حالنا مع لهيب الحر ..
د محمد بن حمد الهاجري
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، صلى الله وسلم وبارك عليه ما تعاقبت الليالي والأيام.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
نعيش في هذه الأيام في أشد فصول العام حرارة، بل نعيش في أشد أيام الصيف حرارة، حرٌ شديدٌ يعاني منه الناس معاناة شديدة، خاصة في بلادنا التي تشهد ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة .. نسأل الله أن يجيرنا من حر يوم القيامة.
وإن المؤمن يعيش حياته دائم التفكر والاعتبار، فعندما يتفكر في تقلب الليل والنهار، والشهور والأعوام، والصيف والشتاء والخريف والربيع، يؤدي عبادة عظيمة يُؤجر عليها، ألا وهي عبادة [التفكر في خلق الله تعالى].
وإن التفكر والاعتبار من صفات أولي الأبصار والألباب، قال تعالى: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [سورة النور:44]، وقد ذكر الله لنا في كتابه صفات أولي الألباب أي أصحاب العقول والأفهام والنيرة ومنها التفكر في خلق الله تعالى، قال الله جل وعلا: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [سورة آل عمران:191].
وإنَّ المؤمنَ ليَعلمُ أنَّ هذا الحرَّ ابتلاءٌ مِن الله، وآيةٌ مِن آياتِه، وهو مِن أقدارِ اللهِ وحكمتِه ورحمتِه بعبادِه، ففيه مع قسوتِه وشدّتِه كثيرٌ مِن المنافعِ والمصالحِ لمعاشِهم ومعادِهم.
فالمؤمنُ في موجةِ الحرِّ الشديدِ لا يَتسخّطُ ولا يَتذمّر، بل يَتفكّرُ ويَتذكّر، فيَقتبسُ مِن جذوتِهِ ما يَزيدُ إيمانَهُ ويُهذّبُ نفْسَهُ ويُزكّيها، فعندما يَلفحُهُ سَمومُ الحرِّ وتكويهِ حرارةُ الشّمس، يَتذكّرُ نارَ جهنّمَ وسَمومَها، ويَتخيّلُ أهلَها وهم يُعذّبونَ فيها (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)[المؤمنون: 104]؛ فيَستعيذُ باللهِ منها.
وعندما يمشي تحتَ أشعّةِ الشّمسِ الملتهبة، ويَجدُ كلَّ شيءٍ يَلمسُه كالنّارِ الموقدة، والأرضُ تَغلي مِن تحتِه وتَفورُ كالجمرةِ الحارقة، يَتذكّرُ يومًا تَدنو فيه الشّمسُ مِن رؤوسِ العباد، ويُزادُ في حرِّها وهم حفاةٌ عُراةٌ، فيَفيضُ منهم العرقُ بحسبِ أعمالِهم، فمنهم مَن يَبلغُ العرقُ إلى كعبيه، ومنهم إلى حِقْوَيْه، ومنهم مَن يُلجِمُه العرقُ إلجامًا.
ويَتذكّرُ مَنْ يَقفُ على جمرتينِ مِن النّارِ يَغلي منهما دماغُه كما يَغلي المِرْجَلُ، ما يَرى أنّ أحدًا أشدَّ منه عذابًا وإنّه لأهونُهم عذابًا. فكيف بمن هم في دَرَكاتِ جهنّمَ يَتقلّبونَ، وفي حرِّها يَصطلونَ، وفي جحيمِها يُسْجَرون، ومِن زقّومِها يَأكلون، ومِن حميمِها يَشربون؟ نَسألُ اللهَ العافية.
فيَتذكّرُ المؤمنُ بحرِّ الصّيفِ حرَّ النّار، فيَتوبُ ويُقلعُ عن الذّنوبِ والأوزار، التي هي سببُ الهلاكِ والبوار..
تَفِرُّ مِن الهجيرِ وتَتّقيهِ *** فَهَلّا مِن جهنّمَ قد فَرَرْتَا
وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَاباً *** وَلَوْ كُنْتَ الْحَدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا
وَلاَ تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدُّ *** وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلاَ ظَنَنْتَا
فإنْ كانَ الفرارُ مِن حرِّ الدّنيا إلى الظلِّ والمكيفات، فلا فرارَ مِن حرِّ نارِ جهنّمَ إلا بفعلِ الطّاعاتِ وتَرْكِ السّيئات، والصّبرِ على المشقّةِ في ذلك واحتسابِ الأجرِ ورفعةِ الدّرجات.
فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، وحاسبوا أنفسَكم، وجاهدوها على طاعةِ ربِّكم، واستقيموا على ذلك في كلِّ وقتٍ وحالٍ، واحذروا مِن حالِ أهلِ الضّلال، الذينَ تَمُرُّ بهم الآياتُ ولا يَعتبرونَ ولا يَتفكّرونَ ولا يَتذكّرون (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81].
الخطبة 2
أما بعدُ: فقد أصبحَ من المعتادِ لدى الناسِ تَتبُّعُ درجاتِ الحرارةِ، وإتْباعُهم ذلكَ بالتأففِ والتألمِ من شدةِ الحرِ، وقد كانَ السلفُ يُحاسِبُ أحدُهمْ نفسَه في قولهِ: "يومٌ حارٌ، ويومٌ باردٌ".
ويَجملُ بالمسلمِ التوقيْ عن اتخاذِ هذا حديثاً في المجالسِ؛ لأن هذا التذمرَ لنْ يُغيرَ منَ الأمرِ شيئًا، ثمَ ألا نَشكرُ اللهَ على نعمةِ التكييفِ بالمنازِل والمجالسِ والمساجدِ والمدارسِ والمكاتبِ، بل والأسواقِ والمنتزهاتِ، قالَ بعضُ السلفِ: "إذا حَمِيَ عليَّ حرُ الصيفِ برّدتُه بذكرِ النعمِ"(تاريخ بغداد).
يَرغبُ الإنسانُ في الصيفِ الشتا *** فإذا جاءَ الشتا أنكرهُ
إنه لا يــرضَى بحــالٍ أبداً *** قُتِلَ الإنســــانُ ما أكفرهُ
وقد أرشدَنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدلَ التذمرِ من الحرِ أن نستعيذَ من النارِ، فقد قَالَ: "مَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ"(فتح الباري لابن رجب).
أيُها المسلمونَ: مرتْ علينا أيامٌ جاوَزَتْ فيها الحرارةُ الخمسينَ، فهل أدركْنا نعمةَ الكهرباءِ فاقتصَدْنا في استهلاكِها، وهلْ شَكرْنا ربَنا على تسخيرِها، ثم هلْ مِنْ شُكرِ نعمةِ الكهرباءِ أن نُشغّلَ بها ما حرَّمَ اللهُ؟ وهلْ مِنْ شُكرِها تشغيلُ ما زادَ عن حاجتِنا؟!
أيها المسلمون: عند خروجكم إلى الصلاة في هذه الأجواء الحارة الشديدة في وقت تتخاذل النفس فيه وتتكاسل، ويوسوس الشيطان لصاحبه بالصلاة في بيته في البراد والسعة، حدثوا أنفسكم أن نار جهنم أشد حرا، وأن الذي تعلق قلبه بالمساجد هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
كان بعض السلف إذا انصرف من صلاة الجمعة في حر الظهيرة تذكر انصراف الناس من موقف الحساب فريق إلى الجنة، وآخر إلى النار، فإن الساعة والقيامة تقوم يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال ذلك ابن مسعود -رضي الله عنه-، ثم تلا قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا).
كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذا الحر بابًا عظيمًا واسِعًا للمعروفِ والإحسانِ، فيصلون للمتعففين الذين حال الحر بينهم وبين راحتهم، فيبذلون ما جادت به أنفسهم، من إصلاح أجهزة أو تبريد مياه، يفرجون بذلك كربهم، ويخففون عن معاناتهم.
كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذا الحر بابًا عظيمًا لصدق اللجوء وإظهار الذل للعظيم الجبار، فيتوجهون إلى ربهم بالدعاء الصادق أن يقيهم وإخوانهم حر جهنم، وحر يوم الوقوف.
عَن أَنَسِ بنِ مَالِك، قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “من سألَ اللَّهَ الجنَّةَ ثلاثَ مرَّاتٍ قالتِ الجنَّةُ: اللَّهمَّ أدخلهُ الجنَّةَ، ومن استجارَ منَ النَّارِ ثلاثَ مرَّاتٍ، قالتِ النَّارُ: اللَّهمَّ أجِرْهُ منَ النَّارِ “(رواه النسائي والترمذي).
أيها المسلمون: ان أجسامنا لا تحتمل نار يوم القيامة، ونار يوم القيامة لا بد أن يجعل العبد بينه وبينها وقاية، وهذا هو تقوى الله، أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية، كما قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
أجارنا الله من عذاب النار، وبلغنا أعلى المنازل في النعيم والجنان، وتجاوز عنا وعنكم التقصير والنسيان.