والاستعداد هو من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى القائل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
كما أن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. فاستبشر، واستحضر أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة تذهب، ويبقى الأجر، وشَرْحُ الصدر.
ألا فلتعقد العزم الصادق على الاستكثار من الأعمال الصالحات فيه، قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، وقال: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ}.
خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْقَنَادِيلُ تُزْهِرُ، وَكِتَابُ اللَّهِ يُتْلَى فِي الْمَسَاجِدِ،فَقَالَ: نَوَّرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ فِي قَبْرِكَ، كَمَا نَوَّرْتَ مَسَاجِدَ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ([1]).
وكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ: لْيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَصُومُ إِنْ صَامَ فُلَانٌ، وَأَقُومُ إِنْ قَامَ فُلَانٌ، مَنْ صَامَ أَوْ قَامَ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ، وَأَقِلُّوا اللَّغْوَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ([2]).
إن أول علامة شر يرتكبها أهل الغفلة وبغاة الشر أنهم يستثقلون شهرهم، ويعدون أيامه ولياليه وساعاته؛ لأنه يحجب عنهم الشهوات، ويمنعهم اللذات.
حُكي عن غلام سفيه، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً، وأخذ ينشد:
دعانيَ شهرُ الصوم لا كان من شهـر ولا صــمتُ شهراً بعـده آخـــرَ الدهرِ
فلو كان يُعْدِيني الأنــامُ بقـــــوة على الشهر لاستعديتُ قومي على الشهرِ
فأصيب بمرض الصَّرْع، فكان يُصرع في اليوم مرارًا، فمات قبل أن يصوم رمضان الآخر.
باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان -كما يصنع كثير منا اليوم- فقالت الجارية: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟! والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم، ورجعت إلى سيدها الأول.
فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يقول: من أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له باعده الله في النار، ثم يقول خليل الرحمن الصادق بعد دعائه: آمين؟! فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟! ولا يهلك على الله إلا هالك، ومن خاض البحر اللجاج، ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره؟!.
وبين سباق الطائعين المسددين يبرز قرب رمضان سباق المفسدين. وكما أن للخير باغون، فإن للشر باغون طاغون. ومن بغاة الشر في هذا الشهر الكريم المتبرجات بزينة، اللائي يبغين الفساد بالإصرار على إظهار الزينة للأجانب من الرجال.
يا أهل الفن والإعلام: أقصروا من نشر الفساد وإشاعة الفواحش، وقبيح بكم أن تضاعفوا من جهدكم لتصدوا الناس عن سبيل الله عز وجل، وتبغوها عوجاً.
فيا أيها الرمضانيون قريبًا: اعقدوا العزم على أن تفِرُّوا من ملهيات الشاشات والسنابات والقنوات فراركم من الأسد، فإن مشاهير الفن واللعب هم قطاع الطريق إلى الله، وإنهم ممن قال الله فيهم:{أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}.
ويكفيك أن أهل الفن واللعب يدعونك إلى زنا العين، وزنا الأذن، فكيف تطاوعهم وأنت ترجو الأجر بشهر مضاعفة الأجور؟! وكيف بك وأنت إذا كنت في نهار رمضان تحرم الحلال في أصله من الطعام والشراب والشهوة؛ امتثالاً لأمر الله، فكيف تستبيح ما هو حرام قطعاً من إطلاق البصر إلى السافرات الفاجرات؟!
ألا ما أشد زجر الناصح المشفق الحريص علينا e حين قال: رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهرُ، ورُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش([3]).
________2__________فمن الأعمال المغفول عنها تفقد المحاويج من جيرانك وأقاربك واحفظ ماء وجوههم، بالصدقة الخفية وبإطعام الطعام على شكل هدية، وبسداد ما تستطيع من فواتيرهم في البقالات والكهرباء دون أن يعلموا بك، فالله يعلمك وسيجزيك الجزاء الأوفى. قال e: ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع([4]).
أتى رجل صديقًا له فدق عليه الباب، فخرج الصديق، وقال له: ما جاء بك؟ قال: علي أربعمائة درهم دين. فعَدَّ له صديقه أربعمائة درهم، وأعطاه إياها، ثم أغلق الباب وهو يبكي! فقالت له امرأته: لم أعطيته إذ شق عليك؟! فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي!!
قَالَ النَّبِيُّ e: إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ([5]).
(قال بعض السلف: لأن أدعو عشرة من أصحابي، فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إليَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل)([6]). (وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، فهذا ابن عمر كان لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد رَدُّوهم عنه، فلا يفطر تلك الليلة. ومنهم مَن لا يأكل إلا ومعه ضيف على إفطاره. قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في المسجد، ما أفطر أحد منهم قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس وأكل الناس معه)([7]).
([1])فضائل رمضان لابن أبي الدنيا (ص: 58)
([2])فضائل رمضان لابن أبي الدنيا (ص: 59)
([4])رواه البخاري في "الأدب المفرد" (112) ، والطبراني (12741).
([6])الزهد لهناد بن السري (1/ 345)
([7])الكرم والجود للبرجلاني(ص53) واختيار الأولى لابن رجب(ص79)
المرفقات
غاب-330-يومًا
غاب-330-يومًا
غاب-330-يومًا-2
غاب-330-يومًا-2