حاجتنا إلى الأمل في زمن اليأس - الشيخ/ أحمد بن عبد الله القاضي

حاجتنا إلى الأمل في زمن اليأس - الشيخ/ أحمد بن عبد الله القاضي


ابتليت أمتنا بنكبات كثيرة على مر الدهور والأزمان حتى يومنا هذا.. وأشد أنواع النكبات التي بليت بها أمتنا تسرب اليأس إلى القلوب مما سبب فراغا للقلوب من الأمل، خاصة في عصرنا الذي هيمن عليه الأعداء في كل مفصل من مفاصل الحياة مما صنع عند كثير من الناس الإحباط والقنوط واليأس وعدم الأمل في إعادة مسيرة الحياة الصحيحة للأمة؛ لتحكم بنفسها وتتنفس عبير الحرية وفق شرع ربها.


فما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الفتن والغموض إلى عبادة الأمل. فمن يدري ربما كانت هذه المصائب المتلاحقة والمؤامرات المدبرة بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، لقد قال ربنا جل في علاه: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216]، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].


والأمل: هو توقع حدوث شيء محبوب في المستقبل مستبعد حصوله، وانشراح النفس في وقت الضيق والأزمات.

فالأمل للأمة كالروح للجسد: فلولا الأمل ما بنى بان، ولا غرس غارس، ولولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية؛ وذلك لأن المخترع لم يتمكن غالباً من تحقيق انجازه من أول مرة، أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي.

وإلا فما الذي يدفع الداعية للدعوة وتحمل المشاق في دعوته إلا الأمل في هداية الناس.. وما الذي يدفع المجاهد للجهاد في سبيل الله إلا أمله في الانتصار على العدو إما بالنصر أو الشهادة.. وما الذي يدفع الزارع للكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين؟ إنه أمله في الحصاد وجني الثمار.

وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر ومفارقة الأهل والأوطان؟ إنه الأمل في الربح. وما الذي يدفع الطالب إلى الجد والمثابرة والسهر والمذاكرة؟ إنه أمله في النجاح. وما الذي يجعل المريض يتجرع الدواء المرير، وربما في بعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية؟ إنه أمله في العافية.

وما الدافع الذي يجعل المؤمن يسلك سلوكاً تكرهه نفسه، وبه يخالف هواه ويطيع ربه؟ إنه أمله في مرضاة خالقه والجنة.

فالأمل إذاً قوة دافعة تشرح الصدر وتبعث النشاط في الروح والبدن، واليأس يولد الإحباط فيؤدي إلى الفشل.

اليأس طريق إلى الكفر: لأنه سوء ظن بالله قال الله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ففي معركة أحد يقول ربنا عن طائفة اليائسين: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154].

فالذين تهمهم أنفسهم فهم في قلق، وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون، ولم تطمئن قلوبهم إلى أنّ ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص، وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه، ولا غلبة للكفر والشر والباطل، فهم الطائفة ذوو الإيمان المزعزع، ولم تكتمل في قلوبهم حقيقة الإيمان، وهم لا يعرفون الله على حقيقته، فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية، ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيع جنده ودينه.

وقد حكم الله على اليائسين بالبوار فقال تعالي: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].

يقول سيد قطب رحمه الله: "لقد ظنوا ظنهم، وزين هذا الظن في قلوبهم، حتى لم يروا غيره، ولم يفكروا في سواه، وكان هذا هو ظن السوء بالله الناشئ من أن قلوبهم بور، وهو تعبير عجيب موح، فالأرض البور ميتة جرداء وكذلك قلوبهم، وكذلك هم بكل كيانهم بور، لا حياة ولا خصب ولا إثمار، وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله؟ لأنه انقطع عن الاتصال بروح الله؟ يكون بوراً، ميتاً أجرد نهايته إلى البوار والدمار" [في ظلال القرآن].

والقنوط صفة أهل الضلال، قال رب العزة سبحانه: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56] فالتشاؤم والطيرة شرك بالله تعالى، فالمؤمن يثق بموعود الله تعالى فلا يحزن ولا يضيق صدره بل يعلم أنَّ الغلبة لابد لأهل الإيمان.

فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

فالصحابة رضوان الله ضٌربوا وعُذِّبوا وأُوذوا، وضُيِّق عليهم في أرزاقهم، وحُوصروا في شعب أبي طالب؛ حتى أكلوا أوراق الأشجار، وتقيّحت شفاههم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا قبل حدوث ثورة الإسلام على الكفر والطغيان، كانوا يعيشون ويأكلون ويشربون، ولم تمر بهم هذه الأزمات ولم يمروا بهذه القلاقل، وأياًّ كانت العيشة فالمهم أنهم كانوا يعيشون، وليست المدة هينة لقد صبروا ثلاث عشرة سنة في العهد المكي، فالنفوس قد ملت وسئمت الاضطرابات والتضييق، فمن يوم أن قامت ثورتك يا رسول الله لم نر يوم راحة، فلتطلب من السماء التدخل الفوري لحل الأزمة، هكذا لسان حالهم ينطق "فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ" غضب صلى الله عليه وسلم لتسرب اليأس إلى قلوبهم، وحتى لو طالت المدة وانعدمت الأسباب، وانقطع شعاع النور وبدت الدنيا ظلاماً؛ ولذلك قال فيما رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ».

