حان وقت الربح و التهنئة
الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1434/10/08 - 2013/08/15 14:19PM
الجمعة 02 شوّال 1434
الأولى: و حان وقت الربح و التهنئة
الحمد لله تعالى جدّه وهو ربّ العالمين، و تقدّس مجده مالك الأولى و مالك يوم الدين، و تبيّن عهده أن تتّبعوا الشيطان إنّه لنا عدوّ مبين.. أحمده أن أقام طريق الحقّ بعد اعوجاجه، و أيّد صرحه بعد تصدّعه و ارتجاجه، و قمع الكفر بعد طغيانه و عناده و لجاجه.. و أشكره على ما هدانا لصيام رمضان و قيامه و أرشدنا لما فيه خيرنا، دنيا و أخرى، و فصّل الشريعة فجلاّها نورانية زهراء، و وعد الصائمين القائمين مغفرة و أجرا لا نحيط به حصرا..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة خالص معدنها، و في أعماق قلوبنا محلّها و سكنها، لا زالت حليفة اللسان و الأنفاس، محصّنة لنا من كيد الوسواس، منوّرة لوجوهنا يوم تعرض الخلائق على إله النّاس..
و أشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده و رسوله، أرسله لإنفاذ أمره، و إنهاء عذره، و تقديم نذره.. صلّى الله عليه صلاة تكون استجابة لأمره، و تكريما لحقّ نبيّه، و إعلاء لقدره، و على آله و صحبه و التّابعين، من أسرعوا لاعتناق هذا الدّين، ثمّ جاهدوا لتثبيته إلى أبد الآبدين.. و سلّم يا ربّنا عليه و عليهم سلاما مباركا معطارا، متداركا ليلا و نهارا، متتابعا مع نسمات الأسحار، يلزمنا طريقتهم في هذه الدّار، و يجمعنا بهم في دار القرار..
أمّا بعد، فحيّاكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء، و أيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزّاء، و طابت جمعتكم و طبتم جميعا و تبوأتم من الجنّة منزلا، و أسأل الله الذي جمع هذا الجمع الكريم في هذا البيت الكريم على طاعته، أن يجمعنا سبحانه مع سيّد الدعاة في جنّته و دار كرامته، و أن يكتب لنا بركة توصلنا إليه و تجمعنا عليه و تقرّبنا لحضرته و تمتّعنا برؤيته، إنّه وليّ ذلك و القادر عليه..
أيّها الأحبّة و حان وقت الربح و قطف الثمار، حان الوقت الذي يجني فيه الصائمون القائمون الثمار، فمن الذي سَعِدَ منّا في رمضان بمغفرة الله لنُهَنِّيَهُ، و من الذي طُرِدَ في رمضان من رحمة الله لنعزِّيَهُ، فالسعيد هو الذي سيخرج منّا اليوم من هذا المسجد و ربُّنا أعلم بكلّ واحدٍ منّا.. اليوم سيخرج السعيد، و قد غفر له الله كلّ ما سبق، أسأل الله أن يجعلنا جميعا من السعداء، و أنا أعلم يقينا، و أنا حَسِنُ الظنّ بربّي جلّ و علا و هو الرحيم.. وهو الكريم مهما كثرت الذنوب و بلغت المعاصي، أنا حسن الظنّ بعلاّم الغيوب، إنّه محال أن نطرق الليلة بابه و أن يغلق الباب في وجوهنا..
حان وقت التهنئة أيّها الصائمون.. حان وقت الرّبح أيّها القائمون.. أيّها الذّاكرون القانتون المنفقون المستغفرون، المتصدّقون، فتدبّروا معي ثمرة الصيام اليوم، فلقد فرض الله تعالى علينا الصيام لنخرج بالتقوى، لما للتقوى من فضل يريده لنا ربّنا، قال تعالى: " يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون ". إذا التقوى هي الغاية من الصيام، لماذا التقوى ؟.. هذا هو الجواب في خطبة اليوم الثاني من العيد..
لماذا أراد الله تعالى لعباده المؤمنين أن يخرجوا بالتقوى دون غيرها كثمرة من ثمار هذا الصيام ؟.. و الجواب ابتداءً، ما هي التقوى ؟.. التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، و أن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.. التقوى عرّفها ابن مسعود فقال: هي أن يطاع فلا يُعْصَى، و أن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، و أن يُشكر فلا يُكْثَرْ.. التقوى عرّفها أبو هريرة حين سأله سائل فقال: يا أبا هريرة ما هي التقوى ؟.. فقال أبو هريرة: هلاّ مشيتَ على طريقٍ فيه شوك ؟.. قال: نعم. قال: فماذا صنعت ؟.. قال: كنتُ إذا رأيتُ الشوك اتّقيتُهُ، فقال أبو هريرة: ذاك هي التقوى.. فأخذ بن المعتزّ هذا الجواب البديع و صاغه هذه الصياغة الجميلة و قال:
خلّي الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى
و اصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصـى
لا أريد أن يكون الحديث اليوم كلّه عن التقوى، لكن ما هو الحصاد ؟.. ما هو الثمار؟.. تدبّروا معي أيّها المؤمنون فضل هذا الحصاد الذي خرج به الصائمون بتقوى الله تبارك و تعالى..
1) أوّلا التقوى كحصاد للصيام سبب من أسباب تفريج الهمّ، و نعلم أنّ الهموم كثيرة، قال تعالى: " و من يتّقي الله يجعل له مخرجا "، و أنت لا تعلم على الإطلاق طبيعة المخرج، و إنّما هذا أمر متروك و موكول للملك، يا من صمت رمضان و قمت ليله فخرجت بالتقوى أبشر، فأنت ممّن وعد الله تعالى بتفريج الهمّ و الغمّ، و من يتّقي الله يجعل له مخرجا..
ثانيا التقوى سبب لسعة الرزق، و يرزقه من حيث لا يحتسب، إذ أنّ الرّزاق هو الله، بل الذي يملك الكون كلّه هو الله تبارك و تعالى، أنظر ماذا أنفق منذ خلق السماوات و الأرض، و لا زالت يمينُهُ ملءى سبحانه جلّ في علاه، يرزق الطير في السماء، و يرزق الدواب و الحشرات و السمك في الماء، و الإنسان على ظهر هذه الأرض.. و أنا أقول لكم من فوق هذا المنبر: إذا كان ربُّنا يرزق الفجّار الكفّار، أفيرزق الكفّار و ينسى من وحّد العزيز الغفّار؟..
في مدينة من مدن تونس أعرف شخصا، بل هو من عائلتي و بكلّ أسف ينتسب لدين الإسلام، و مع ذلك يبيع في محلّه، وهو صاحب مقهى و مطعم، يبيع الخنزير و الخمر، فأقول له: أنت مسلم ؟.. فيقول: نعم. قلت له: أتعلم أنّ الله قد حرّم الخمر؟.. يقول: نعم. قلت: أتعلم أنّ الله قد حرّم الخنزير؟.. يقول: نعم. قلت له: أتعلم ذلك و تصرّ على بيع الخمر و الخنزير؟.. فيقول لي: أنت عارف الظروف يا شيخ.. أرزاق.. أقول: لا. ما جعل الله عزّ و جلّ الرزق في الحرام.. يردّ عليّ و يقول: انظر لهؤلاء الأوروبيين الذين يأتون إلى تونس، يعيشون في رغد من العيش و ليسوا على معصية بل هم على الكفر..
انظر أخي المسلم إلى مداخل الشيطان، انظر إلى كلمات الشيطان يجريها على الألسنة، كلام لا يقبله مؤمن، أنت تقول بأنّني على معصية، نعم و أنا معترف بذلك، فما جوابك إن كان هؤلاء على الكفر و الله يرزقهم من أوسع الأبواب ؟.. كاد أن بنتصر عليّ لولا قول الملك الديّان، تدبّر معي قول الرحيم الرحمان: " و لو أنّ أهل القرى آمنوا و اتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ". طيّب بقي الفتح الثاني: " فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء، حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابرُ القوم الذين ظلموا و الحمد لله ربّ العالمين ". فلمّا نسوا ما ذكّروا به، ماذا فعل بهم الملك ؟.. الله أكبر، كان من المفروض، فخسفنا بهم الأرض.. فلمّا نسوا ما ذكّروا به أرسلنا علينا الرياح.. فلما نسوا ما ذكّروا به، أرسلنا عليهم الطوفان.. لا أبدا، فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء..
تأتي إلى تونس، تجد كلّ أنواع الخيرات، كلّ أسباب المتعة الحياتية.. أبواب كلّ شيء.. لكن ربُّكم تبارك و تعالى يوضّح هذه الآية الكريمة في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحبّ من النعم و هو مقيم على معصية الله فأعلم بأنّه مستدرج من الله جلّ وعلا ". استدراج يا مؤمن، وهو في غفلة، استدراج، " ألم تر كيف فعل ربّك بعاد * إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربّك صوت عذاب * إنّ ربَّك لبا لمرصاد ".. فكم من مستدرج بنعم الله عليه و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بحلم الله و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بستر الله و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بفضل الله و هو لا يدري.. فاعلم بأنّك في بوتقة ابتلاء، و دار اختبار، إن منّى عليك بالأموال فإنّك مختبر، و إن ضيّق عليك فأنت مختبر.. قال تعالى: " و نبلوكم بالشرّ و الخير فتنة ". يعني الشر فتنة، و الخير فتنة..
