حال المؤمن مع الذنب والمنجيات منه. معادة من 13/8/1437هـ
عبد الله بن علي الطريف
حال المؤمن مع الذنب والمنجيات منه. معادة من 13/8/1437هـ
أما بعد أيها الإخوة: في خِضم أحداث الحياة وتقلب المسلم بين أحوالها من خير وشر، وعمل صالح وآخر سيء يمليه الشيطان ويزينه يقع المسلم بذنوب كثيرة صغيرة وكبيرة، يكتبها الكرام الكاتبون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12] ومع ذلك فقد أتاح الله تعالى للمخطئ الفرصة بأن يتوب ويتراجع عن خطئه وضمن له السلامة منه قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» رواه ابن ماجة وحسنه الألباني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أيها الإخوة: إذاً مَنْ مِنْ بني آدمَ لا يقعُ بذنبٍ ولا يقارفُ معصية، والنَّبِيُّ ﷺ يقَولُ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد عَنْ أَنَسٍ وحسنه الألباني ويؤكد هذا المعنى بقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ [أَيْ: حيناً بعدَ حينٍ.] أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ، لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدُّنْيَا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا [المُفَتَّن: المُمْتَحَنُ، الذي فُتِنَ كثيراً.] تَوَّابًا، نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ» [أَيْ: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكرُ فيتوب.] رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
بل مَنْ هُوَ الذي لا يقعُ في معصيةٍ.. ورَسُولُ اللهِ ﷺ يقسمُ وهو الصادقُ بغيرِ قسمٍ أنَّ مقارفةَ الذنوبِ سُنةُ اللهِ في خلقِه فيقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فأيُ نفوسٍ أيها الإخوة: غيرُ نفوسِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ترقى لمنزلةٍ لا تُدركُها كبوة ولا تغلبُها شهوة.. لكن المؤمن مع ذلك يدركُ خطورةَ المعصيةِ وشناعتَها، وأنها جُرأةٌ على مولاه وإِبَاقٌ من سيده، ويعلمُ أنه ما من مصيبةٍ في هذه الدنيا إلا بذنب.. وهُو وإن وَاقعَ الذنبَ واقعَهُ مواقعةَ ذليلٍ خائفٍ مشفقٍ يتمنى ذلك اليومَ الذي يغادرُ فيه الذنبَ ويتخلصُ منه..
أيها الأحبة: لقد كان سلفُ الأمة أهلُ الورع والخشيةِ والزهدِ والعبادةِ يتحدثون كثيراً عن المعصية، ويخشون على أنفسهم من شُؤمها فكيف بنا معاشر الإخوة ونحن نعيشُ في عصرٍ قد أجلبت علينا الفتنُ والشهواتُ بخيلِها ورجلِها، وصرنا نرى ونسمعُ صباحَ مساء ما يغرينا بالمعصية ويحثُنا عليها، وما يثبطُنا عن الطاعةِ ويحجزُنا عنها إلا مَنْ رحم اللهُ.. فما سبيلنا لمجانبة سبيل العاصين، والسيرِ في ركابِ الطائعين المخبتين..
أيها الإخوة: لقد ذكر ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في كتابه مفتاح دار السعادة أن حال العبد وهو يقارف المعصية لا يخلو من إحدى حالين: والله تعالى إنما يغفرُ للعبدِ إذا كان وقوعُ الذنبِ منه على وجهِ غلبةِ الشهوةِ وقوةِ الطبيعةِ فيواقعُ الذنبَ مع كراهتِه له من غير إصرارٍ في نفسه؛ فهذا تُرجى له مغفرةُ اللهِ، وصفحُه وعفوه لعلمِه تعالى بضعفِه وغلبةِ شهوتِه له، وأنَّه يرى كلَ وقتٍ مالا صبر له عليه.. فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعةَ ذليلٍ خاضعٍ لربِه خائفٍ مختلجٍ في صدرِه شهوةَ النفسِ للذنبِ وكراهةَ الإيمانِ له.. فهو يجيبُ داعيَ النفسِ تارة، وداعيَ الإيمانِ تارات. هذا القسم الأول.
أما الثاني: فهو من بنى أمرَه على ألا يقفَ عن ذنبٍ، ولا يُقَــــدِّمُ خوفاً ولا يدعُ لله شهوة، وهو فَرِحٌ مسرورٌ يضْحَكُ ظهراً لبطنٍ إذ ظفرَ بالذنبِ؛ فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحالَ بينه وبين التوبة ولا يوفقُ لها..
وقال رَحِمَهُ اللهُ في مدارج السالكين: الفرحُ بالمعصيةِ دليلٌ على شدةِ الرغبةِ فيها والجهلِ بقدر من عصاه، والجهلِ بسوء عاقبتها وعِظمِ خطرِها.. ففرحه بها غطى عليه ذلك كلَه، وفرحُه بها [أي بالمعصية] أشدُ ضرراً عليه من مواقعتها، والمؤمنُ لا تتمُ له لذةٌ بمعصيةٍ أبداً.. ولا يكمُلُ بها فَرَحُه، بل لا يُباشرُها إلا والحزنُ مخالطٌ لقلبه، ولكنَّ سُكْرَ الشهوةِ يحجبُه عن الشعورِ به، ومتى خليَ قلبُه من هذا الحُزنِ واشتدت غبطتُه وسرورُه [أي بالمعصية] فليتهمْ إيمانَه.. ولْيَبْك على موت قلبه؛ فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكابُه للذنبِ وغَاضَه وصَعُبَ عليه ولأحسَ قلبُه بذلك فحيث لم يحسُ به فما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ..