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: "لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ".

وقَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ مَالِكٌ: "إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّناً لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ -يَعْنِى فِي أَمْرِ دِينِهِمْ- فَلاَ أَرَى بِهِ بَأْساً، وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ وَتَصَاغُراً لِلنَّاسِ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نُهِىَ عَنْهُ".

إن اليأس داء خطير، العاجزون عن الإصلاح والمأجورون وأصحاب المصالح والمُعَوِّقون يزرعونه بين أفراد الأمة خدمة مجانية لأعدائها.

وإن أعداء الإصلاح والمرعوبين من تطبيق شرع الله؛ لأن أيديهم أول أيد بطشت وأول أيد سرقت، فيخشون أن تكون أول أيد تقطع، فيحاولون زراعة اليأس في قلوبنا حتى نيأس ونقنط من رحمة الله في تغيير أحوالنا، وحتى يقول الناس: "رب يوم بكيت منه فلما سرت في غيره بكيت عليه".

لقد كان للحكام والرؤساء والزعماء جنود البطش والطغيان، وزبانية السجون، فلقد حصنوا أنفسهم بأجهزة لأمن دولتهم.. عفواً لأمن سلطانهم، ومع أجهزة أمنهم أجهزة لتسويق جرمهم وتزيين أباطيلهم أجهزة إعلامية مأجورة.

والخطير أن هناك بعض الناس يذعن للدين ما دام فيه خير له ومنفعة وإلا انقلب عليه وانسل من تحت عباءته وصدق الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحـج: 11].

ولكن في المقابل دائماً هناك من يضحي بدمائه وجسده و روحه، وأولاده استبقاء للحق ونصرة للدين فيتعرض للبلاء والسحل والذبح والإبادة له ولأسرته، فلا يصده ذلك عن فكرته التي يحملها، يخرج ضد الظلم والكفر ولا يبالي مما يحصل له، بل ربما أنه على يقين بملاقاة ربه، ونموذج الإخوة الأبطال في سوريا اليوم خير شاهد:

لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً *** فلله أوس قادمون وخزرج

فإن سجوف الغيب تخفي طلائعاً *** مجاهدة رغم الزعازع تخرج

فتوضع اليوم الرشاشات والبنادق على رؤوسهم لتقطعمهم نصفين، وتقطِّع أمشاط الحديد من لحومهم وأجسادهم ولا يبالون، والأشد من ذلك: القتل المعنوي وإشاعة الإرهاب والباطل والنفاق على الحق والمصلحين، أكاذيب ليظهرهم في صورة العملاء والخونة والأنانيين، ومن يعقدون الصفقات، ويروِّجُون ذلك ويسوِّقونه بإعلامهم المضلِّل الذي يؤثر في العامة البسطاء الطيبين تأثير السحر.

وما دفعهم لهذه التضحيات إلا حبهم لله ولدينه ولأوطانهم ونصرة للحق، وثقة في وعده وأملاً في أن تحيى من بعدهم الأجيال حياة طيبة بثمرة تضحياتهم.

فعلينا إعداد النفس إعداداً جيداً لتنمو فيه بذور الأمل، ومن أهم هذا الإعداد الثقة في النفس، فلن تستشعر الأمل ما دمت لا تقدر نفسك وقدراتك:

إذا سمـاؤك يوماً تحجبت بالغيوم *** أغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم

والأرض حولك إذا ما توشحت بالثلوج *** أغمض جفونك تبصر تحت الثلوج مروج

رغم وجود الشر هناك الخير، رغم وجود المشاكل هناك الحل، رغم وجود الفشل هناك النجاح، رغم قسوة الواقع هناك زهرة أمل، كرر عبارات التفاؤل والقدرة على الإنجاز، استفد من تجاربك وعد إلى نجاحك السابق، إذا راودك الشك في النجاح أو حاصرك سياج الفشل لا تتذمر من الظروف المحيطة بك، بل حاول أن تستثمرها لصالحك ليس المهم أن تقع في الحوادث، المهم ما يحدث لنا من وقوع هذه الحوادث، ابتعد عن رثاء نفسك تغلب على مشاعر الألم، ولا تدع الآخرون يشفقون عليك، وفي أحد الأمثال القديمة "كما تفكرون.. تكونون".

وفي النهاية هذه بارقة أمل يمكن إضافة بوارق أخرى للأمل لنخرج من تيه اليأس الذي سيطر على القلوب.
المشاهدات 2400 | التعليقات 0