2) من يتّقي الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب.. و هذا ثمرة ماذا ؟.. حتما الصيام.. نتاج الصوم التقوى.. لماذا التقوى ؟.. للأسباب المذكورة.. قال تعالى: " و من يتّقي الله يجعل له من أمره يسرى ". في سورة النور، التقوى سبب لتيسير الأمر.. إذا أردت أن يقضي الله لك حاجة من حوائجك و أن ييسّر الله لك أمرك، فدرّب نفسك على أن تلجأ ابتداءً إلى الله بقلبك و جوارحك، فإذا غلّقت الأبواب في وجهك فقُلْ بإيمانٍ و أنت عازم على ذلك: " إنّي متوكِّلٌ على الله.. إنّي أفوِّضُ أمري للحيّ الذي لا يموت.. القيّوم، القائم على إدارة شؤون كونه و ملكه و عباده ".. و لكن أقول لكم: لا مانع من أن تأخذ بالأسباب، و لا مانع من أن توسِّط الوسطاء، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه.. لا حرج على الإطلاق، و من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها.. و لكن درّب نفسك على أن توجّه قلبك إلى الله ابتداءً جلّ و علا، و أن تقوم من الليل لتصلّي ما كتب الله لك، و قبل أن تخرج أن تركع ركعتين لقضاء الحاجة و بعد ذلك انظر إلى ثمرة التقوى، " و من يتّقي الله يجعل له من أمره يسرى ".. و من بعد سترى أنّ الله عزّ و جلّ قد ذلّل لك كلّ الصعاب، و سخّر لك كلّ الناس المحيطين بك لتيسير أمرك و قضاء حاجتك.. و ستلاحظ أنّ كلّ هؤلاء، كلّ من سُخِّر لخدمتك قد حرّك قلبه الله..و أجرى قلمه الله جلّ في علاه.. يجب عليك أن تعلم و أن تؤمن بأنّه ليس هناك ورقة في شجرة هنا في تونس أو في الصّين، تسقط على الأرض إلاّ بعلم الملك، و بأمره تبارك و تعالى.. هذه العقيدة لمّا ترسخ في القلب تصبح قمّة القوّة و منتهى العلم و الفكر، لمّا يكون علمك يقينٌ بأنّ الشجرة هنا في تونس أو في أيّ مكان من العالم، لا تسقط منها ورقة إلاّ بإذنه و علمه. " و عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلاّ هو، و يعلم ما في البرّ و البحر و ما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ".. صدق الله العظيم..
أقول ما تسمعون فإن كان صوابا فمن عند الله، و إن كان غير ذلك فمن نفسي و من الشيطان و استغفر الله العلي العظيم لي و لكم و لوالدي و لوالديكم و للمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، و توبوا إليه إنه هو الغفور التواب و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العظيم..
الثانية: بعد رمضان المواظبة على الأعمال الصالحة
الحمد لله الدائم الباقي الذي لا افتتاح لوجوده و لا اختتام.. كلّ من عليها فان، و يبقى وجه ربّك ذو الجلال و الإكرام.. أحمده و أشكره جعل الفلاح لمن صام و قام و عمل بأحكام الدّين القويم.. و استغفره و أشهد أن لا إله إلاّ الله العليّ العظيم.. و أشهد أنّ سيدنا محمّدا عبده و رسوله ذو القلب الرحيم.. اللهمّ فصلّ و سلّم على سيّدنا محمّد و على آله و أصحابه و من تمسّك بهديه إلى يوم الدّين..
أمّا بعد، فيا عباد الرحمان، أوصيكم و نفسي أوّلا بتقوى الله تعالى و طاعته – أيّها الناس – احذروا المعاصي فإنّها موجبات للخسران و الإذلال، و لا تبطلوا ما أسلفتم في شهر رمضان من صالح الأعمال، و لا تكدّروا ما صفا لكم فيه من الأوقات و الأحوال، فداوموا على الطّاعات و لا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، و لا تقولوا الآن ذهب رمضان و تستهلّوا شوّالا بالفسوق و العصيان، فإنّ الله يرضى عمّن أطاعه في أيّ شهر كان، و يغضب تعالى على من عصاه و خالفه في أيّ وقت و أوان، و من يعصي الله و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين.. فكونوا مسلمين حقّا و مؤمنين صدقا، تعبدوا الله على الدّوام..