أيها الإخوة: ليعرض كلُ واحدٍ منا نفسه على هذا التقسيم الجميل والوصف البليغ فإن وجد خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليراجع نفسه قبل أن يندم ولات ساعةَ مندمِ.. ومما يعينُ المؤمنَ على النجاة من شؤم المعصية: استعظام الذنب: فبقدر ما يعظُم الذنب في نفس المرء ويكبر يزدادُ بُعدُه عنه.. ولقد صور عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المؤمن مع ذنبه تصويراً دقيقاً فَقَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. رواه البخاري. قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة.. والفاجرُ قليلُ المعرفةِ بالله فلذلك قلَّ خوفُه من الله واستهان بالمعصية.. وقال بن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلبَ الفاجرِ مظلمٌ فوُقُوع الذنبِ خفيفٌ عنده ولهذا تجد من يقعُ في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل...!
أحبتي: إن استعظامَ الذنبِ واستكبارَه مهما كان صغيراً حالُ عبادِ الله الصالحين ولقد عَدَ بعضُ العلماءِ احتقارَ الذنبِ من الكبائر.. قال الأوزاعي رحمه الله: كان يقال من الكبائر أن يعملَ الرجلُ الذنبَ يحتقره.
واعلم أيها الأخ المبارك: أن استعظام الذنبِ يتولدُ منه لدى صاحبِه استغفارٌ وتوبةٌ وبكاءٌ وندمٌ وإلحاحٌ على اللهِ عز وجل بالدعاءِ وسؤالُه تخليصَه من شؤمِه ووباله.. وما يلبث أن يُلِّدَ دافعاً قوياً يُـمَكْنُ صاحبَه من الانتصارِ على شهوتِهِ والسيطرةِ على هواه..
ومما يعين المؤمن على النجاة من شؤم المعصية: الخوفُ من محقرات الذنوبِ ولقد حذر منها رَسُولُ اللهِ ﷺ وضرب لها مثلاً بليغاً فقال: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ".. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ [أي إعداد أكلهم] فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُوَيْدِ حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ سَوَادًا ثُمَّ أَحْجَوْا نَارًا فَأَنْضَجَتْ مَا قُذِفَ فِيهَا" رواه أحمد والطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وقال الألباني صحيح لغيره إن العُودَ الأولَ لا يصنعُ شيئاً ولا الثاني كذلك لكنها حين تجتمعُ تصبح حطباً يُشعلُ النارَ وينضجُ العشاءَ..
خلِ الذنوبَ صغـــــــــــــــــــــــيرَهـــا وكبيرَها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوقَ أرضِ الشوكِ يحذرُ ما يرى
لا تحقرنَّ صغـــــــــــــــــــــــــــيرةً إن الجبــــــــــال من الحصى
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لإمِنَا عَائِشَةَ: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا» رواه ابن حبان وابن ماجة وصححه الألباني، وخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فقَالَ: «...أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَيَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِي بَعْضِ مَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَيَرْضَى بِهَا..» رواه ابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ رضي الله عنه وقال الألباني صحيح. ويقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: استقلال العبد للمعصية عينُ الجرأةِ على اللهِ وجهلٌ بقدرِ من عصاه وبقدر حقه، وإنما كان مبارزةً لأنه إذا استصغرَ المعصيةَ واستقلها هان عليه أمرُها وخفت على قلبه وذلك نوع مبارزة..
أيها الإخوة: لنقف مع أنفسنا وننظر فيما نقع فيه من محقرات الذنوب فسنجد كماً كبيراً منها.. وسيرى الإنسان نفسه وقد جمع طوداً عظيماً من محقرات الذنوب التي قد تكون سبباً في هلاكه..
قال شيخ الإسلام في كتابه المفصل في شرح حديث من بدل دينه فاقتلوه: وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ: إنِّي أُذْنِبُ قَالَ: تُبْ، قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: تُبْ قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: تُبْ قَالَ: إلَى مَتَى قَالَ: إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18،19]
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومما يعين المؤمن على التخلص من شؤم المعاصي: عدمُ المجاهرةِ بها، ولقد دلت السنةُ على أن المعصية التي يَسْتَـــتِرُ بها صاحبُها أخفُ جُرْماً من التي يُعلنها.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" والمجاهر: هو الذي يظهر المعاصي، ولا يتحاشاها اطراحا لأوامر الله تعالى. رواه البخاري عن أَبَي هُرَيْرَةَ
أيها الإخوة: حينما يبتلى أحدُنا فتغلبُه نفسُه الأمارةُ بالسوء ويدعوه هواهُ لمقارفة معصية وارتكاب حُرمة، وقد خلا عن الناس وأرخى الستار على نفسه. عليه أن يستتر بستر الله ولا يهتك هذا السياج.. لأن المجاهرةَ بالذنب والحديثَ عنه على ما فيه من مخالفةٍ للأدب الشرعي وهَتكِ سِتْرِ الله تعالى، هو بنفسِ الوقت تكريسٌ للقدوةِ السيئةِ وتهوينٌ للمعصيةِ أمامَ الآخرين.. فحينما يقعُ الـمُتَحَدْثُ إليه بنفس الذنب يلتمسُ لنفسه العزاء بفعل الآخرين ممن حدثوه، ثم إن المجاهرين بحديث بعضهم لبعض ربما استفاد بعضهم من حيل غيره فيكون صنيعُهم من التعاون على الإثم والعدوان..
واعلم أيها المجاهر بالخطأ أنك إذا فتح الله عليك وتركت ما أنت عليه من المعصية ستشعر بالندم أنك تحدثت بفعلك القبيح للناس؛ لأنهم لن ينسوه، وستشعر عند لقائهم بالصغارِ والحقارةِ، ولن يطمرَ ما حدثتَهم به النسيان مهما طال الزمن فالحذر الحذر... اللهم وفقنا للتوبة والاستغفار في كل وقت وحين إنك جواد كريم.. وصلوا...