حبس مؤبَّد، وأجر مؤكَّد.

عاصم بن محمد الغامدي
1438/07/24 - 2017/04/21 07:32AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أسعد وأشقى، وأمات وأحيا، وأضحك وأبكى، وأوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأضر وأقنى، خلق الإنسان من نطفة تمنى، وخصص بعض عباده بالحسنى، والصلاة والسلام على محمدٍ المصطفى، سيد الورى، وشمس الهدى، وعلى آله وأصحابه المخصوصين بالعلم والتقى، ومن سار على هديهم واقتفى، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأذلوا الدنيا بالزهد فيها، وأعزوا الآخرة بالإقبال عليها، احذروا المعاصي وكفر النعم، فقلَّما كفر قوم بنعمةٍ ولم يَنْزِعُوا إلى التوبةِ إلا سُلِبوا عزَّهم، وسُلِّطَ عليهم عدُوُّهم، ومن خاف اليوم أمن غدًا، والربح المضمون لمن باع قليلاً بكثير، وفائتًا بباقٍ، ولسوف {تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أيها المسلمون:
كَانَ أَبُو طَلْحَةَ الأنصاريُّ رضي الله عنه أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ نَخْلاً، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ مزرعةٌ تسمى بَيْرُحَاءَ، مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَ قَولُه تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ»، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. [رواه البخاري].
وإنَّ من توفيق الله تعالى لبعضِ خلقه، ما يهيئه لهم من أموالٍ وأعمالٍ تبقى أجورها بلا انقطاع، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». [رواه مسلم].
ولهذا وقَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاريِّ عن عمرو بنِ الحارث رضي الله عنه قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ، وَسِلاَحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً».
ولما استشاره بعضُ الصحابة رضي الله عنهم ما يفعلون بأنفس أموالهم أشار عليهم بوقفها، ومن ذلك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ، وَفِي القُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ. [رواه البخاري ومسلم].
ولم يكن لأحد من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم قدرةٌ إلا وقف، ولا زال كثيرٌ من المسلمين من مئات السنين يقفون أموالهم على المصالح العامة، والخاصة، فبعضهم وقف على إنارة طريق الحجاج من منى إلى الحرم، وبعضهم على تنظيف الطرق بمكة، ووقف آخرون أوقافًا على تنظيف المسجد الحرام والمسجد النبوي وخدمتهما، ولا زال الخير في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم مستمرًا بحمد لله، والموفق من بحث عن طريقة يخلِّد بها عمله الصالح، لينفعه عند لقاء ربه، والمحروم من عرف الطريق فحاد عنه، ودُل على السبيل ففر منه.
أيها المسلمون:
الوقف: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، والتحبيس منع التصرف في المال بما ينقل الملك من بيع ورهن وهبة وإرث وغيره، والمنفعة هي الغلة كالأجرة والأرباح ونحوها، وكلُّ ما جاز بيعه، مما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله جاز وقفه، كالعقارات، والسيارات، والمزارع، والمنافع المختلفة.
ويصح الوقف على الزوجة والولد والذرية، وعلى مصالح المسلمين العامة والخاصة، فعَنْ نَافِعٍ قَالَ: "ابْتَاعَتْ حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ". [الوقوف والترجل من مسائل الإمام أحمد 1/72]، أي أنها جعلته لهن للتحلي به.
وكم من مسكين، رزقه الله الملايين، فتركها لورثتِه، ولم يدَّخر منها شيئًا لآخرتِه، فماتَ واقتسموها حلالاً، ولم يبنوا له بها مسجدًا، أو يدفعوا له منها صدقة، ومن لم ينفع نفسه بماله، فحريٌ بغيره أنْ لا ينفعَه، قال صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟». [رواه مسلم].
عاشَ في هذه البلاد رجلٌ يملكُ المليارات، ما بين نقود وعقارات، ولم يرزقه الله تعالى بذريةٍ، فنصحه بعض من حوله ببذل جزء من ماله في صدقة جارية لا تنقطع، فتلكأ في ذلك حتى توفاه الله، ودخل ورثته من أولاد إخوته في خلافات كثيرة على أمواله، لا تزال المحاكم تعالجها من سنين.
والتوفيق بيد الله تعالى، فقد لا يملك الإنسان الملايين إلا أنه موفق لما ينفعه، كعجوز ذكر أحد القضاة أنها جاءت إليه مع شاهدين، وأخبرته أنها تملك منزلين، وطلبت إثبات وقف أحدهما ليكون صدقة جارية، تصرف غلتها على جمعية تحفيظ القرآن، ثم خرجت، يقول القاضي أنه انتظر عودتها بعد ذلك لتستلم أوراق العقار فلم تحضر، ثم جاء أحد شاهديها، وأخبر القاضي أنها توفيت بعد إثبات وقفها بقليل، فما أجملها من خاتمة رحمها الله رحمة واسعة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَسَلَهُ»، قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللهُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ». [رواه أحمد وصححه الألباني].
إذا تأملتَ هذا فاسأل نفسك، أيَّ الشخصين تريد أن تكون؟ وبادر قبل أن تبادَر، وقدِّم لآخرتك، ولا تكن من المسوفين، سأل رجلٌ أحد العلماء رحمهم الله عن الأفضلُ من الوصية للورثة بثلث المال، أو الوقف حال الحياة؟ فأجابه بمثل جميل، قال له فيه: لو أردت الخروج للنزهة، فهل الأفضل أن تخرج خاليًا، وتطلب من أهلك إدراكك بالمتاع، أو أن ترسل متاعك قبلك، لتجده مهيأً عندما تصل؟ فوصل الجواب، وفُهم الخطاب، وكذلك أولو الألباب.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله:
فمن كان يملك مالاً، فالأفضل له أن يقف منه ما يقدر عليه، ويجوز له أن يجعل وقفه خاصًا بورثته، أو بمصالح ذريته، ويجوز له أن يجعل وقفه لمصالح المسلمين، ويجوز له أن يجعله مشتركًا بين الأمرين، فبعضه لذريته، وبعضه لمصالح المسلمين العامة أو الخاصة.
ومن لم يملك مالاً كافيًا ليستقل بوقف، فلا يحرم نفسه المشاركةَ في أوقاف المسلمين المتاحة بما يستطيع، وإن من نعم الله علينا في هذه البلاد المباركة تعدد الأوقاف، وتنوع مصارفها، فبعضها على العلم وأهله، كالوقف على تعلم القرآن الكريم وتعليمه، وعلى فقراء طلبة العلم، وبعضها على حفظ الضرورات الخمس أو بعضها كجمعيات العلاج والدواء، والتوعية بأضرار المخدرات ومقاومتها، وبعضها في الدعوة إلى الله تعالى في شتى بقاع الأرض.
وهناك أوقاف لا تكلف المرء مالاً، كأن يبلَّغ آية من كتاب الله، أو حديثًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى أجره ببقاء من انتفع بذلك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
ومن أعظم ما يبذله الإنسان مساهمته في تربية الجيل، وغرسِ القيم في نفوس الشباب، فكل جيلٍ ينقلُ القيم لمن بعده، وأجر المربي ثابتٌ، محفوظ عند ربه.
فهنيئًا للآباء والأمهات، الذين دلوا أولادهم على فعل الصالحات، وأحسنوا تعليمهم وتربيتهم، حتى حفظوا القرآن وطلبوا العلم، ونقلوا ذلك لأولادهم وأولاد أولادهم، فإن للأولينَ مثلَ أجورهم، وأجورِ مَن بعدَهم. قال صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
جعلنا الله من العالمِين العاملِين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
[/align]
المشاهدات 1274 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


خطبة رائعة .. وفقك الله لكل خير


[align=justify]بارك الله فيكما وجزاكما خيرًا على المرور والتعقيب.[/align]