قال عليّ كرّم الله وجهه: التوبة هي اسم يقع على ستّ معان: على الماضي من الذنوب الندامة، و لتضييع الفرائض الإعادة، و ردُّ المظالم، و إذابة النفس في الطّاعة كما ربّتها في المعصية، و إذاقة النفس مرارة المعصية، كما أذقتها حلاوة الطّاعة، و البكاء بدل ضحِكٍ ضحكته.. أيها المذنب، التوبة هي صدق العزيمة على ترك الذنوب، و الإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب.. كثير منّا من هو مصرّ على المعصية، فعلينا أن ننهاه عنها بلطف، و لين، و أن ننصحه برفق و أناة، ليرجع إلى الصواب، و يخاف يوم الحساب.. اللهم من كان منّا مصرّ على معصية أخرجها الآن من قلبه يا ربّ..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " توبوا إلى الله فإنّي أتوب إليه كلّ يوم مائة مرّة ".( أخرجه البخاري و مسلم )و عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا، و من كلّ همّ فرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب ". ( أخرجه أبو داود و ابن ماجة )
حاسب نفسك يا عبد الله قبل أن يحاسبك الله، و انظر إلى صحيفة أعمالك و ماذا كتب فيها من صيام و قيام و برٍّ و نفقة و إحسان و صدقة و رحمة و مواساة و لو بإخراج الزكاة.. آهٍ على رمضان و قد انقضت أيامه، و ذهبت لياليه و تمّ صيامه و قيامه، و عمّا قريب يزول تعبه و آلامه، و يسوء المخبتين تمامه، و تجفّ صحائفه و ترفع أقلامه، عليه منّا جميعا و من المؤمنين تحيّة الله و سلامُهُ، و نسأله تعالى أن يعود علينا عامُهُ، و نحن بخير و عافية و قد رُفعت للدّين أعلامُهُ، و ساد دستورُهُ و نظامُهُ، و الله يخلّصنا من النار قبل أن يحلّ ختامُهُ.. في ذمّة الله يا شهر التلاوة و التسبيح، و في دعة الله يا شهر القيام بالتراويح، و في أمان الله يا شهر المصابيح و المتجر الربيح، يا شهر البرّ و الإحسان و اليمن و البركة و الرضوان و الإيمان الصحيح..
أيها الناس إنّ في يوم الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها الله شيئا إلاّ أعطاه إيّاه، فالتمسوها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة.. فأكثروا من الدّعاء و أمّنوا و صلّوا و سلّموا على من أمرتم بالصلاة و السلام عليه قديما و لا يزال قائلا تبارك و تعالى: " إنّ الله و ملائكته يصلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ". قال صلى الله عليه و سلم: " من صلّ عليّ حين يمسي عشرا و حين يصبح عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة ". اللهم فصلّ و سلم و زد و بارك على سيّدنا محمّد النبيّ المصطفى المختار، و على آله الطّاهرين الأخيار و على صحابته الميامين الأبرار المهاجرين منهم و الأنصار..اللهم إنّا نسألك أن تعزّ الإسلام و المسلمين، و أن تذلّ الشرك و المشركين، و أن تجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.. اللهم ها نحن نرفع أكفّ الضراعة إليك نرجو رحمتك و نخشى عذابك.. اللهمّ فرّج همّ المهمومين، و نفّس كرب المكروبين، و اقض الدّين عن المدينين، و اشف مرضانا و مرضى المسلمين.. اللهمّ أعد علينا رمضان مرّات عديدة، و كرّات مديدة.. اللهم أكتبنا ممّن صام رمضان و قامه إيمانا و احتسابا.. اللهم أكتبنا ممن قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا، اللهم أكتبنا من زوار بيتك الحرام، اللهم أكتبنا في سابق علمك ممّن لبّى دعوة إبراهيم الخليل يا أرحم الراحمين.. اللهم يا فالق الحبّ و النوى و يا عالم السرّ و النجوى أعط لكلّ امرئ حاضر معنا ما نوى، اللهم يسّر لنا زيارة بيتك.. اللهم لا تحرمنا من الوقوف على قبر نبيّك و حبيبك و خليلك و مصطفاك محمّد عليه أفضل الصلاة و السلام..
اللهم لا تجعلنا ممّن استهوته الشياطين فقذفته في الجحيم.. اللهم هؤلاء عبادك، صاموا شهرك و ختموا كتابك، يرجون رحمتك و يخشون عذابك، اللهم أعطهم و لا تحرمهم، و أكرمهم و لا تهنهم و اجعل قرآنك شفيعا لهم يا أرحم الراحمين.. اللهمّ لا تحرمنا بخير ما عندك بسوء ما عندنا.. اللهم ارزقنا لذّة النظر إلى وجهك الكريم و الشوق إلى لقائك.. اللهمّ كما آمنّا بنبيّك و لم نره فلا تفرّق بيننا و بينه حتّى تدخلنا مدخله، يا أرحم الرحمين.. اللهم ارحم و اغفر لوالدينا مغفرة تامة واسعة، اللهم ارحمهما أضعاف بما كانا بنا مترحمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم من كان والداه على قيد الحياة فوفقه ببرّهما و الإحسان إليهما و العطف عليهما.. اللهم من كان والداه قد فارق الحياة، فنوّر قبورهما بالنور و بالحبور و بالسرور..
أسأل الله لي و لكم منازل الشهداء، و معايشة السعداء، و مرافقة الأنبياء.. اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما و تفرّقنا من بعده تفرّقا معصوما، و لا تجعل فينا شقيّا و لا محروما و لا معذّب بنار، يا عزيز يا غفّار..آمين يا رب العالمين و صل وسلم و بارك على سيد الأولين و الآخرين محمّد بن عبد الله و على آله الطيبين و صحابته الميامين، و على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتقون. اذكروا الله يذكركم واشكروه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الشيخ محمّد الشاذلي شلبي
الإمام الخطيب
جامع عثمان بن عفّان - تونس
الأولى: و حان وقت الربح و التهنئة
الحمد لله تعالى جدّه وهو ربّ العالمين، و تقدّس مجده مالك الأولى و مالك يوم الدين، و تبيّن عهده أن تتّبعوا الشيطان إنّه لنا عدوّ مبين.. أحمده أن أقام طريق الحقّ بعد اعوجاجه، و أيّد صرحه بعد تصدّعه و ارتجاجه، و قمع الكفر بعد طغيانه و عناده و لجاجه.. و أشكره على ما هدانا لصيام رمضان و قيامه و أرشدنا لما فيه خيرنا، دنيا و أخرى، و فصّل الشريعة فجلاّها نورانية زهراء، و وعد الصائمين القائمين مغفرة و أجرا لا نحيط به حصرا..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة خالص معدنها، و في أعماق قلوبنا محلّها و سكنها، لا زالت حليفة اللسان و الأنفاس، محصّنة لنا من كيد الوسواس، منوّرة لوجوهنا يوم تعرض الخلائق على إله النّاس..
و أشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده و رسوله، أرسله لإنفاذ أمره، و إنهاء عذره، و تقديم نذره.. صلّى الله عليه صلاة تكون استجابة لأمره، و تكريما لحقّ نبيّه، و إعلاء لقدره، و على آله و صحبه و التّابعين، من أسرعوا لاعتناق هذا الدّين، ثمّ جاهدوا لتثبيته إلى أبد الآبدين.. و سلّم يا ربّنا عليه و عليهم سلاما مباركا معطارا، متداركا ليلا و نهارا، متتابعا مع نسمات الأسحار، يلزمنا طريقتهم في هذه الدّار، و يجمعنا بهم في دار القرار..
أمّا بعد، فحيّاكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء، و أيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزّاء، و طابت جمعتكم و طبتم جميعا و تبوأتم من الجنّة منزلا، و أسأل الله الذي جمع هذا الجمع الكريم في هذا البيت الكريم على طاعته، أن يجمعنا سبحانه مع سيّد الدعاة في جنّته و دار كرامته، و أن يكتب لنا بركة توصلنا إليه و تجمعنا عليه و تقرّبنا لحضرته و تمتّعنا برؤيته، إنّه وليّ ذلك و القادر عليه..
أيّها الأحبّة و حان وقت الربح و قطف الثمار، حان الوقت الذي يجني فيه الصائمون القائمون الثمار، فمن الذي سَعِدَ منّا في رمضان بمغفرة الله لنُهَنِّيَهُ، و من الذي طُرِدَ في رمضان من رحمة الله لنعزِّيَهُ، فالسعيد هو الذي سيخرج منّا اليوم من هذا المسجد و ربُّنا أعلم بكلّ واحدٍ منّا.. اليوم سيخرج السعيد، و قد غفر له الله كلّ ما سبق، أسأل الله أن يجعلنا جميعا من السعداء، و أنا أعلم يقينا، و أنا حَسِنُ الظنّ بربّي جلّ و علا و هو الرحيم.. وهو الكريم مهما كثرت الذنوب و بلغت المعاصي، أنا حسن الظنّ بعلاّم الغيوب، إنّه محال أن نطرق الليلة بابه و أن يغلق الباب في وجوهنا..
حان وقت التهنئة أيّها الصائمون.. حان وقت الرّبح أيّها القائمون.. أيّها الذّاكرون القانتون المنفقون المستغفرون، المتصدّقون، فتدبّروا معي ثمرة الصيام اليوم، فلقد فرض الله تعالى علينا الصيام لنخرج بالتقوى، لما للتقوى من فضل يريده لنا ربّنا، قال تعالى: " يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون ". إذا التقوى هي الغاية من الصيام، لماذا التقوى ؟.. هذا هو الجواب في خطبة اليوم الثاني من العيد..
لماذا أراد الله تعالى لعباده المؤمنين أن يخرجوا بالتقوى دون غيرها كثمرة من ثمار هذا الصيام ؟.. و الجواب ابتداءً، ما هي التقوى ؟.. التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، و أن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.. التقوى عرّفها ابن مسعود فقال: هي أن يطاع فلا يُعْصَى، و أن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، و أن يُشكر فلا يُكْثَرْ.. التقوى عرّفها أبو هريرة حين سأله سائل فقال: يا أبا هريرة ما هي التقوى ؟.. فقال أبو هريرة: هلاّ مشيتَ على طريقٍ فيه شوك ؟.. قال: نعم. قال: فماذا صنعت ؟.. قال: كنتُ إذا رأيتُ الشوك اتّقيتُهُ، فقال أبو هريرة: ذاك هي التقوى.. فأخذ بن المعتزّ هذا الجواب البديع و صاغه هذه الصياغة الجميلة و قال:
خلّي الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى
و اصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصـى
لا أريد أن يكون الحديث اليوم كلّه عن التقوى، لكن ما هو الحصاد ؟.. ما هو الثمار؟.. تدبّروا معي أيّها المؤمنون فضل هذا الحصاد الذي خرج به الصائمون بتقوى الله تبارك و تعالى..
