حال النبي العدنان في شهر شعبان (الجمعة 1442/8/6هـ)
يوسف العوض
الخطبة الاولى
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : عِنْدَمَا دخلَ شهرُ شعبانَ ، رَأَى الصحابةُ رضوانَ اللهِ عَلَيْهِم رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عَلَيْه وسلَّم يصومُ فِي هَذَا الشهرِ مَا لَا يصومُ فِي غيرهِ ، فَسَأَلُوه عنِ سببِ ذلكَ واختصاصهِ شعبانَ بهذهِ الزيادةِ الواضحةِ فِي هَذِهِ العبادةِ الربانيةِ حَتَّى يكادَ أَن يصومَهُ كلَّهُ ، فَقَدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أسامةَ بْن زيدٍ أَنَّه قالَ لِلنَّبِيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم : "ولم أركَ تصومُ فِي شهرٍ مَا تصومُ فِي شعبانَ ؟ قالَ : [ذاكَ شهرٌ يغفلُ الناسُ عَنْه بينَ رجبٍ ورمضانَ ، وَهُو شهرٌ ترفعُ فِيه الأعمالُ إلَى ربِّ العالمينَ عزَّ وجلَّ ، فأحبُ أَن يرفعَ عَمَلِي وَأَنَا صائم] حَسَنَة الْأَلْبَانِيّ ، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَبَبَ كَثْرَة صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ بَيْن رَجَب الْحَرَام وَرَمَضَان الْمُبَارَك ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي زَمَانِ غَفْلَةِ النَّاس ، لِأَنَّ لِلْعِبَادَةِ وَقْتَ الْغَفْلَةِ مَزَايَا كَثِيرَةً ، فَهِيَ سَبِيلُ أَهْلِ الصَّفْوَة ، وَعَلَامَةُ الْيَقَظَةِ ، وَدَلِيلُ حَيَاةِ الْقَلْبِ وَتَعَلُّقِه بِاَللَّهِ لَا بِالنَّاس .
ثُمَّ إنَّ الْعِبَادَةَ وَقْتَ الْغَفْلَةِ أَكْثَرَ مَشَقَّةً عَلَى النُّفُوسِ ؛ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ الْعَابِدِين وَنُدْرَةِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ ، وَكَثْرَةِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ فتستمرأ الْمَعَاصِي ، وَتَسْهُل وتَخِفُ عَلَيْهِم ، وتَستثقلُ الطَّاعَةَ وَتَصْعُبُ عَلَى النُّفُوسِ لغربةِ أَهْلِهَا بَيْنَ النَّاسِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : [بدأ الْإِسْلَامُ غريبًا وَسَيَعُودُ غريبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى للغرباء] ، وَجَاء وَصْفَهُمْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُم : [الذين يُصْلِحُون إذَا فَسدَ النُّاسُ] و فِي لَفْظِ [قومٌ صَالِحُون قَلِيلٌ فِي نَاسٍ سُوءٍ كَثِيرٍ ، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم ] وَالْعِبَادَةُ زَمَانَ الْغَفْلَةِ ادَّعَى لِلْإِخْلَاص ، وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَذَلِك لِخَفَائِهَا عَنْ أَهْلِ الْغَفَلَات ، فَأَهْلُ الْغَفْلَةِ فِي غَفْلَتِهِم لَا يَلْتَفِتُونَ لِمَن يُطِيعُ اللَّهَ وَلَا غَيْرَهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْعَمَلُ أَخْفَى وَأَبْعَدُ عَنْ عُيُونِ النَّاس ، كُلَّمَا كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَادَّعَى إلَى الْإِخْلَاصِ ، وَفَضْلُ عَمَلِ السِّرِّ عَلَى عَمَلِ العلن كَفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى صِدْقِهِ الْعَلَانِيَةِ ، وَفِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : [ورجل تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يمينُه] ، [ورجل ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عيناه] ، ثُمَّ إنَّ الطَّاعَةَ وَقْتَ الْغَفْلَةِ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْبَلَاء ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِأَهْلِ الطَّاعَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَة ، وَبِأَهْلِ الْيَقَظَةِ عَنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ ، فَيَمْنَعُ وُقُوعَ الْبَلَاءِ الْعَامِّ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَفِي شَعْبَانَ تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إلَى اللَّهِ ، وَهَذَا هُوَ الرَّفْعُ السنوي كَمَا أَنَّهَا تُرْفَعُ رَفْعاً أُسْبُوعِيّاً فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ ، فَأَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ رَفَعِ عَمَلِهِ فِي طَاعَةِ الِلَّهِ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ عَمَلَه وَيَغْفِرَ زَلَلَـه ، وَهَذِه دَعْوَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأْمَتِهِ لإتقانِ الْعَمَلِ فِي هَذَا الشَّهْرِ ، فَإِذَا كَانَتْ أَعْمَالُنَا تُرْفَعُ عَلَى اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَتُعَرضُ عَلَيْه لَزِمَنَا أَن نُكَثرَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَنَتْرُكَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ونُخَلصَ فِي أَعْمَالِنَا ونتقنَها ونُخلصَها مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ تَعِيبَُها وَتَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا وأَن نَلزمَ الطَّاعَاتِ ونداومَ عَلَيْهَا ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَرَانَا عَلَى مَا يُحِبُّ فَيُقْبَل عَمِلْنَا وَيَغْفِر زللنا ، كَمَا كَانَ حَالَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمَات أَن نُكثِّرَ الدُّعَاءَ إلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعَ إلَيْه ليتقبلَ مِنَّا وَيَعْفُوَ عَنَّا . أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ فِي شَعْبَانَ ، فَإِن لِشَعْبَانَ مَزِيَّةٌ أُخْرَى وَفَضْلًا آخَر اِخْتَصَّه اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ أَنْ قُلُوبَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى رَبِّهَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ، فيتفضلُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُوَحَّدٍ طَاهِرٍ مِنْ الشِّرْكِ ، وَكُلِّ قَلْبٍ نَقِي خَالٍ مِنْ الْبَغْضَاءَ وَالشَّحْنَاءَ وَالْحِقْدُ بِالْعَفْو وَالْمَغْفِرَة ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [يَطَّلِعُ اللهُ إلَى خَلقِه فِي ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خَلْقِه إلَّا لِمُشركٍ أَو مُشاحِنٍ](حسنه الألباني) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [يَطَّلعُ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ ، وَيَدَعُ أَهْلََ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يدعوه](حسنه الْأَلْبَانِيّ فِي صَحِيحِ الجامع) ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَفْوَ مُعَلَّقاً بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ عَنْ الشِّرْكِ بِكُلِّ مُظَاهِرِه ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ إلهِ وَخَالِقِه وَرَازِقِه ثُمّ تَخْلِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ كُلِّ ضَغِينَةٍ ، وَتَطْهِيرٍه عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ ، وَتَخَلُّصِهِ مِنْ كُلِّ قَطِيعَةٍ ، وَحِمَايَتِه عَنْ كُلِّ شَحْنَاءَ ، وَصِيَانَتِه عَنْ كُلِّ بَغْضاءَ فَهِي دَعْوَةٌ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، والبعدِ عَنْ الشِّرْكِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ ، وَأَقْبَحُ الْعُيُوبِ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مَعَهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ، أَيْ لَا فَرِيضَةً وَلَا نَفْلاً ، { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } ، وَهِي دَعْوَةٌ لتنقيةِ الْقَلْبِ وتطهيرِه من الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالشَّحْنَاء وَالْبَغْضَاء .
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : يُعلل كَثْرَةُ صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعْدَادِ لِرَمَضَانَ ، حَتَّى تَتَعَوَّد النُّفُوسُ الصِّيَامَ وتتمرنُ عَلَيْه ، وَتَجِدُ حَلَاوَةَ الصِّيَامِ وَلَذَّتَه ، فَتَدْخُلُ رَمَضَانَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ ، لِأَنّ شَعْبَانَ كَالْمُقَدَّمَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَان ، وَلِذَلِك اسْتَحَبُّوا فِيهِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي رَمَضَانَ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ والتعودِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ، وَهِي أَنَّنَا مقبلون عَلَى رَمَضَانَ فَنَحْتَاجُ أَنْ نُقْبَلَ عَلَيْه بِقُلُوبٍ جَدِيدَة مُسْتَعِدَّةٍ لِلْعِبَادَةِ مُقْبِلَةٍ عَلَى الطَّاعَةِ ، غَيْرَ متفرغةٍ لسفاسفِ الْأُمُورِ مِنْ ضغائنَ وأحقادٍ ، فَمِثْلُ هَذِهِ الْقُلُوبِ الْمَرِيضَةِ لَا تَنْتَفِعُ بِرَمَضَانَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِرَمَضَانَ قَلْبٌ لَا يجدُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا حِقْدا ، وَلَا يحسدُ أحداً عَلَى خَيْرِ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ ، فَهَذِه الْقُلُوبُ الموفقةُ الصَّالِحَة لِلْقُرْب وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْعِتْقِ مِنْ النَّارِ ، فاللهم طَهر قُلُوبَنَا مِنْ كُلِّ أَمْرَاضِهَا ، وزكِ نُفُوسَنَا مِنْ كُلِّ أوضارِها ، وَبَلَغنَا رَمَضَانَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي يُرْضِيك . .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق