جنة الخلد (5) تربة الجنة وأشجارها
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/06/09 - 2014/04/09 16:32PM
جَنَّةُ الخُلْدِ (5)
تُرْبَةُ الجَنَّةِ وَأَشْجَارُهَا
11/6/1435
الْحَمْدُ لله الْجَوَّادِ الْكَرِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ جَعَلَ الْجَنَّةَ دَارَ المُتَّقِينَ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا بِالْحُورِ الْعِينِ، وَكَمَّلَهَا بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزُّخرف: 71]، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيلِ مِنَنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَعَدَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِنَعِيمٍ مُقِيمٍ، وَمُلْكٍ كَبِيرٍ، لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: 20]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّة وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَإِتْبَاعِ الْعِلْمِ الْعَمَلَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ، وَلَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ مِنْهَا إِلَّا مَا عَمِلَ فِيهَا، وَإِنَّ تَقْوَى الله تَعَالَى طَرِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62 - 64].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْحَدِيثُ عَنِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ، تُحِبُّهُ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَرْوِحُ بِهِ أَنْفُسُ المُتَّقِينَ، وَيُزِيلُ كُرُوبَ المَهْمُومِينَ، وَيَزِيدُ يَقِينَ المُوقِنِينَ، وَيَشُدُّ صَبْرَ الصَّابِرِينَ.
إِنَّهُ عُدَّةُ المُؤْمِنِينَ فِي ابْتِلَاءَاتِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَفِي السَّرَّاءِ لَا يَغْتَرُّ وَلَا يَبْطَرُ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ دَارًا لَا يَدْخُلُهَا أَهْلُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَفِي الضَّرَّاءِ لَا يَجْزَعُ لعِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ نِهَايَةَ المَطَافِ؛ فَثَمَّةَ قَبْرٌ وَبَعْثٌ وَحِسَابٌ وَجَزَاءٌ.
إِنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ دَارٍ لَا دَارَ مِثْلُهَا، وَعَنْ نَعِيمٍ لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ الْآذَانُ، وَلَا يَرِدُ فِي الْخَيَالِ، فَمَهْمَا جَالَ الْعَبْدُ بِفِكْرِهِ فِي نَعِيمٍ يَتَمَنَّاهُ، وَلَذَّةٍ يَطْلُبُهَا، وَسَعَادَةٍ يَنْشُدُهَا؛ فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَكْبَرُ مِمَّا تَخَيَّلَ وَمِمَّا تَمَنَّى.
وَالْحَدِيثُ عَنِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ ذُو شُجُونٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ. وَفِي الْجَنَّةِ تُرْبَةٌ وَأَشْجَارٌ وَظِلَالٌ، فَمَا تُرْبَتُهَا؟ وَمَا أَشْجَارُهَا؟ وَمَا طُولُ ظِلَالِهَا؟ كُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِيَشْتَاقَ قَارِئُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمُسْتَمِعُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَعْمَلَ بِمَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا، وَيَجْتَنِبَ مَا يُبَاعِدُهُ عَنْهَا.
وَتُرْبَةُ الْجَنَّةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الطِّيبِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ: أَنَّهَا فِي الْبَيَاضِ دَرْمَكَةٌ، وَفِي الطِّيبِ مِسْكٌ، وَالدَّرْمَكُ هُوَ الدَّقِيقُ الْحَوَارِيُّ الْخَالِصُ الْبَيَاضِ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَاشْتَاقَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمًا إِلَى حَدِيثِ الْجَنَّةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ فِي ظِلَالِهَا ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: 56]، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ [المرسلات: 41].
وَظِلَالُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ حَجْمِهِ، وَظِلَالُ الْجَنَّةِ مُتَّسِعَةٌ لِعِظَمِ أَشْجَارِهَا وَضَخَامَتِهَا، وَمَا سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ جَنَّةً إِلَّا لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا، وَاشْتِدَادِ خُضْرَتِهَا، وَمِنْ شَجَرِهَا السِّدْرُ وَالطَّلْحُ، وَثَمَرُهَا فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ ثَمَرٍ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ أَيْ: لَا شَوْكَ فِيهِ ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ [الواقعة: 28 - 29] أَيْ: صُفَّتْ فِيهِ الثِّمَارُ الطَّيِّبَةُ.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ... أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرُ؛ فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ [الواقعة: 28] يَخْضِدُ اللهُ شَوْكَهُ فَيُجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةٌ، فَإِنَّهَا تُنْبِتُ ثَمَرًا، تُفْتَقُ الثَّمَرَةُ مَعَهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا، مَا مِنْهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا كَانَ السِّدْرُ الَّذِي فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يُثْمِرُ إِلَّا ثَمَرَةً ضَعِيفَةً، وَهَى النَّبْقُ، وَفِيهِ شَوْكٌ كَثِيرٌ، وَالطَّلْحُ الَّذِي لَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الظِّلُّ فِي الدُّنْيَا، يَكُونَانِ فِي الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ كَثْرَةِ الثِّمَارِ وَحُسْنِهَا، حَتَّى إِنَّ الثَّمَرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَتَفَتَّقُ عَنْ سَبْعِينَ نَوْعًا مِنَ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ الَّتِي لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَمَا الظَّنُّ بِثِمَارِ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةَ الثِّمَارِ، طَيِّبَةَ الرَّائِحَةِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ»اهـ.
وَدُونَكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- هَذَا الْحَدِيثَ الْعَجِيبَ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لاَ يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30]» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَهُمَا «إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا»
وَالجَوَادُ المُضَمَّرُ: هُوَ الَّذِي حُبِسَ عَنْهُ الطَّعَامُ لِيَشْتَدَّ جَرْيُهُ.
يَا لِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَظَمَةِ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ! إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْوَاحِدَةَ فِيهَا، وَبِحِسَابِ سُرْعَةِ الْخَيلِ فِي مِائَةِ عَامٍ تُظَلِّلُ مَسَاحَةً بِحَجْمِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ آلَافِ مَرَّةٍ عَلَى الْأَقَلِّ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ تَهْرَمُ الْجَذَعَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ تَسِيرُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، فَلَا تُحِيطُ بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى»، فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: «لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ». فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَتَيْتَ الشَّامَ؟» فَقَالَ: لَا، قَالَ: «تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ تُدْعَى الْجَوْزَةُ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا»، قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ: «لَوْ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةٌ مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ، مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا»، قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: «مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَلَا يَفْتُرُ»، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْحَبَّةِ؟ قَالَ: «هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ، قَالَ: اتَّخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: «نَعَمْ وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ الْحَبَّةَ مِنَ الْعِنَبِ كَأَعْظَمِ دَلْوٍ.
وَأَشْهَرُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ: سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَجَاءَ وَصْفُهَا فِي السُّنَّةِ بِمَا يَأْخُذُ الْأَلْبَابَ؛ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلاَلُ هَجَرَ- يُرِيدُ: أَنَّ ثَمَرَهَا فِي الْكُبْرِ مِثْلُ الْقِلَالِ- وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ». وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ..»، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: «فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَهَا تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا».
فَلْنَتَخَيَّلْ شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، وَقَدْ غَشِيَهَا مِنْ نُورِ اللهِ تَعَالَى مَا زَادَهَا حُسْنًا عَلَى حُسْنِهَا، وَثِمَارُهَا كَالْقِلَالِ الْكَبِيرَةِ. فَمَا حَجْمُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ وَمَا مَسَاحَةُ ظِلِّهَا؟ وَمَا مِقْدَارُ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا؟
إِنَّهَا لَا تُوصَفُ، وَقَدْ قَالَ مَنْ رَآهَا ﷺ: «فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا».
إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ جَنَّتَيْنِ مِنْ جَنَّاتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ [الرَّحمن: 48]؛ أَيْ: أَغْصَانٍ نَضِرَة حَسَنَةٍ، تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ نَضِيجَةٍ فَائِقَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ.