1) أوّلا التقوى كحصاد للصيام سبب من أسباب تفريج الهمّ، و نعلم أنّ الهموم كثيرة، قال تعالى: " و من يتّقي الله يجعل له مخرجا "، و أنت لا تعلم على الإطلاق طبيعة المخرج، و إنّما هذا أمر متروك و موكول للملك، يا من صمت رمضان و قمت ليله فخرجت بالتقوى أبشر، فأنت ممّن وعد الله تعالى بتفريج الهمّ و الغمّ، و من يتّقي الله يجعل له مخرجا..
ثانيا التقوى سبب لسعة الرزق، و يرزقه من حيث لا يحتسب، إذ أنّ الرّزاق هو الله، بل الذي يملك الكون كلّه هو الله تبارك و تعالى، أنظر ماذا أنفق منذ خلق السماوات و الأرض، و لا زالت يمينُهُ ملءى سبحانه جلّ في علاه، يرزق الطير في السماء، و يرزق الدواب و الحشرات و السمك في الماء، و الإنسان على ظهر هذه الأرض.. و أنا أقول لكم من فوق هذا المنبر: إذا كان ربُّنا يرزق الفجّار الكفّار، أفيرزق الكفّار و ينسى من وحّد العزيز الغفّار؟..
في مدينة من مدن تونس أعرف شخصا، بل هو من عائلتي و بكلّ أسف ينتسب لدين الإسلام، و مع ذلك يبيع في محلّه، وهو صاحب مقهى و مطعم، يبيع الخنزير و الخمر، فأقول له: أنت مسلم ؟.. فيقول: نعم. قلت له: أتعلم أنّ الله قد حرّم الخمر؟.. يقول: نعم. قلت: أتعلم أنّ الله قد حرّم الخنزير؟.. يقول: نعم. قلت له: أتعلم ذلك و تصرّ على بيع الخمر و الخنزير؟.. فيقول لي: أنت عارف الظروف يا شيخ.. أرزاق.. أقول: لا. ما جعل الله عزّ و جلّ الرزق في الحرام.. يردّ عليّ و يقول: انظر لهؤلاء الأوروبيين الذين يأتون إلى تونس، يعيشون في رغد من العيش و ليسوا على معصية بل هم على الكفر..
انظر أخي المسلم إلى مداخل الشيطان، انظر إلى كلمات الشيطان يجريها على الألسنة، كلام لا يقبله مؤمن، أنت تقول بأنّني على معصية، نعم و أنا معترف بذلك، فما جوابك إن كان هؤلاء على الكفر و الله يرزقهم من أوسع الأبواب ؟.. كاد أن بنتصر عليّ لولا قول الملك الديّان، تدبّر معي قول الرحيم الرحمان: " و لو أنّ أهل القرى آمنوا و اتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ". طيّب بقي الفتح الثاني: " فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء، حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابرُ القوم الذين ظلموا و الحمد لله ربّ العالمين ". فلمّا نسوا ما ذكّروا به، ماذا فعل بهم الملك ؟.. الله أكبر، كان من المفروض، فخسفنا بهم الأرض.. فلمّا نسوا ما ذكّروا به أرسلنا علينا الرياح.. فلما نسوا ما ذكّروا به، أرسلنا عليهم الطوفان.. لا أبدا، فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء..
تأتي إلى تونس، تجد كلّ أنواع الخيرات، كلّ أسباب المتعة الحياتية.. أبواب كلّ شيء.. لكن ربُّكم تبارك و تعالى يوضّح هذه الآية الكريمة في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحبّ من النعم و هو مقيم على معصية الله فأعلم بأنّه مستدرج من الله جلّ وعلا ". استدراج يا مؤمن، وهو في غفلة، استدراج، " ألم تر كيف فعل ربّك بعاد * إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربّك صوت عذاب * إنّ ربَّك لبا لمرصاد ".. فكم من مستدرج بنعم الله عليه و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بحلم الله و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بستر الله و هو لا يدري.. و كم من مستدرج بفضل الله و هو لا يدري.. فاعلم بأنّك في بوتقة ابتلاء، و دار اختبار، إن منّى عليك بالأموال فإنّك مختبر، و إن ضيّق عليك فأنت مختبر.. قال تعالى: " و نبلوكم بالشرّ و الخير فتنة ". يعني الشر فتنة، و الخير فتنة..
2) من يتّقي الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب.. و هذا ثمرة ماذا ؟.. حتما الصيام.. نتاج الصوم التقوى.. لماذا التقوى ؟.. للأسباب المذكورة.. قال تعالى: " و من يتّقي الله يجعل له من أمره يسرى ". في سورة النور، التقوى سبب لتيسير الأمر.. إذا أردت أن يقضي الله لك حاجة من حوائجك و أن ييسّر الله لك أمرك، فدرّب نفسك على أن تلجأ ابتداءً إلى الله بقلبك و جوارحك، فإذا غلّقت الأبواب في وجهك فقُلْ بإيمانٍ و أنت عازم على ذلك: " إنّي متوكِّلٌ على الله.. إنّي أفوِّضُ أمري للحيّ الذي لا يموت.. القيّوم، القائم على إدارة شؤون كونه و ملكه و عباده ".. و لكن أقول لكم: لا مانع من أن تأخذ بالأسباب، و لا مانع من أن توسِّط الوسطاء، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه.. لا حرج على الإطلاق، و من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها.. و لكن درّب نفسك على أن توجّه قلبك إلى الله ابتداءً جلّ و علا، و أن تقوم من الليل لتصلّي ما كتب الله لك، و قبل أن تخرج أن تركع ركعتين لقضاء الحاجة و بعد ذلك انظر إلى ثمرة التقوى، " و من يتّقي الله يجعل له من أمره يسرى ".. و من بعد سترى أنّ الله عزّ و جلّ قد ذلّل لك كلّ الصعاب، و سخّر لك كلّ الناس المحيطين بك لتيسير أمرك و قضاء حاجتك.. و ستلاحظ أنّ كلّ هؤلاء، كلّ من سُخِّر لخدمتك قد حرّك قلبه الله..و أجرى قلمه الله جلّ في علاه.. يجب عليك أن تعلم و أن تؤمن بأنّه ليس هناك ورقة في شجرة هنا في تونس أو في الصّين، تسقط على الأرض إلاّ بعلم الملك، و بأمره تبارك و تعالى.. هذه العقيدة لمّا ترسخ في القلب تصبح قمّة القوّة و منتهى العلم و الفكر، لمّا يكون علمك يقينٌ بأنّ الشجرة هنا في تونس أو في أيّ مكان من العالم، لا تسقط منها ورقة إلاّ بإذنه و علمه. " و عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلاّ هو، و يعلم ما في البرّ و البحر و ما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ".. صدق الله العظيم..
أقول ما تسمعون فإن كان صوابا فمن عند الله، و إن كان غير ذلك فمن نفسي و من الشيطان و استغفر الله العلي العظيم لي و لكم و لوالدي و لوالديكم و للمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، و توبوا إليه إنه هو الغفور التواب و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العظيم..
الثانية: بعد رمضان المواظبة على الأعمال الصالحة
الحمد لله الدائم الباقي الذي لا افتتاح لوجوده و لا اختتام.. كلّ من عليها فان، و يبقى وجه ربّك ذو الجلال و الإكرام.. أحمده و أشكره جعل الفلاح لمن صام و قام و عمل بأحكام الدّين القويم.. و استغفره و أشهد أن لا إله إلاّ الله العليّ العظيم.. و أشهد أنّ سيدنا محمّدا عبده و رسوله ذو القلب الرحيم.. اللهمّ فصلّ و سلّم على سيّدنا محمّد و على آله و أصحابه و من تمسّك بهديه إلى يوم الدّين..
أمّا بعد، فيا عباد الرحمان، أوصيكم و نفسي أوّلا بتقوى الله تعالى و طاعته – أيّها الناس – احذروا المعاصي فإنّها موجبات للخسران و الإذلال، و لا تبطلوا ما أسلفتم في شهر رمضان من صالح الأعمال، و لا تكدّروا ما صفا لكم فيه من الأوقات و الأحوال، فداوموا على الطّاعات و لا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، و لا تقولوا الآن ذهب رمضان و تستهلّوا شوّالا بالفسوق و العصيان، فإنّ الله يرضى عمّن أطاعه في أيّ شهر كان، و يغضب تعالى على من عصاه و خالفه في أيّ وقت و أوان، و من يعصي الله و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين.. فكونوا مسلمين حقّا و مؤمنين صدقا، تعبدوا الله على الدّوام..
قال عليّ كرّم الله وجهه: التوبة هي اسم يقع على ستّ معان: على الماضي من الذنوب الندامة، و لتضييع الفرائض الإعادة، و ردُّ المظالم، و إذابة النفس في الطّاعة كما ربّتها في المعصية، و إذاقة النفس مرارة المعصية، كما أذقتها حلاوة الطّاعة، و البكاء بدل ضحِكٍ ضحكته.. أيها المذنب، التوبة هي صدق العزيمة على ترك الذنوب، و الإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب.. كثير منّا من هو مصرّ على المعصية، فعلينا أن ننهاه عنها بلطف، و لين، و أن ننصحه برفق و أناة، ليرجع إلى الصواب، و يخاف يوم الحساب.. اللهم من كان منّا مصرّ على معصية أخرجها الآن من قلبه يا ربّ..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " توبوا إلى الله فإنّي أتوب إليه كلّ يوم مائة مرّة ".( أخرجه البخاري و مسلم )و عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا، و من كلّ همّ فرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب ". ( أخرجه أبو داود و ابن ماجة )
حاسب نفسك يا عبد الله قبل أن يحاسبك الله، و انظر إلى صحيفة أعمالك و ماذا كتب فيها من صيام و قيام و برٍّ و نفقة و إحسان و صدقة و رحمة و مواساة و لو بإخراج الزكاة.. آهٍ على رمضان و قد انقضت أيامه، و ذهبت لياليه و تمّ صيامه و قيامه، و عمّا قريب يزول تعبه و آلامه، و يسوء المخبتين تمامه، و تجفّ صحائفه و ترفع أقلامه، عليه منّا جميعا و من المؤمنين تحيّة الله و سلامُهُ، و نسأله تعالى أن يعود علينا عامُهُ، و نحن بخير و عافية و قد رُفعت للدّين أعلامُهُ، و ساد دستورُهُ و نظامُهُ، و الله يخلّصنا من النار قبل أن يحلّ ختامُهُ.. في ذمّة الله يا شهر التلاوة و التسبيح، و في دعة الله يا شهر القيام بالتراويح، و في أمان الله يا شهر المصابيح و المتجر الربيح، يا شهر البرّ و الإحسان و اليمن و البركة و الرضوان و الإيمان الصحيح..