وَوَصَفَ جَنَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِأَنَّهُمَا ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرَّحمن: 64]، وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّهْمَةِ، وَهِيَ لَوْنُ السَّوَادِ، وَهو مُبَالَغَةٌ فِي شِدَّةِ خُضْرَةِ أَشْجَارِهِمَا، حَتَّى تَكُونَا بِالْتِفَافِ أَشْجَارِهَا وَقُوَّةِ خُضْرَتِهَا كَالسَّوْدَاوَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ إِذَا كَانَ رَيَّانَ اشْتَدَّتْ خُضْرَةُ أَوْرَاقِهِ حَتَّى تَقْرُبَ مِنَ السَّوَادِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ احْتِوَاءِ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ عَلَى أْشَجَارِ الْفَوَاكِهِ وَالنَّخِيلِ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرَّحمن: 68].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَكَرَانِيفُهَا –أَيْ: كَرَبُهَا- ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهَا عَجْمٌ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
فَمَنْ أَحَبَّ نَخِيلَ الدُّنْيَا وَأَشْجَارَهَا وَخُضْرَتَهَا وَظِلَّهَا وَثَمَرَهَا، فَغَرَسَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ، أَوْ مَزْرَعَتِهِ، وَتَمَتَّعَ بِجَمَالِهَا، وَتَفَيَّأَ ظِلَالَهَا، وَتَلَذَّذَ بِثَمَرِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْجَنَّةَ وَأَشْجَارَهَا وَظِلَالَهَا وَثَمَرَهَا، وَأَنْوَاعَ النَّعِيمِ فِيهَا، فَيَعْمَلَ لَهَا، وَيَجِدَّ فِي طَلَبِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنَعِّمَنَا بِأَشْجَارِ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَأَهْلِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَمَنْ أَحْبَبْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ، حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ جَزَاءَ التَّقْوَى رِضْوَانٌ مِنَ الله تَعَالَى وَجَنَّاتٌ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَدْ يَشْتَهِي بَعْضُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يُبَاشِرَ الزَّرْعَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَشْتَهِي أَمَامَهُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَإِذَا أَرَادَ المُؤْمِنُ أَنْ يَغْرِسَ أَشْجَارَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالذِّكْرِ؛ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُ الْجَنَّةِ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
إِنَّهَا وَصِيَّةُ أَبِينَا الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّاصِحِ لَنَا، نَقَلَهَا إِلَيْنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ المُشْفِقُ عَلَيْنَا، يُخْبِرُنَا فِيهَا بِطِيبِ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَيُعَلِّمُنَا أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُهَا.
وَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟» قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
ذَلِكُمْ -عِبَادَ اللهِ- شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ وَشَجَرِهَا، لَعَلَّ قُلُوبَنَا تَلِينُ مِنْ قَسْوَتِهَا، وَتَتَنَبَّهُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَتَشْتَاقُ إِلَى جَنَّةِ رَبِّهَا، فَتَجِدُّ فِي الْعَمَلِ لَهَا وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهَا، وَتُبَاعِدُ عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبَسَاتِينِهَا وَأَشْجَارِهَا وَخُضْرَتِهَا وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ فِيهَا.
﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 41 - 44].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تُرْبَةُ الجَنَّةِ وَأَشْجَارُهَا
11/6/1435
الْحَمْدُ لله الْجَوَّادِ الْكَرِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ جَعَلَ الْجَنَّةَ دَارَ المُتَّقِينَ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا بِالْحُورِ الْعِينِ، وَكَمَّلَهَا بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزُّخرف: 71]، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيلِ مِنَنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَعَدَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِنَعِيمٍ مُقِيمٍ، وَمُلْكٍ كَبِيرٍ، لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: 20]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّة وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَإِتْبَاعِ الْعِلْمِ الْعَمَلَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ، وَلَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ مِنْهَا إِلَّا مَا عَمِلَ فِيهَا، وَإِنَّ تَقْوَى الله تَعَالَى طَرِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62 - 64].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْحَدِيثُ عَنِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ، تُحِبُّهُ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَرْوِحُ بِهِ أَنْفُسُ المُتَّقِينَ، وَيُزِيلُ كُرُوبَ المَهْمُومِينَ، وَيَزِيدُ يَقِينَ المُوقِنِينَ، وَيَشُدُّ صَبْرَ الصَّابِرِينَ.
إِنَّهُ عُدَّةُ المُؤْمِنِينَ فِي ابْتِلَاءَاتِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَفِي السَّرَّاءِ لَا يَغْتَرُّ وَلَا يَبْطَرُ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ دَارًا لَا يَدْخُلُهَا أَهْلُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَفِي الضَّرَّاءِ لَا يَجْزَعُ لعِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ نِهَايَةَ المَطَافِ؛ فَثَمَّةَ قَبْرٌ وَبَعْثٌ وَحِسَابٌ وَجَزَاءٌ.
إِنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ دَارٍ لَا دَارَ مِثْلُهَا، وَعَنْ نَعِيمٍ لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ الْآذَانُ، وَلَا يَرِدُ فِي الْخَيَالِ، فَمَهْمَا جَالَ الْعَبْدُ بِفِكْرِهِ فِي نَعِيمٍ يَتَمَنَّاهُ، وَلَذَّةٍ يَطْلُبُهَا، وَسَعَادَةٍ يَنْشُدُهَا؛ فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَكْبَرُ مِمَّا تَخَيَّلَ وَمِمَّا تَمَنَّى.
وَالْحَدِيثُ عَنِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ ذُو شُجُونٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ. وَفِي الْجَنَّةِ تُرْبَةٌ وَأَشْجَارٌ وَظِلَالٌ، فَمَا تُرْبَتُهَا؟ وَمَا أَشْجَارُهَا؟ وَمَا طُولُ ظِلَالِهَا؟ كُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِيَشْتَاقَ قَارِئُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمُسْتَمِعُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَعْمَلَ بِمَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا، وَيَجْتَنِبَ مَا يُبَاعِدُهُ عَنْهَا.
وَتُرْبَةُ الْجَنَّةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الطِّيبِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ: أَنَّهَا فِي الْبَيَاضِ دَرْمَكَةٌ، وَفِي الطِّيبِ مِسْكٌ، وَالدَّرْمَكُ هُوَ الدَّقِيقُ الْحَوَارِيُّ الْخَالِصُ الْبَيَاضِ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَاشْتَاقَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمًا إِلَى حَدِيثِ الْجَنَّةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ فِي ظِلَالِهَا ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: 56]، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ [المرسلات: 41].
وَظِلَالُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ حَجْمِهِ، وَظِلَالُ الْجَنَّةِ مُتَّسِعَةٌ لِعِظَمِ أَشْجَارِهَا وَضَخَامَتِهَا، وَمَا سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ جَنَّةً إِلَّا لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا، وَاشْتِدَادِ خُضْرَتِهَا، وَمِنْ شَجَرِهَا السِّدْرُ وَالطَّلْحُ، وَثَمَرُهَا فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ ثَمَرٍ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ أَيْ: لَا شَوْكَ فِيهِ ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ [الواقعة: 28 - 29] أَيْ: صُفَّتْ فِيهِ الثِّمَارُ الطَّيِّبَةُ.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ... أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرُ؛ فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ [الواقعة: 28] يَخْضِدُ اللهُ شَوْكَهُ فَيُجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةٌ، فَإِنَّهَا تُنْبِتُ ثَمَرًا، تُفْتَقُ الثَّمَرَةُ مَعَهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا، مَا مِنْهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا كَانَ السِّدْرُ الَّذِي فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يُثْمِرُ إِلَّا ثَمَرَةً ضَعِيفَةً، وَهَى النَّبْقُ، وَفِيهِ شَوْكٌ كَثِيرٌ، وَالطَّلْحُ الَّذِي لَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الظِّلُّ فِي الدُّنْيَا، يَكُونَانِ فِي الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ كَثْرَةِ الثِّمَارِ وَحُسْنِهَا، حَتَّى إِنَّ الثَّمَرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَتَفَتَّقُ عَنْ سَبْعِينَ نَوْعًا مِنَ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ الَّتِي لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَمَا الظَّنُّ بِثِمَارِ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةَ الثِّمَارِ، طَيِّبَةَ الرَّائِحَةِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ»اهـ.
وَدُونَكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- هَذَا الْحَدِيثَ الْعَجِيبَ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لاَ يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30]» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَهُمَا «إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا»
وَالجَوَادُ المُضَمَّرُ: هُوَ الَّذِي حُبِسَ عَنْهُ الطَّعَامُ لِيَشْتَدَّ جَرْيُهُ.
يَا لِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَظَمَةِ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ! إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْوَاحِدَةَ فِيهَا، وَبِحِسَابِ سُرْعَةِ الْخَيلِ فِي مِائَةِ عَامٍ تُظَلِّلُ مَسَاحَةً بِحَجْمِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ آلَافِ مَرَّةٍ عَلَى الْأَقَلِّ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ تَهْرَمُ الْجَذَعَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ تَسِيرُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، فَلَا تُحِيطُ بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى»، فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: «لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ». فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَتَيْتَ الشَّامَ؟» فَقَالَ: لَا، قَالَ: «تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ تُدْعَى الْجَوْزَةُ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا»، قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ: «لَوْ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةٌ مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ، مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا»، قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: «مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَلَا يَفْتُرُ»، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْحَبَّةِ؟ قَالَ: «هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ، قَالَ: اتَّخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: «نَعَمْ وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ الْحَبَّةَ مِنَ الْعِنَبِ كَأَعْظَمِ دَلْوٍ.
وَأَشْهَرُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ: سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَجَاءَ وَصْفُهَا فِي السُّنَّةِ بِمَا يَأْخُذُ الْأَلْبَابَ؛ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلاَلُ هَجَرَ- يُرِيدُ: أَنَّ ثَمَرَهَا فِي الْكُبْرِ مِثْلُ الْقِلَالِ- وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ». وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ..»، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: «فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَهَا تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا».
فَلْنَتَخَيَّلْ شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، وَقَدْ غَشِيَهَا مِنْ نُورِ اللهِ تَعَالَى مَا زَادَهَا حُسْنًا عَلَى حُسْنِهَا، وَثِمَارُهَا كَالْقِلَالِ الْكَبِيرَةِ. فَمَا حَجْمُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ وَمَا مَسَاحَةُ ظِلِّهَا؟ وَمَا مِقْدَارُ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا؟
إِنَّهَا لَا تُوصَفُ، وَقَدْ قَالَ مَنْ رَآهَا ﷺ: «فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا».
إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ جَنَّتَيْنِ مِنْ جَنَّاتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ [الرَّحمن: 48]؛ أَيْ: أَغْصَانٍ نَضِرَة حَسَنَةٍ، تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ نَضِيجَةٍ فَائِقَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ.
وَوَصَفَ جَنَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِأَنَّهُمَا ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرَّحمن: 64]، وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّهْمَةِ، وَهِيَ لَوْنُ السَّوَادِ، وَهو مُبَالَغَةٌ فِي شِدَّةِ خُضْرَةِ أَشْجَارِهِمَا، حَتَّى تَكُونَا بِالْتِفَافِ أَشْجَارِهَا وَقُوَّةِ خُضْرَتِهَا كَالسَّوْدَاوَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ إِذَا كَانَ رَيَّانَ اشْتَدَّتْ خُضْرَةُ أَوْرَاقِهِ حَتَّى تَقْرُبَ مِنَ السَّوَادِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ احْتِوَاءِ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ عَلَى أْشَجَارِ الْفَوَاكِهِ وَالنَّخِيلِ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرَّحمن: 68].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَكَرَانِيفُهَا –أَيْ: كَرَبُهَا- ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهَا عَجْمٌ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
فَمَنْ أَحَبَّ نَخِيلَ الدُّنْيَا وَأَشْجَارَهَا وَخُضْرَتَهَا وَظِلَّهَا وَثَمَرَهَا، فَغَرَسَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ، أَوْ مَزْرَعَتِهِ، وَتَمَتَّعَ بِجَمَالِهَا، وَتَفَيَّأَ ظِلَالَهَا، وَتَلَذَّذَ بِثَمَرِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْجَنَّةَ وَأَشْجَارَهَا وَظِلَالَهَا وَثَمَرَهَا، وَأَنْوَاعَ النَّعِيمِ فِيهَا، فَيَعْمَلَ لَهَا، وَيَجِدَّ فِي طَلَبِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنَعِّمَنَا بِأَشْجَارِ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَأَهْلِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَمَنْ أَحْبَبْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ، حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ جَزَاءَ التَّقْوَى رِضْوَانٌ مِنَ الله تَعَالَى وَجَنَّاتٌ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَدْ يَشْتَهِي بَعْضُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يُبَاشِرَ الزَّرْعَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَشْتَهِي أَمَامَهُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَإِذَا أَرَادَ المُؤْمِنُ أَنْ يَغْرِسَ أَشْجَارَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالذِّكْرِ؛ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُ الْجَنَّةِ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
إِنَّهَا وَصِيَّةُ أَبِينَا الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّاصِحِ لَنَا، نَقَلَهَا إِلَيْنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ المُشْفِقُ عَلَيْنَا، يُخْبِرُنَا فِيهَا بِطِيبِ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَيُعَلِّمُنَا أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُهَا.
وَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟» قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
ذَلِكُمْ -عِبَادَ اللهِ- شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ وَشَجَرِهَا، لَعَلَّ قُلُوبَنَا تَلِينُ مِنْ قَسْوَتِهَا، وَتَتَنَبَّهُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَتَشْتَاقُ إِلَى جَنَّةِ رَبِّهَا، فَتَجِدُّ فِي الْعَمَلِ لَهَا وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهَا، وَتُبَاعِدُ عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبَسَاتِينِهَا وَأَشْجَارِهَا وَخُضْرَتِهَا وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ فِيهَا.
﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 41 - 44].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
جنة الخلد 5.doc
جنة الخلد 5.doc
جَنَّةُ الخُلْدِ 5.doc
جَنَّةُ الخُلْدِ 5.doc
المشاهدات 4509 | التعليقات 7
إبراهيم بن محمد الحقيل;21291 wrote:
وَدُونَكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- هَذَا الْحَدِيثَ الْعَجِيبَ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لاَ يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30]» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَهُمَا «إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا»
وَالجَوَادُ المُضَمَّرُ: هُوَ الَّذِي حُبِسَ عَنْهُ الطَّعَامُ لِيَشْتَدَّ جَرْيُهُ.
يَا لِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَظَمَةِ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ! إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْوَاحِدَةَ فِيهَا، وَبِحِسَابِ سُرْعَةِ الْخَيلِ فِي مِائَةِ عَامٍ تُظَلِّلُ مَسَاحَةً بِحَجْمِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ آلَافِ مَرَّةٍ عَلَى الْأَقَلِّ.
الله أكبر !
سألت مرة أحد الزملاء المهتمين بالفروسية عن سرعة الخيل فقال : تصل إلى 85 كم في الساعة .
وعليه ؛ فلو كانت سريعته 85 كم فإنه سيقطع في يوم وليلة (2040)كم
85*24= 2040 .
وإذا ضربنا مسيرة اليوم والليلة في عام واحد فستكون (734,400) كم
2040*360= 734,400 .
وفي مائة عام ( 73,440,000 )كم
734,400*100 = 73,440,000
فظل شجرة واحدة قد يكون طوله أكثر من ثلاثة وسبعين مليون كم .
فالله أكبر والله أعلم .
اللهم اجعلني ووالدي وإخواننا في هذا الملتقى وأحبابنا وأرحامنا من أهل جنتك ، اللهم عاملنا بفضلك يا ذا الجلال والإكرام وارزقنا وإياهم فردوس جنتك .
وزادك الله من فضله يا شيخ إبراهيم .
اللهم آمين
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
شكر الله تعالى لك شيخ شبيب مرورك ودعاءك نفع الله تعالى بك
ربي جزاك الفردوس الأعلى
واشوقاه إلى الجنة!!
جمعنا الله وإياكم يا شيخ إبراهيم والقارئين من أعضاء وزوار، في جنة الخلد..
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
تعديل التعليق