أيها الناس إنّ في يوم الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها الله شيئا إلاّ أعطاه إيّاه، فالتمسوها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة.. فأكثروا من الدّعاء و أمّنوا و صلّوا و سلّموا على من أمرتم بالصلاة و السلام عليه قديما و لا يزال قائلا تبارك و تعالى: " إنّ الله و ملائكته يصلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ". قال صلى الله عليه و سلم: " من صلّ عليّ حين يمسي عشرا و حين يصبح عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة ". اللهم فصلّ و سلم و زد و بارك على سيّدنا محمّد النبيّ المصطفى المختار، و على آله الطّاهرين الأخيار و على صحابته الميامين الأبرار المهاجرين منهم و الأنصار..اللهم إنّا نسألك أن تعزّ الإسلام و المسلمين، و أن تذلّ الشرك و المشركين، و أن تجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.. اللهم ها نحن نرفع أكفّ الضراعة إليك نرجو رحمتك و نخشى عذابك.. اللهمّ فرّج همّ المهمومين، و نفّس كرب المكروبين، و اقض الدّين عن المدينين، و اشف مرضانا و مرضى المسلمين.. اللهمّ أعد علينا رمضان مرّات عديدة، و كرّات مديدة.. اللهم أكتبنا ممّن صام رمضان و قامه إيمانا و احتسابا.. اللهم أكتبنا ممن قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا، اللهم أكتبنا من زوار بيتك الحرام، اللهم أكتبنا في سابق علمك ممّن لبّى دعوة إبراهيم الخليل يا أرحم الراحمين.. اللهم يا فالق الحبّ و النوى و يا عالم السرّ و النجوى أعط لكلّ امرئ حاضر معنا ما نوى، اللهم يسّر لنا زيارة بيتك.. اللهم لا تحرمنا من الوقوف على قبر نبيّك و حبيبك و خليلك و مصطفاك محمّد عليه أفضل الصلاة و السلام..
اللهم لا تجعلنا ممّن استهوته الشياطين فقذفته في الجحيم.. اللهم هؤلاء عبادك، صاموا شهرك و ختموا كتابك، يرجون رحمتك و يخشون عذابك، اللهم أعطهم و لا تحرمهم، و أكرمهم و لا تهنهم و اجعل قرآنك شفيعا لهم يا أرحم الراحمين.. اللهمّ لا تحرمنا بخير ما عندك بسوء ما عندنا.. اللهم ارزقنا لذّة النظر إلى وجهك الكريم و الشوق إلى لقائك.. اللهمّ كما آمنّا بنبيّك و لم نره فلا تفرّق بيننا و بينه حتّى تدخلنا مدخله، يا أرحم الرحمين.. اللهم ارحم و اغفر لوالدينا مغفرة تامة واسعة، اللهم ارحمهما أضعاف بما كانا بنا مترحمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم من كان والداه على قيد الحياة فوفقه ببرّهما و الإحسان إليهما و العطف عليهما.. اللهم من كان والداه قد فارق الحياة، فنوّر قبورهما بالنور و بالحبور و بالسرور..
أسأل الله لي و لكم منازل الشهداء، و معايشة السعداء، و مرافقة الأنبياء.. اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما و تفرّقنا من بعده تفرّقا معصوما، و لا تجعل فينا شقيّا و لا محروما و لا معذّب بنار، يا عزيز يا غفّار..آمين يا رب العالمين و صل وسلم و بارك على سيد الأولين و الآخرين محمّد بن عبد الله و على آله الطيبين و صحابته الميامين، و على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتقون. اذكروا الله يذكركم واشكروه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الشيخ محمّد الشاذلي شلبي
الإمام الخطيب
جامع عثمان بن عفّان - تونس
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
نسأل الله المتعة يوم المزيد وألا يجعل حظنا من طاعاتنا ما أنعم به علينا في الدنيا شكرنا الخالص لكم شيخ محمد
تعديل التعليق